وانفجرت باكيا، فتوثبت طيبته، قال: «لماذا ترسلني إلى الشيطان يا بني؟ ... إنني أشعر حقا بالشفقة نحوك، وأريد عونك في محنتك.» - دعوني لحالي، أنتم جميع الرجال بشفقتكم وقلبكم، لقد قاسيت منهما الكثير وأريد أن أموت وحدي. - أوه! البائس ... في هذه السن الصغيرة، وقد تقزز من الحياة! ولكن اشرب مع ذلك هذا الكوب من السحلب الدافئ، فإنه سيرد إليك شيئا من القوة.
وقلبت كأس السحلب، ولكني لم أستطع تكوين رأي، فأية قاعدة أو أي فهم يمكن أن أستخلصه من هذه التجربة القصيرة، عندما أذكر أن كثيرا من الرجال الذين بدءوا بالتظاهر بالطيبة والكرم، قد تكشفوا في النهاية عن أنذال مجرمين؟ نعم، في سن السادسة عشرة كنت قد عرفت حقارة النفس البشرية، وإن لم أعرف كل شيء.
لم أعرف بوجه خاص أن أعمال الخليقة بالغة التعقيد والتنوع، وأن ألف دناءة نعانيها لا تعطينا الحق في أن نبصق على الإنسانية كلها، والله نفسه قد أدرك ذلك عندما غضب من الإنسانية المخطئة؛ فقرر أن يعاقبها دون أن يستأصلها، ما دام قد أنقذ من الكارثة نبيا عادلا وأسرته، وإذا كانت الإنسانية التي عاشت بعد الطوفان لم تكن خيرا من الإنسانية السابقة، فإنها لا تتحمل مسئولية ذلك، إذ إن الله «مثلي في السادسة عشرة» لم يحسن فهم العالم، ولم يعرف ماذا يفعل.
ولقد عرفت أنا منذ اليوم الذي أرسل لي فيه القدر بربايني بائع السحلب ذا النفس القدسية، أن الرجل الذي تتاح له فرصة الالتقاء في حياته بمثل بربايني يجب أن يعتبر نفسه سعيدا، وإن كنت لم ألتق قط من هذا النوع إلا به وحده، ولكن كان فيه الكفاية لتحمل الحياة، بل ومباركتها أحيانا كثيرة، والتغني بالثناء عليها؛ وذلك لأن طيبة رجل واحد أقوى من شرور ألف، فالشر يموت في نفس الوقت الذي يموت فيه فاعله، بينما يظل الخير يشرق بعد اختفاء الرجل العادل الذي فعله.
اضطررت إلى التسليم، وعلم بائع السحلب رسول العناية الإلهية المأساة كلها، وكان علاجه سريعا كالبرق.
قال لي - مستخدما في حذر اسمي المنتحل بعد أن صاغ منه تصغيرا: «ستاوراكي! يجب أولا أن تقلع عن البحث عن أختك بهذه الطريقة غير الحكيمة، واعلم أنه من الأسهل أن تنتزع ظبية من فم النمر، عن أن تنتزع امرأة محبوسة في الحريم، وإذا استطعت أن تتغلب على هذا الضعف العاطفي، فإن ما عدا ذلك يعتبر في منتهى السهولة، فأنت تملك ثلاثة جنيهات مجيدية، فهذا المبلغ من المال يكفي لكي تشتري إبريقا للسحلب وأكوابا، أي ما تراه بين يدي، وهو الذي يمكنني من أن أعيش حرا منذ عشرين سنة، وبعد ذلك تحمل الإبريق على ذراع والسلة على الآخر، وباربايني إلى جوارك، وسنذهب في مرح نجوب الطرقات والميادين والأعياد والأسواق، ونصيح - في بهجة: «سحلب! ... سحلب! ... سحلب! ... ها هو السحلب اللذيذ! وستفتح أمامك أرض المشرق واسعة حرة! نعم حرة؛ لأنهم مهما قيل عن الاستبداد في الأرض التركية، فإنه ليست هناك أرض يستطيع أن يعيش فيها الإنسان بحرية أكبر، ولكن على شرط: هو أن تمحو نفسك وأن تختفي بين الجموع، ولا تلفت إليك الأنظار بأي شيء، وأن تكون أصم أبكم، وعندئذ فقط تستطيع أن تدخل في كل مكان غير مرئي، والأبواب المغلقة لا تفتح إلا لمن يقتحمهما.»
ولم يكد يأتي اليوم التالي حتى كنت أحمل بين ذراعي الإبريق وسلة الأكواب، وأصيح في شجاعة إلى جوار باربايني: «سحلب ... سحلب لذيذ»، وعرفت عندئذ الطريقة التي يمكن أن يدخل بها في الكمر، ذلك الصديق الخائن، الذي لا قلب له، والذي تركه من قبل.
فالنقود تتساقط من كل ناحية، ودخلت الحرية في كيسي، وعند هبوط المساء تذوقت سعادة الرجل الذي يستطيع أن يعيش دون أن تمتلئ جيوبه بالذهب، وعند تدخين نرجيلتنا في إحدى الشرفات، أخذت أتشرب الطيبة التي تشع من شخص باربايني كله، لقد كنت معترفا له بالجميل وأحببته كما يحب الإنسان أبا طيبا وصديقا، وأقمت عنده وعملت معه، وكنا نتناول طعامنا معا، وأوقات تسكعنا نتذوقها معا، وهكذا أصبحنا لا نفترق، ولم تلبث صداقة قوية أن ربطتنا بأن غرست الغصن الصغير في جذع الشجرة الناضجة.
بل وسبق باربايني حب استطلاعي بأن كشف لي عن ماضيه الذي لم يكن خاليا من الهنات، بل من المرارة.
كان يعمل مدرسا في مدينة صغيرة ببلاد اليونان، وارتكب غلطة عاطفية حكم عليه بسببها بسنتين من السجن وفقد وظيفته، وعند خروجه من السجن ترك المدينة لكي يجوب عدة مدن أخرى، اشتغل فيها بالتجارة، وقاسى محنا وعقد صداقات، ودمي قلبه، وكادت مغامرة غرامية أخرى أن تقضي على حياته، وعندئذ عبر إلى آسيا الصغرى وعاش في الوحدة والاستقلال، بل وفي الحكمة تقريبا.
Bog aan la aqoon