رصاصة أخرى أصابت واحدا آخر، كان يقف أمامي مباشرة، ثم تهاوى على الأرض كبالون مثقوب، تقدمت ناحيته زحفا بسرعة، وسحبته من يده خلف كومة من الأحجار.
الرصاص يقعقع فوق رءوسنا حتى أضاء الليل، وأصوات متداخلة تصدم أذني، صراخ، شتائم، بكاء.
يداي تتحركان بسرعة وثبات، أتصرف كشيء آلي، الفرق بين الموت والحياة جزء من الثانية، وأي وقت أضيعه في التردد يكلف حياة أخرى، مزقت قميصه من على صدره بسرعة، الدم يغلي ويتدفق بغزارة من ثقب قبيح في صدره، مكان القلب، كومت جزء من قميصه ككمادة لأوقف النزيف، ومزقت المتبقي منه بأسناني لأصنع رباطا بدائيا وأنا أنظر حولي في سرعة بحثا عن المصاب التالي، طعم الدم في فمي مالح وحذق، عقلي حاد متوثب، وقلبي يخفق بجنون.
كان يمسك بمعصمي بقوة بيده الملوثة بالدماء، وهو يحاول قول شيء ما، قربت أذني منه، لكن قواه خانته، فخرج صوته فحيحا هامسا طويلا هو آخر نفس يغادره، تراخت قبضته حول معصمي، وفاضت روحه إلى بارئها.
لا وقت للحزن، لا وقت للبكاء، طويت اللحظة خلفي في لمح البصر، كما طويت سنواتي السابقة، عقلي سلاح حاد متوثب، يعالج المعلومات ويتعامل مع الوقائع بصرامة.
أسبلت عينيه بأطراف أصابعي، وقفزت ناحية شاب آخر ملقى على الأرض منكفئ على وجهه، قلبته على ظهره وتحسست النبض في عنقه، كان ميتا، أصيب برصاصتين في الرأس والصدر، الملاعين يطلقون الرصاص بقصد القتل مباشرة.
علم الثوار بمحاولة اقتحام الترس، فتدافعوا من ساحة الاعتصام ليؤازروا إخوانهم المرابطين فيه، يصرخ أحدهم زاعقا: «الترس ده ما بنشال، الترس وراهو رجال.» تتعالى الصرخات الحماسية ويرددون الهتاف من خلفه، بينما يتطايير الرصاص من فوقنا كالمطر.
أتلفت حولي وعيناي تدوران في محجريهما في جنون، أين بقية المصابون؟ سمعت صوت الأنين بجواري فهرعت ناحيته زحفا على ركبتي، كان صبيا صغير السن، من النظرة الأولى قدرت أنه دون العشرين، يئن من بين أسنانه وهو مستلق على ظهره، بحثت في جسده بسرعة حتى وجدت مصدر النزيف، كان قد أصيب برصاصة في ساقه، لكن الرصاصة لم تستقر في جسده ولم يكن الجرح عميقا لحسن الحظ، بحثت في جيوبي بسرعة، أخرجت القفازات المطاطية، مزقتهما وربطتهما مع بعضهما في شكل ضمادة بلاستيكية وضعتها مكان الجرح وطلبت منه أن يضغط عليها، مزقت كم قميصي والتفت خلفي.
ما رأيته في ذلك المكان، وفي تلك اللحظات بالتحديد، كان شيئا لا يصدق.
استمات الثوار في الدفاع عن الترس بشجاعة منقطعة النظير، برغم وابل النيران الذي انفتح عليهم كالجحيم، كان هؤلاء يواجهون نيران الآلة العسكرية بصدورهم العارية وأصوات هتافاتهم فقط، يتقوون ببعضهم البعض ويندفعون أمام الجنود ويقذفونهم بالحجارة في بسالة محيرة حتى أربكوا الغزاة، وقد نجحوا فعليا في تأخير اقتحام المكان وجعل الاقتحام أكثر صعوبة للقوات المعتدية، يسقط أحدهم فيقفز مكانه ثائر آخر، يحمل الأحجار والمتناثر من الحطام، ليدعم به ما انقض من الترس المنتصب في وجه الجند، بينما يزحف آخرون على بطونهم لسحب وإنقاذ المصابين منهم والتقهقر بهم للوراء ليحل مكانهم المزيد، يصرخ أحدهم «الترس ده ما بنشال، الترس وراهو رجال.» فيتردد الهتاف الحماسي من خلفه بصوت عال، يتلقفه الآلاف في ساحة الاعتصام فيرددونه في هدير هائل يهز الأرض فعليا.
Bog aan la aqoon