ليس بين البنت وأمها سر كما يقولون، فلما عرفت أختي سبب رفض أبيها خطبتها، أحزنها ذلك حزنا بدا أثره في صحتها؛ لأنها كانت معتزة بما تناله أمها من ريع الوقف، مقتنعة بأنها تستطيع أن تعيش منه مع قريبها عيش سعة، جاهلة أن هذا الوقف مآله إلى غير أمها وغيرها، وأنها ستكون عبئا على أبيها إذا أصبح لخالها وارث يحرم أمها من الاستحقاق. فإن لم يعنها أبوها يومئذ اضطرت لعيش ضنك مع قريبنا. وهذا ما لم يرضه أبوها فلم يقبل الخطبة!
وأدى تردد خال أختي علينا منذ طفولتي إلى انفصال المودة بيني وبينه، فلما انتقلت من الصبا إلى الشباب، بدأت أشعر نحوه بعاطفة جديدة وبدأت أرى في عينيه وهجا دلني على أنه يحبني كما أحبه!
وأخذت هذه العاطفة تقوى في نفسينا حتى صارت غراما عارما، وحتى كنت أود، حين أرى الشاب مقبلا علينا، لو أطير إليه وأتعلق بعنقه وأوسعه تقبيلا، لولا الحياء الذي كان يمسكني مكاني، ويدفع حمرة الخجل إلى وجناتي!
وتسامع من في البيت جميعا، بأن هذا الشاب الغني الرقيق الجميل، يريد أن يخطبني إلى أبي، فكانوا يهنئونني سلفا، ويرجون لي في هذا الزواج سعادة وارفة الظل، وبنين يضاعفون هذه السعادة!
وكانت أختي لأبي كثيرة التوعك في هذه الفترة، وكثيرا ما كانت تلزم سريرها، فكان والدي يكثر التردد عليها، والتودد إليها، ومعاملتها أرق المعاملة. أليسوا يقولون: «أحب ولدك إليك الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يحضر، والمريض حتى يشفى»؟!
وكانت لي غرفة تجاور غرفة أختى، وإني لجالسة في غرفتي هذه يوما، وأختي معتكفة في سريرها، إذ سمعتها تقول لأبينا: أصحيح أن خالي سيتزوج أختي، فإذا أنجبت منه غلاما انتقل الوقف له، فأصبحنا نحن فقراء، وأصبحوا هم الأغنياء؟
وسكتت برهة ثم قالت: «أوترضى أنت عن هذا يا أبي؟» وأجابها أبوها: «اطمئني يا عزيزتي، لم يحصل شيء من هذا، ولن يحصل!»
لم أكن إلى تلك اللحظة، أفهم شيئا عن موضوع هذا الوقف، وشروطه، وكل الذي كنت أفهمه أن أبي يريد أملاكا واسعة، وأن امرأة أبي تنفق عن سعة، لا تعرف أمي، ولا نعرف نحن أبناءها، شيئا من مثلها. وأن هذا الخال الذي يحبني من كل قلبه، كما أحبه من كل قلبي، كان يستمتع من إيراد هذه الأملاك بالنصيب الأوفى!
فلما سمعت ما قالته أختي، وما أجابها به أبي، أسرعت إلى والدتي، فقصصت عليها ما سمعت. فلما فرغت من حديثي رأيتها اضطربت، وتولاها الانزعاج، وقالت: تعسا لامرأة أبيك! فما كانت أختك تعرف شيئا مما قالته لأبيها، وما كانت لتجرؤ على ذكره له لولا أن أمها دفعتها إلى ذلك وحرضتها عليه. وهذه هي الطيبة التي تتظاهر بها، والسذاجة التي تريد أن يفهمها الناس عنها. أولو تزوج أخوها غيرك، ولم يتزوجك، أيسرها ويسر أباك أن نتساوى نحن وإياهم في الفقر؟ ومع ذلك فإن هذا الخال يحبك فلا تخشي شيئا!
وأقسم صادقة، إنني لم أكن أفكر في هذا المال الذي يتحدثون عنه، ولم أفكر فيه بعد الكلام الذي سمعته من أمي، بل كان كل تفكيري في هذا الشاب الوسيم الحبيب، الذي ملك كل عواطفي، وكل حياتي، فكنت إذا رأيته، تحركت بعنف في فؤادي كل الإحساسات الرقيقة القاسية التي تعبر عنها كلمة الحب. ثم تزداد هذه الإحساسات عنفا حين أرى في عينيه وهج الغرام، وفي كلماته العذبة التي يبادلني إياها، ما يملأ نفسه من هيام بي، يسمو بنا كلينا إلى أرق أجواء الهوى والنعيم!
Bog aan la aqoon