قالت الزوجة: أنت تعلم أننا معشر الأمهات قل أن يكون لنا في مثل هذا الأمر رأي، فأما الرأي كله فللآباء، وقد ذكرت لخالك حين أنبأني أمس بحديث أسعد بك كلامك معي منذ أشهر في شأن عزة. فقال: أوتريدين أن تميلي بخت ابنتك لعبارة طارئة كالتي أفضى بها إليك فريد؟ وهل تطمعين في أن يخطب بناتنا خير من أولاد أسعد بك، وهم من هم ثراء وتربية وعلما؟!
وماذا تريدينني أن أقول للرجل؟ أأقول له: إنني أقبل خطبة كبرى البنتين ولا أقبل خطبة أختها؛ لأن عزة تحب ابن عمتها؟ أوتحسبينه يرضى بعد ذلك أن يصاهرنا؟ أم ترينه يحسب أن تربية بناتنا سيئة لأنهما يعرفان الحب؟ وعند ذلك ينصرف عنا، تاركا للناس أن يقولوا فينا ما يشاءون. كلا! لن أقبل هذا الوضع لنفسي ولا لبناتي، وسأزوجهما من هذين الخطيبين الكريمين، فأنا المسئول عنهما وعن مستقبلهما، وأرجو منك ألا تخاطبيني في هذا الأمر مرة أخرى!
وأضافت أم عزة، في لهجة رقيقة تواسي بها فريدا: وأنت يا بني، لا ريب تفرح لما يناله أختاك من خير، وأنا أعرف لك عروسا أجمل من عزة، ستحبها ساعة تراها، فلا تبتئس، ولا يأخذ الضيق عليك مسالك نفسك!
وانصرف فريد كاسف البال آسفا، وخيل إليه أن باب هذا البيت يوشك أن يوصد دونه، فهو يعلم أن خاله رجل عنيف، وأنه إن خاطبه في أمر عزة، بعد أن خطبها أسعد بك لابنه، رده أقبح رد فأدى ذلك إلى القطيعة بينهما، وقد يؤدي إلى ألا يرى عزة بعد ذلك ما عاش! •••
ودعا الأب ابنتيه، وقبلهما، وبارك لهما على خطبتهما لابني أسعد بك ... أما الكبرى فقبلت أباها كما قبلها، وافتر ثغرها عن ابتسامة المسرة والرضا. فأما عزة، فانهملت من عينيها دمعة حارة لدى سماعها هذا النبأ. وبعد برهة انسحبت من البهو الذي يجلسون فيه إلى غرفتها وأسلمت نفسها للبكاء، وخيل إليها أن أباها يبيعها، كما كانت تباع الإماء في سوق الرقيق، وأن القدر كتب عليها أن تكون بائسة طوال حياتها، لكنها كانت موقنة أنها لن تستطيع لقرار أبيها نقضا، ولن تستطيع عليه ثورة. فأبوها لا يقبل أن تعارضه زوجه، أو تعارضه إحدى ابنتيه، بل يرى في أية معارضة له عقوقا وخروجا على ما أدب أسرته به من أنه السيد المطاع، وأنهن جميعا له تبع!
ودخلت عليها أمها وهي في بكائها وحزنها، وحاولت أن تقنعها بأن أباها أعلى منهن رأيا، وأبعد نظرا، وأنه أحرص على مستقبلهن من أنفسهن، فلا مفر لهن من قبول قضائه بالتسليم والرضا!
ولم تجب عزة بكلمة، ولم تنبس ببنت شفة. فلم يكن في مقدورها أن تتكلم والعبرات تخنقها، والهم قد جفف حلقها وأعجزها عن النطق!
وخرجت أمها بعد زمن حيرى، وكل الذي دار بخاطرها أن حزن ابنتها طارئ لن يلبث عطفها أن يغرقه، ثم تغرقه هدايا خطيبها، ويغرقه بعد ذلك جهازها وفرح زواجها، وانتقالها إلى حياتها الجديدة!
لكن هذا الرجاء الذي خالج نفس الأم، وهون عليها حيرتها، لم يتحقق. فقد تشبث الهم بنفس عزة، وركبها حزن محا عن ثغرها ابتسامته، ولم يخفف منه ما كان خطيبها يبعث به إليها الحين بعد الحين من نفيس الهدايا. لقد شعرت بأنها كم مهمل، وبأن عواطفها ووجودها وحياتها لا رأي لها فيها، ولا قيمة لها عند أبيها. ورأت إلى ذلك أنها لا تستطيع أن تعترض أو تثور، فاحتقرت الحياة وما فيها، وانصرفت عن كل نعمائها، مكتفية بأن تلوك شجاها وهمها وليلها ونهارها! وأدى ذلك إلى فقد شهيتها للطعام، وإلى ذبول نضارتها، وإلى تسرب المرض إلى نفسها ثم إلى جسمها، من غير أن يشعر بذلك المرض أحد! •••
كانت الأسرة كلها في شغل بالمصاهرة الجديدة، وبالهدايا الثمينة المتعاقبة، وبالحديث عن يوم الزفاف وما يكون فيه، وبهذا الجهاز القيم الذي كان الأب ينفق في اختياره ساعات من كل يوم، ولا يفكر مع ذلك في اصطحاب ابنتيه ليرياه أو يريا منه شيئا. إنه مطمئن إلى حسن ذوقه، ودقيق اختياره، وإلى أنه لا يجوز أن يكون وراء رأيه معقب!
Bog aan la aqoon