قال عارف: كان عمي يزوج ابنته، منذ سبعة عشر عاما، وقد أقام أهل العروس أكثر من شهر، يحيون لهذه المناسبة ليالي تفريح وأنس، لم تكن إحداها تفوتني، وكانت تشترك في إحياء هذه الليالي فتاة عرفها أصدقاؤنا من بعد بأنها زوجتي. وكانت هذه الفتاة بارعة الجمال، رشيقة القد، حلوة النظرات، تتقن الرقص كأحسن ما تتقنه راقصة صناع محترفة، وقد جذبتني نظراتها إليها، كما جذبني هذا الجسم اللدن، الذي يميس حين رقصها، في خفة حركة ودقة نظام، حتى يكاد يذهب باللب. وكنت إذ ذاك طالبا بالجامعة، وكان أهلي يعلقون على نجاحي وحصولي على درجاتها أعظم الأماني. وكنت أقدر هذا، وأطمع في إرضائهم، فكنت شديد الإكباب على دارستي، حريصا على اتصال نجاحي، فلما عرفت هذه الفتاة، وكانت تحضر مع أمها، بدأت أشعر بأن في الحياة شيئا غير الدراسة، وغير الجامعة، وغير الدرجات العلمية، شيئا يمس القلب، بل يعبث به. وشجعني ذلك على الاتصال بالفتاة، ثم على رفع الكلفة معها، كما شجعني عليه ما كان أهلي يذكرونه عن أصلها وأنها من منبت وضيع. لذلك كنت ألقاها كل مساء قبيل حضورها إلى حفلة عمي، ثم كنت أحرص على أن أصحبها وأمها إلى منزلهما المتواضع إذا انتهت الحفلة بعد منتصف الليل.
وكانت الفتاة تصب في قلبي من نظراتها، ومن ابتساماتها، ومن حديثها، ما يزيدني إعجابا بها، وبحركات جسمها حين ترقص، وبرشاقتها في مشيتها، حتى لقد كنت أتصور هذه الحركات وهذه المشية أنغاما كأنغام الموسيقى، أو أكثر حلاوة وحياة من أنغام الموسيقى، لذلك وقع حبها في قلبي، فأنستني كل ما سواها، وخيل إلي من نظراتها ومن حديثها يومئذ، أن لي مكانا في قلبها كالمكان الذي لها في قلبي.
وكيف أشك في ذلك، وهي تبدي لي من صادق الحب ما أشعر به في أعماق وجودي، وما يهتز له كل عصب من أعصاب فؤادي؟!
ولم يزعزع هذا الإيمان بحبها في نفسي ما كنت ألاحظه عليها أحيانا من التلطف مع قريب لي، كان حريصا على حضور هذه الليالي في بيت عمي، مثل حرصي على حضورها، بل لم أصدق ما روته لي أختي من أنها سمعتها تقول لقريبي هذا: لو كان عندك من المال ما عنده لأصفيتك ودي دونه، فأنت أحب إلي منه، لكنك لا تستطيع الإنفاق كما ينفق، فلا تزعجني بإلحاحك، ولا فائدة لي منك!
صدق هذا الكلام، وحسبت أن أختي تذكره بإيعاز من والدتها، بعد أن لاحظت انصرافي عن دروسي، ولاحظت تأخري في العودة إلى المنزل إلى ما بعد منتصف الليل في كثير من الأحيان.
واطمأنت الفتاة إلى هيامي بها، فجعلت تسكب من عواطفها في قلبي ما يزيد حبي لها ضراما، لكنني لاحظت بعد حين، أنها بدأت تتحفظ معي حين انفرادنا، فإذا حاولت أن أقبلها، أبت وقالت: أنت تعلم أن أهلك لن يقبلوا أن نتزوج، فأنتم تنظرون إلينا على أننا من طبقة دون طبقتكم، ولا تتصورون أن الحب يزيل الفوارق بين الطبقات، إنني أحبك، بل أعبدك، وأعتقد أنك تبادلني مثل هذه العاطفة، وأنت لا ترضى لمن تحبها أن تفقد شرفها، والقبلة مقدمة للزواج أو للضياع. فهبني قبلتك وقبلتني فماذا يكون بعد ذلك؟ إنني فتاة شريفة، وأنا لا أحيي حفلات للرقص كما قد تتوهم، ولولا مودتنا مع بيت عمك، ولطفهم ورقتهم معنا، ما رأيتني قط أرقص. فلنقف بحبنا عند نهاية هذه الحفلات، وأرجو الله لك ما يرجوه لك أهلك من التوفيق والنجاح!
زادني تحفظها هياما بها، وألهب عواطفي نحوها، فأخذت أسأل نفسي: «ولم لا أتزوجها؟» لقد أبدع الله في تكوينها، فوهبها بذلك هبة لا تقل قدرا عن المال وعن الجاه، وحباها من الرشاقة والرقة وخفة الروح ما يرفعها إلى أكرم الطبقات. إنها قطعة فنية، لا تقوم بمال، ولا تدانيها في الاعتبار هبة يهبها الله للناس. إن النظرة إليها تدفع صاحب المال ليلقي بماله تحت قدميها، وصاحب الجاه ليضع جاهه تحت تصرفها. فلم لا أتزوجها وهي تحبني وأنا أحبها، هذا الحب الذي سما بنا كلينا فوق المال والجاه، وفوق كل اعتبار؟!
فلما خلوت إليها الغداة، قبيل ذهابها إلى الحفلة في بيت عمي، قلت لها: اسمعي، إنني لم يبق لي بتحفظك طاقة، وقد فكرت في كلامك معي أمس، فصممت على أن نتزوج، فأنت منذ الآن خطيبتي، وإن شئت فأنت منذ الآن زوجتي. ولن أخبر أهلي بشيء من ذلك حتى يصبح أمرا واقعا. وتحقيق هذا الأمر بيدك أنت ورهن مشيئتك. فأنا منذ الساعة ملكك، تتصرفين بي كما تشائين. هذا كلام شرف، أقوله لك عهدا مقطوعا أمام الله ... فما تقولين؟
لم أقل هذا الكلام بلساني وكفى، بل كان كل وجودي يعبر عنه أدق تعبير وأعمقه. كانت عيناي تنطقان به، وكان قلبي يخفق لكل لفظ منه، وكان وجهي ينم عن كل معانيه، ولاحظت الفتاة ذلك فألقت بنفسها بين ذارعي، وقالت: الآن ... أنا لك، فتصرف أنت كما تشاء، على أن يكون زواجنا، بعد أن تتزوج ابنة عمك!
من تلك الساعة، لم يبق للزمن وجود أمامي، بل لم يبق في الوجود كله إلا فتاتي البارعة المعبودة. لم تكن عيني ترى سواها، ولم تكن أذني تسمع غير حديثها، ولم يكن في الجو المحيط بي شيء إلا هي، كان هذا الجو معطرا بريحها وروحها وريحانها. وضممت الفتاة تلك اللحظة إلى قلبي، وقبلت جبينها وصدغها وثغرها، وشعرت بها أصبحت بضعة مني، وأن وجودها غاب في وجودي، وأننا كما يقولون: روح في جسدين. فلما أفقت من هذا الحلم السعيد الجميل، نظرت في ساعتي، فإذا هي قد تأخرت عن الموعد الذي ألف الناس في بيت عمي أن يروها تدخل عليهم فيه. لذا أسرعت بها إلى هناك، ولم أدخل البيت معها اتقاء المظنة. وبعد برهة دخلت، فألفيت القوم بدءوا ليلتهم، وبدءوا مرحهم، وألفيتها انسحبت من بينهم تستعد للرقص وتظاهرت بالسؤال عنها، وعن سبب تأخرها، فقيل لي: إنها سترقص بعد هنيهة!
Bog aan la aqoon