ولقد أسف قيصر كل أسف، أن يفقد نصرة ذلك الرجل المحتر القلب، الصلب في الحق، المضحي في سبيل الصداقة، ذلك الرجل الذي رفعته كفاياته ومواهبه السياسية والمدنية إلى الذروة العليا من ذلك البناء الحضري، الذي أقامته «رومية» على كواهل أبطالها الأمجاد، أسف «قيصر» أن يحرم من نصيحة يدلي بها «قيقرون» فتصيب محز الأمور، إذا ألمت كارثة، أو نزلت جائحة، أو زلزلت الأرض من تحت «رومية» الخالدة: وما كان اعتزال «قيقرون» العالم الروماني ليؤسف قيصر وحده، وإنما كان فيه إيلام لكليوبطرا، وامتهان لعزتها، كانت تريد، وما أسد ما تريد، أن تجذبه إلى قصرها، فتضمه إلى حلقتها، فيكون من حاشيتها، ثم تحكم معه الحلف والعهد، فإذا استوثقت منه، كان لها العون خير العون، لما أن تأزف الساعة التي تهبط فيها على غايتها، وتقبض بيديها الحديديتين على مرماها.
مع ما اتصفت به «كليوبطرا» من تلك الصفات التي عددناها، ومع ما كان في قلبها من جرأة الأسود، وما كان في صدرها من شجاعة الأفاعي، وما كان في أخلاقها من افتراس النمرات، فإن مطامعها الذاهبة بها إلى أبعد المذاهب، الرامية بها إلى أقصى الغايات، كانت تقف بعض الشيء عند «قيقرون»، لتصب عليه نظرة امتزج فيها الحقد بالأمل، والغضب بالرغبة، والكراهية بالإعجاب، ذلك بأن «قيقرون» دون سواه، كان الصخرة التي تقف إزاءها مطامع «كليوبطرا»، إذ تمر بمخيلتها مر البروق، لتتأمل هنيهة، فيما يكون من سحر ذلك اللسان في أهل العالم الروماني!
ما وسع «كليوبطرا» إلا أن تبوح لصديقها «أتيكوس» بما يجول في صدرها عن «قيقرون»، ولقد وعدها «أتيكوس» وكان من أصدقاء الخطيب الروماني، أن يعمل على إقناع «قيقرون»، تلقاء ما كان لها عليه من يد، وما آنس في عشرتها من صفاء ومودة، ولم يكن في العالم الروماني كله من سفير يؤدي رسالة «كليوبطرا» إلى «قيقرون»، أعظم من «أتيكوس» نفوذا، أو أكثر ملاءمة لطبيعة الظرف السياسي.
وما من شك في أن «أتيكوس» قد أعانه في سفارته، ما كان يلقى خطيب رومية من ألم يحز في قلبه الكبير، وقد نبذ وطال به النبذ، فإن رجلا عرف قدر السلطة، وسكر برحيق القوة، وانتهل من مواردها العذبة، وخطيبا هز أعواد المنابر؛ وسمع من الجماهير تصفيق الأكف، وهتاف الحناجر تزلزل أعمدة الهياكل الرومانية، لن يصاب في حياته بمصيبة، فتكون من الانزواء والأسر الاختياري أشد بنفسه أخذا، أو بقلبه أمعن عصرا.
وما أراد إلا أن يسمع تصفيق الأكف وهتاف الحناجر ثانية، فأصاخ إلى قولة «أتيكوس» وعمل بنصحه، فقبل أن يصافح «كليوبطرا»، وأن يكون في حلقتها محوطا بأبهة قصرها، يقرأ في مكتبتها ما يرضي قلبه وعقله، ويأنس من جمالها ما يرضي خياله؛ فظهر على عتبتها، ملتفعا بشملته الرومانية، التي كان يحسن التلفع بها، على طراز ما عرفه روماني قبله، فاستقبلته كليوبطرا، ومن ورائها قيصر، مفعم القلب بذكريات الانتصار. •••
ولقد أشرق وجه «كليوبطرا» واستنار بتلك الأشعة التي كانت تغمر ملامحها عقيب انتصار تناله، أو بلوغ غرض تصيبه، فاستقبلت ضيفها العظيم بكل حفاوة، وحوطته بكل إكرام، ومن أجل أن تختلب خطيب «رومية» الأعظم، مضت ليلة ضيافته الأولى تفرغ عليه من ضروب البذخ، وتضفي عليه من صنوف الكرم، ما حملها على أن تطلعه على كل التحف الفنية النادرة، والمأثورات القديمة التي لا تقوم بمال، مما يزدان بها قصرها العظيم؛ ذلك القصر الذي أصبح في رومية مضرب المثل، بل قرن بقصور الشرق العظيمة في فارس والهند.
من فوق منضدة من المناضد، فرش غطاء من الديباج القديم مطرز بالذهب، تطريزا يظهر شيئا من وقائع الفراعنة وتاريخهم القديم، ومن فوقه كتاب من ورق الكتان الثمين، به صور تمثل حضارة مصر من أقدم عصورها ، وقد يقلب الخطيب الأعظم صفحات ذلك الكتاب، وقد عمل فيها الزمن فاصفرت أطرافها، وظهرت على بعضها سفع هي من إملاء الدهر، دمغ بها الأسطر الهيروغليفية التي مضت الملكة الصغيرة تترجمها للروماني الكبير، في لغة لاتينية فصيحة، كان لها من الأثر في قلب «قيقرون» أضعاف ما لصوتها الحنون الجميل.
ولما أن رأت أن «قيقرون» قد استغرقته تلك الصفحات، ظنت أو خيل لها أنها قد أخضعت الرجل، ونالت من رضاه ما أملت، فوعدته بأن ذلك الكتاب، سوف يحمل إلى قصره في «توسكولوم» صبيحة الغد.
غير أن رجلا من طراز «قيقرون»، فيه خلاق القوة والجفوة، وانماز من أقرانه بفطرة الاستقلال في الرأي، وتقديس الحرية، قلما تستهويه؛ مثل هذه الأشياء التي هي إلى جانب شخاصته من صغريات الأمور، فإن العهود التي كانت قد قطعت لحزب «رومية» المحافظ، تلك العهود التي حملته على الظن بأن «قيصر» سوف يعود إلى خطته الحرة القديمة، كانت قد عصفت بها خيلاء «قيصر» واستعلاؤه، وثورته على التقاليد، وتحكمه في أمور «رومية» وانفراده بالرأي فيها، وعامة ذا لم يترك في عقل «قيقرون» محلا لوهم، أو مكانا لهوى، فما كان ليشك أن سقوط الجمهورية كان وشيكا، وأن دقائقها الأخيرة قد حانت، ولهذا لم يكن في الدنيا من مكان يستشم فيه «قيقرون» ريح الاستبداد فيخنقه، أو يستروح فيه هواء الديكتاتورية، فيكاد يذهب بأنفاسه، من قصر تلهو فيه «كليوبطرا» ويمرح «قيصر»، وإلا فكيف يتفق أن يجمع مكان واحد تاج الملك، وحكم الجمهورية؟ ثم يشعر «قيقرون» أنه في جو طبيعي، على مألوف ما يوائم آراءه ومبادئه في الحياة والحكم؟ فأخذت زياراته لقصر «كليوبطرا» تقل شيئا بعد شيء، وتتباعد فتراتها، فقد آنس أنه في خارج جدران ذلك القصر أكثر حرية في التعبير عن آرائه، حتى لقد قال ذات يوم لصديقه «أتيكوس» مشيرا إلى الجمع الذي كان يغشى بيت «قيصر»: «إني لأشعر بشيء من الاستيحاش في مكان لا يراعى فيه الاحتشام».
على أن مثل هذه النقود والكلمات، لم يكن مما يأبه له «قيصر»، فقد كان يعتقد أن كل العقول دون عقله، وأن كل صفات الرجال دون صفاته، فما الذي يخشى «قيصر» من رجال هم دونه في كل شيء؛ فصاحة لسان، وقوة بيان، وشجاعة قلب، بل أقل منه تقاليد! وأية تقاليد تذكرها رومية، فتطاول تقاليد قيصر، فاتح الدنيا وسيد العالم؟
Bog aan la aqoon