ذلك بأن جزيرة «فيله» كانت ملكا لكهنة «إيزيس» منذ أزمان لا تعيها الذكريات، وكانوا يعتقدون أن دخول غيرهم فيها، تهجما على حرمتها وتدنيسا لقداستها، ولقد كان لهم أن يتيهوا على الناس عجبا، ويملئوا الأرض فخارا، بأنهم حفظة هيكل أفرغ عبدته عليه من المال ما جعله أغنى هياكل مصر جميعا، على فرط غناها، وتالد عزها، وزاد في نفوذهم أنهم احتموا بالآلهة المحبوبة، فحظروا على أي كان من الخلائق أن يمد إلى أمورهم أصبعا، أو يتطلع إليها بطرفة عين، فاستأثروا بموارد الهيكل، وحجبوا غيرهم عنها، أنفة واعتزازا.
وجرت العادة في كثير من الهياكل والمعابد ألا يشوب صفو العبادات والمناسك فيها شائبة من الدنيويات، لهذا رأى الناس في مقدم الأسطول الملكي فرصة ينفسون بها عن أرواحهم المقموعة، وأخيلتهم المكبوتة، فخرجت إلى عرض النيل سفائن شحنت بالموسيقاريين تحيي العاشقين الملكيين، واصطف على جانبي النيل طوائف من الكهنة يرتلون أغنياتهم المقدسة، ولقد اضطر العاشقان أن يوافيا الهياكل بزيارات يقومان فيها بأداء الفروض الدينية ويستمعان للمواعظ والخطب، وأن يستقبلا وفودا تحمل إليهما الهدايا الثمينة والتحف النادرة، وهنالك نحرت الكباش تضحية وقربانا، وجرى دم الحمائم قانيا.
وما انتهى الاستقبال الملكي حتى أبدت «كليوبطرا» رغبتها في أن تترك و«قيصر» في انفراد وهدوء، بعيدين عن هموم الرسميات، وكانا يقضيان هاجرة النهار في خلوتهما؛ ومن حولهما نوافير تلطف من حرارة الهواء؛ وتتدفق مياهها في برك صغيرة نامت في أحضانها زهرات النيلوفر ترنو بأعين ناعسة، وتعكس ألوانا مختلفة، من بياض ناصع، إلى لازورد اشتدت زرقته، إلى أرجوان قرمزي، ينبعث من نورياتها الوادعة الهادئة، وبهذه المثابة نسي العاشقان كل هموم الحياة، وما تتطلب الحياة من ميول ومطامع ورغبات.
ولئن نسيت الملكة كل شيء، فإنها ما نسيت ساعة واحدة، الغرض الذي من أجله اقتادت عاهل الرومان، إلى أقصى حدود مصر، وكانت قد عقدت العزم على أن تربط حاميها الأعظم بذكريات لا تمحوها الأيام، ولا تفعل بها السنون، وأن تثبت في روعه أن مصالح مصر ومصالحه شيء واحد.
وكانا، إذا عسعس الليل، وأرخت الظلماء سدولها على الوجود، يخرجان إلى الحدائق يجوبان ممراتها الجميلة الساكنة، ويشمان عبق البنفسج، أو يدرجان بين الخمائل الملتفة، فيساقط على رأسيهما التبر المصري الذي حمله هواء النهار، وكسى به الأشجار اليانعة، ولقد تجيب «كليوبطرا» على ما يوحي إليها به «قيصر» من بسمات الأمل، ولكن في فرق أشبه بفرق الأطفال. «نعم، نعم، إن بلادي أجمل بقاع الأرض ، ولكن إخضاعها من جسام الأمور.»
وما يني «قيصر» عندما يحس نعومة الذراع الذي يطوق عنقه، عن أن يعد «كليوبطرا» وعد الصادق الأمين، بأن بلاده لن تقصر، بكل ما أوتيت من قوة وبطش، في حمايتها والذود عن حياضها.
على أن عزلة الملكة وقيصر، وبعدهما عن الظهور للناس، أمران لن يطولا إلى غير نهاية، فأرادا قبل أن ينهيا عزلة الحب، أن يخلدا ذكرى هذه الأيام التي قضياها معا في سعادة ما شابها من شيء إلا خطرات كانت تمر بمخيلة «قيصر» عن رومية وهموم قيصريتها المترامية الأطراف، أو همس كان يساور «كليوبطرا» فيما يكون لو أن «قيصر» اضطر يوما إلى الرحيل عن أرض السحرة الأقدمين؟
وإنما يخلد ذكرى الحب عمل تتوارثه الأجيال، وأي شيء تتوارثه الأجيال غير هيكل تعبد فيه «إيزيس» المحبوبة؟ وفي وسط خميلة من شجر الدفل والتين المصري، سكنتها أطيار أضفت الطبيعة على أرياشها ألوان قوس قزح، وضع العاشقان الحجر الأساسي من هيكل الحب والجمال، ولقد انسلخ ألفان من السنين، طوت الأرض خلالهما ثمانين جيلا من أجيال البشر، وكل من زار فردوس «فيله» يقف وقفة المأخوذ بسحر ذلك الرواء الذي خلعه الفن على تلك العمدان القورنثية، الواقفة هنالك عنوانا على الوداعة، ورمزا للجمال، ولم ينقش على ذلك الهيكل من اسم يدل على الآلهة التي شيد ليكون وقفا عليها، ولكن ما وقف أمام ذلك الهيكل من إنسان، إلا وأدرك بديئة، لمن وضعت قواعده: ورفعت أركانه. •••
في الإسكندرية، هبط وفد من الرومان، ينتظر عودة قيصر!
لما علم الرومانيون أن قائدهم، فاتح الممالك ومدوخ الشعوب، ومبيد الثورات، وغازي أرض الفراعنة، وأن بطلهم الذي لا ملجأ لهم غيره، ولا محط لآمالهم سواه، قد عبثت به «سرسية» الجديدة؛ تملكهم الرعب، ومشى في قلوبهم الخوف والوجل.
Bog aan la aqoon