[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خص الصائمين بأنواع الإحسان، وشرف القائمين بكثير الامتنان، أحمده على ما قوانا على حفظ القرآن، نشكره على ما أنعم علينا من تلاوة الفرقان، والصلاة والسلام على من هو سيد الأكوان، وعلى آله وأصحابه إلى يوم الإحسان.
أما بعد:
فيقول العبد الراجي رحمة ربه القوي أبو الحسنات محمد المدعو بعبد الحي اللكنوي وطنا، الأنصاري الأيوبي القطبي نسبا، الحنفي مذهبا، إني لما دخلت المصر المعروف بحيدر آباد من مملكة الدكن نقها الله عن البدع والفتن، رأيت ما أعجبني في شهر رمضان، وهو أن حافظ القرآن يقرأ الفرقان في التراويح وخلفه مقتدون كلهم غير حافظين، وصنيعهم أنهم يضعون المصحف بين أيديهم، ويفتحون الإمام منه عند احتياجه إليه، ويأخذ الإمام فتحهم، وهذا الأمر قد تعارف في مساجد المصر المذكور، وقد سئلت عن ذلك كرات ومرات، فأفتيت بفساد صلاة القائمين بفتحهم والآخذين بأخذ فتحهم، فنازعني في ذلك منازع، وراجعني في ذلك مراجع، فألهمني الله تعالى أن أكتب رسالة وافية، وأدفع شكوكهم الواهية في هذا الباب، فصرفت عنان القصد، وسميتها ب:
((القول الأشرف في الفتح عن المصحف))
والله تعالى أسأل أن يتقبلها ويجعلها خيرا جاريا، وللناس إرشادا ساريا.
* * *
- فأقول -
قد تقرر في مدارك الفقهاء الحنفية
أن التعليم للخارج والتعلم منه يفسد الصلاة
ويتفرع عليه مسائل
Bogga 6
منها ما ذكره في ((منية المصلي))(1)من أنه لو فتح غير المصلي على المصلي، وأخذ بفتحه تفسد(2)صلاته؛ لأنه تعلم من الخارج.
* * *
ومنها
ما إذا فتح المصلي على غير إمامه سواء كان مصليا أو غيره تفسد صلاة الفاتح؛ لأنه تعليم، فكان من كلام الناس. كذا في ((الهداية))(3).
وهل يشترط للفتح تكرار الفتح؟
الصحيح(4)أنه لا يشترط بل تفسد بمجرد الفتح، وإن كان مرة واحدة؛ لأن الكلام مفسد قاطع وإن قل، كذا في ((فتح القدير))(5).
فإن قلت: ما الفرق بين الكلام والفعل حيث رخصوا العمل القليل ولم يجوزوا الكلام القليل؟
قلت: هو أن الاحتراز عن العمل القليل متعذر بخلاف الكلام القليل و{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } (6).
* * *
ومنها
إذا فتح المصلي على غير إمامه وهو مصل، فأخذ فتحه تفسد صلاتهما، أما صلاة الفاتح فلوجود التعليم، وأما صلاة المستفتح فلوجود التعلم. كذا في ((النهاية)).
وقد شمل هذه المسائل قول النسفي في((الكنز)) في ذكر مفسدات الصلاة: وفتحه على غير إمامه(7).
قال في ((النهر الفائق)): هو شامل لفتح المقتدي على مثله، وعلى المنفرد وعلى غير المصلي، وعلى إمام آخر . ولفتح الإمام والمنفرد على أي شخص كان إن أراد به التعليم دون التلاوة . انتهى.
Bogga 7
ومنها ما إذا سمع المؤتم ممن ليس معه في الصلاة سواء كان مصليا بصلاة أخرى أو غير مصل مطلقا، ففتحه على إمامه تبطل صلاة الكل؛ لوجود التلقين من الخارج، ذكره الزاهدي في ((القنية)) عن الظهير المرغيناني عن عبد الله الصفار، ونقله في ((البحر الرائق))(1)عنه . وجزم به في ((الدر المختار))(2)وغيره . وأقره في ((النهر الفائق)). وقال في ((رد المحتار حاشية الدر المختار)): ووجهه أن المؤتم لما تلقن من الخارج بطلت صلاته، فإذا فتح على إمامه وأخذ منه بطلت صلاته. انتهى(3).
* * *
ومنها
ما إذا قرأ المصلي من المصحف تفسد(4)صلاته عند أبي حنيفة سواء كان القارىء مقتديا أو إماما، فتقييده بالإمام كما وقع في ((الهداية)) اتفاقي، صرح به(5)((غاية البيان))(6).
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: لا يفسد الصلاة إلا أنه يكره.
Bogga 8
وقال الشافعي: لا يفسد ولا يكره(7) .
لهما: ما روي أن ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها: يؤم بها في رمضان وكان يقرأ من المصحف(1).
ولأن القراءة عبادة انضمت إلى عبادة، وهي النظر(2)في المصحف، فلا وجه للفساد، وإنما يكره هذا الفعل للشبه بأهل الكتاب، فإنهم يفعلون كذلك.
والشافعي يقول : لا يكره ؛ لأنه لو كره هذا الصنع؛ بسبب كونه
صنع أهل الكتاب يوجب أن تكره(3)القراءة على ظهر القلب؛ لأن منهم من يقرأ هكذا، ويجب أن يكره الأكل والشرب وجميع الأفعال المشتركة بيننا وبينهم، ولم يقل به أحد.
والجواب من قبلهما عنه: أنا لا نقول بكراهة التشبه بهم مطلقا، بل التشبه فيما لنا منه بد، كما يكره للإنسان أن يصلي سادلا ثوبه؛ لأنه صنع أهل الكتاب، ولنا منه بد.
وللمشايخ في ذكر وجه قول أبي حنيفة قولان:
أحدهما: أنه يلزم من القراءة عن المصحف حمله وتقليب أوراقه، وهو عمل كثير، فتفسد(4)به الصلاة.
Bogga 9
فإن قلت : هذا [لا](1)يلزم وجها للفساد ، ألا ترى أن ما رواه أبوداود في ((سننه)): ((أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يصلي وأمامة(2) بنت أبي العاص على عاتقه، كان يضعها إذا سجد ويحملها إذا قام))(3)، وهذا الفعل أكثر من التقليب وحمل المصحف.
قلت: أجابوا عن هذا الحديث بوجوه:
الأول: أنه منسوخ.
والثاني: أنه مخصوص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الثالث: أن هذا كان في النافلة، ومثله لا يكون في الفرض، ذكره أبو عمرو في ((التمهيد))(4)عن أشهب(5)عن(6)مالك.
الرابع: أنه كان للضرورة، ومثله يجوز للضرورة . كذا قال العيني في شرح ((صحيح البخاري))(7)، و((الهداية))(8).
وثانيهما: أن القراءة من المصحف تلقن من الخارج، وهو مفسد للصلاة.
Bogga 10
والفرق بين الوجهين أنه على الأول يفترق الحكم في المصحف المحمول والموضوع، فتفسد(1)الصلاة لو كان محمولا، ولا تفسد(2)لو كان موضوعا لعدم علته، وهو الحمل والتقليب.
فإن قلت: إنما يدل هذا التعليل على الافتراق إذا كان عدم العلة يوجب عدم الحكم، وقد عرف في الأصول أن انتفاء العلة لا يوجب عدم الحكم؛ لجواز أن يثبت الحكم المعين بعلل شتى. فيجب إثباته عند وجود علة انعدام غيره.
قلت : التعرض في هذا التعليل بحمل المصحف والتقليب إشارة إلى أن نفس التلقن غير مفسد، وإلا لم يكن لهذا التطويل فائدة فيقتضي الافتراق بحكم هذه الإشارة، كذا قيل.
وأما على التعليل الثاني: فلا يفترقان فتفسد الصلاة بمجرد الأخذ عن المصحف، وإن كان موضوعا، وقد صحح النسفي في ((الكافي))(3)الثاني، وقال: الصحيح أنه يفسد بكل حال تبعا لما صححه شمس الأئمة السرخسي وجزم به الزيلعي، وعلته تتفرع أنه لو لم يكن قادرا على القراءة إلا من المصحف، فصلى بغير قراءة ذكر الفضلي أنها تجزيه، وهو منقول عن الشيخ الإمام أبي بكر بن الفضل(4)، وصحح في ((الظهيرية))(5): عدم الجواز.
Bogga 11
وقال في ((البحر الرائق)) : الظاهر أن ما(1) في ((الظهيرية)) متفرع على
أن علة الفساد حمله والعمل الكثير، فإذا لم يقدر على أن يقرأ عن ظهر قلبه أمكنه أن يقرأ من المصحف، وهو موضوع، وما ذكره الإمام الفضلي متفرع على الصحيح من أن علة الفساد تلقنه ولو كان موضوعا، فحينذ لا قدرة له على القراءة فكان أميا، وبهذا ظهر أن تصحيح ((الظهيرية)) مفرع على الضعيف. انتهى(2).
فعلم من هذا البيان أن وجه فساد الصلاة بالقراءة عن المصحف عند أبي حنيفة هو التلقن من الغير، فإن التلقن من المصحف كالتلقن من غيره.
فإن قلت تقرر في المسائل الاثنا عشرية أنه لو تعلم أمي بعد قعود قدر التشهد سورة تبطل(3)صلاته عند الإمام؛ لأن الخروج بصنعه عنده فرض، ولم يوجد، وتتم عندهما؛ لأنهما لا يقولان بفرضيته، فلو كان التلقن والتعلم منافيا للصلاة لكان ينبغي أن يتم الصلاة في المسألة المتقدمة عنده أيضا؛ لوجود التعلم، وهو مناف للصلاة، فيوجد الخروج بصنعه.
قلت: المراد بالتعلم في المسألة السابقة هو التذكر دون التلقن، وحينئذ فلا إشكال كذا في ((العناية))(4)، وقد صرح به الزاهدي في ((شرح القدوري))(5)أيضا.
Bogga 12
وقد يستدل لقول أبي حنيفة برواية أبي(6)داود عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نهانا أمير المؤمنين أن نؤم الناس في المصحف. فإن الأصل أن النهي يقتضي الفساد.
وقال في ((الذخيرة)): كان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يقول في التعليل لأبي حنيفة: أجمعنا على أن الرجل إذا كان يمكنه أن يقرأ عن المصحف، ولا يمكن أن يقرأ عن ظهر قلبه، أنه لو صلى بغير قراءة، أنها تجزيه، ولو كانت القراءة من المصحف جائزة لما أبيحت الصلاة بغير قراءة، ولكن الظاهر أنهما لا يسلمان هذه المسألة، وبه أخذ بعض المشايخ. انتهى.
ولما ثبت أن التلقن من المصحف مفسد عنده، فتأويل أثر ذكوان إن صح محمول على أنه كان يراجعه قبيل الصلاة، قاله الزيلعي في ((شرح الكنز))(1).
وقيل: هو ما دل بأنه كان يحفظ في كل شفع مقدار ما يقرأ في الركعتين. فظن الراوي أنه كان يقرأ من المصحف، قال العيني في ((شرح الهداية)): ويؤيده ما ذكرنا من أن القراءة عن المصحف مكروهة، ولا نظن بعائشة رضي الله عنها أنها كانت ترضى بالمكروه، وتصل خلف من يصلي بصلاة مكروهة. انتهى(2).
إذا عرفت هذا كله فأقول: لو أخذ المقتدي من المصحف وفتحه على إمامه يفسد صلاة الكل سواء كان المصحف قد حمله المقتدي ويقلب أوراقه، أو لا بأن يجلس هناك رجل يحمله ويقلب أوراقه، وإن كان بادي النظر يقتضي عدم الفساد في الشق الثاني لعدم العمل الكثير، وهو الذي أوقعهم في الورطة الظلماء، فضلوا وأضلوا وهلكوا وأهلكوا.
Bogga 13
وما ظهر لي وبه أجبت السائلين به فساد صلاة الكل لو أخذه إمامه، وإن لم يأخذه، فتفسد(1)صلاة المؤتم وحده.
أما صلاة الفاتح فلوجوه ظهرت لي:
الأول: كان هو أخذا من الخارج، والأخذ من الخارج والتلقن منه مفسد للصلاة؛ ولذلك لو أخذ من المحراب فسدت صلاته، نص عليه العيني(2)وغيره.
الثاني: أنه قد صرح العلامة الهداد الجونفوري في ((حاشية الهداية)): أن النظر في المصحف والأخذ منه كالسماع من الغير والأخذ منه، وأشار إليه المرغيناني(3)أيضا، وقد عرفت سابقا فساد صلاة الكل لو سمعه المؤتم ممن ليس معه في الصلاة ففتحه على إمامه وأخذه فكذا هذا.
الثالث:أنهم اختلفوا في أن الفاتح هل ينوي بفتحه القراءة أم الفتح؟
فمنهم: من قال: أنه ينوي القراءة؛ مستندا بأن الفتح كلام معنى إلا أنه عفي عنه للضرورة، فيجب الاحتراز عنه ما أمكن الاحتراز في النية، بأن ينوي القراءة وإن لم يكن في الفعل، وإليه مال العلامة الهداد الجونفوري، وقال : هو الصحيح.
ومنهم: من قال: أنه ينوي الفتح دون القراءة؛ لأنها ممنوعة عنها للمؤتم، وأما الفتح فهو مرخص فيه(4)من الشارع، وصححه في ((الهداية))(5)، وصححه(6)السرخسي(7)، ونسب الثاني إلى السهو، واختاره جمع غفير منهم .
Bogga 14
إذا عرفت هذا فنقول : إذا فتح آخذا من المصحف، فكأنه قرأ من المصحف، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني؛ فلأن الفتح يتضمن(1)القراءة لا محالة، وقد مر أن قراءة المصلي من المصحف مفسدة، فتشكر.
وأما صلاة المستفتح؛ فلأنه تلقن من الخارج بواسطة المؤتم الآخذ من الخارج، والأخذ من الخارج مفسد، وأيضا لما أخذ المؤتم من المصحف فسدت صلاته، فأخذ الإمام صار ممن ليس معه في الصلاة، وهو مفسد كما مر.
وأما صلاة باقي المقتدين؛ فلفساد صلاة الإمام؛ فثبت أنه يفسد صلاة الكل، وذلك ما أردناه.
قلت: ومنه يعلم فساد صلاة المصلي فيما إذا سمعه من الطير، وأخذ منه، ولم أره صريحا.
ثم أقول: هذا كله عند أبي حنيفة، وهو المعتمد.
وينبغي أن لا تفسد(2)الصلاة في صورة الأخذ من المصحف عندهما كما لا تفسد(3)الصلاة بقراءته عن المصحف.
ويخطر بقلبي: أنه يمكن الفرق بين الصورتين عندهما أيضا، بأنهما(4)إنما لا يقولان بالفساد في صورة القراءة؛ لأن القراءة عبادة انضمت إلى عبادة أخرى، وهي النظر في المصحف، فلا وجه للفساد هناك، وهذا الأمر مفقود فيما نحن فيه؛ لأن الفتح ليس بعبادة مقصودة، بل هو كلام معنى، والقياس يقتضي فساد الصلاة به، وإنما جوزناه للضرورة فيقتصر على موضع الضرورة، فينبغي الفساد بالفتح أخذا من الخارج المفسد للصلاة، والله أعلم وعلمه أحكم.
Bogga 15
وبعد ذلك أقول: لو كان رجل حافظ للقرآن ينسى كثيرا، ولا يمكن أن يقرأ في التراويح بدون أن يكون خلفه فاتح ولم يجد حافظا يسمع خلفه ويفتحه عن ظهر القلب، فعليه أن يترك القراءة، ويقرأ السور الصغار من المفصل لأداء التراويح؛ لأن المفسدة التي تنشأ من فتح الناس بالأخذ عن المصحف أشد من(1)ترك قراءة القرآن، ومن ابتلي ببليتين يختار
أهونهما، والله أعلم بالصواب، وعنده حسن المآب.
ولقد استراح القلم من تحرير هذه العجالة النافعة والعلالة الرائعة في الجلسة الواحدة نهار يوم الأربعاء خامس شهر رمضان من شهور سنة(1284) أربع وثمانين بعد الألف والمئتين من الهجرة النبوية في بلدة حيدرآباد صانها الله عن شيوع البدع والفساد.
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على حبيبه محمد وآله وصحبه أجمعين(2).
* * *
Bogga 16