وقد تتّقي الشعراء نحوًا مما اتقى. ولو قالوه لم يكن فسادًا. ألا ترى أنهم يلزمون ما قبل هم وهما إذا كانا قافية، وما قبل التاء والكاف إذا كان كلُّ واحد منهما قافية، وليس هو بحرف روي، ولا حرف من اللّوازم. فيتّقون منهما مع فيهما، ومنهم مع فيهم. وإذا قالوا لك في قافية جعلوا ما قبل رويّها في أكثر اللام. فلم يستحسنوا معها بك وأشباه ذلك، وهو جائز. ومما ألزموا أنفسهم فيه مالًا يلزمهم قوله:
أطلال دارٍ بالسّباعِ فحمّتِ ... سألتَ، فلما استعجمت ثم صمّتِ
صرفتَ ولم تصرف ... ... نهال دموع العينِ حتىَّ تعمَّتِ
فلزمَ الميم في القصيدة كلّها. وزعموا أنّهم سألوا كثيرًا عنها، فقال: لا يجوز غير الميم. وقد قال كثيّر فغيّر ما قبل التاء:
أصابَ الرّدىَ من كانَ يهوى لك الردى ... وجنَّ اللواتي قلنَ عزَّةُ جنَّتِ
وقلنَ لها: يا عزُّ، كلُّ مصيبةٍ ... إذا وطّنتْ يومًا لها النفسُ ذلّتِ
فجاء بالنونِ مع اللام. وقال الفرزدق فغيَّرَ:
وباكيةٍ تبكي هريمًا، ولو رأتْ ... هريمًا لداراتْ عينها فاسمدرَّتِ
يقاتلُ قبلَ الخيلِ فهوَ أمامَها ... ويطعنُ عن أدبارها إن تولَّتِ
وقال أبو الأسود، فلزم اللام في القصيدة:
حسبتَ كتابي إذْ أتاكَ تعرُّضًا ... لسيبكَ، لم يذهب رجائي هنالكا
نعيمُ بن مسعودِ أحقُّ بما أتى ... وأنتَ بما تأتي حقيقٌ كذلكا
وقد يلزمون الكسر قبل هذه الكاف، ولا يجيزون غيره. وكذلك قاله أكثر الشعراء. وما أرى اختلاف ذلك إلاَّ سنادًا، لأن الشعراء لم تقله إلاَّ هكذا أو قبله تأسيسُ. ولا أبالي الحركة التي بعد التأسيس أن تختلف، ولا أعدّه عيبًا، وهو قليلٌ. وكان الخليل يجيزه.
وإذا قفّوا بالكلمةِ التي فيها حرفٌ مضاعفٌ، ولم يجعلوا معه غيره، نحو: صبًّا وأبًّا، لا يكادونَ يجعلونَ معهما صعبا، وهما سواءٌ. وذلك جائزٌ جيدٌ.
وممّا لا يكون ردفُ الواو والياء إذا كانتا مدغمتين، نحو دوّا وجوّا، يجوز معهما عدوا وجروا وغروا. ويجوز مع حيًّا وليّا وظبيا ورميا. وذلك أنّهما لما أدغمتا ذهب منهما المدّ، فأشبهتا غيرهما من الحروف.
وإنّما جازت الواو مع الياء في الردّفِ، وفارقتهما الألف، لأنَّ الألفَ لا يتغيّرُ ما قبلها أبدًا، ولا يكون إلا فتحًا. وما قبل الياء والواو يتغيّرُ، فتقول: القول والقول والقيل والبيع وكان في نحو ظبي وعدو، وأشباه هذا كثيرٌ فيهما. والألف حالها واحدٌ أبدًا وحال ما قبلها. فلذلك فارقتهما. ومع ذلك أنَّ الياء والواو تدغم كلّ واحدة منهما في صاحبتها، نحو مقضى ومرمي، أدغمت واو مفعول في الياء. وتغيَّر الواو المتحركة للياء الساكنة تكون قبلها، نحو ميت وسيّد. وإنما أصلهما ميوت وسيود، وزنهما فيعل.
وأما التأسيس فألفٌ ساكنةٌ دون حرف الرّوي بحرف متحرك يكون بين حرف الروي وبينهما، يلزم في ذاك الموضع من القصيدة كلَّها، نحو ألف فاعل من لامه.
فإن كانت الألف من كلمة سوى الكلمة التي فيها حرف الروّيّ ولم يكن الرّويّ حرف إضمار، لم تجعل تأسيسًا، وأجري في موضعها من القصيدة جميع حروف المعجم، نحو قول عنترة:
ولقدَ خشيتُ بأنْ أموتَ، ولم تدرْ ... للحرب دائرةٌ على ابني ضمضمِ
الشاتميْ عرضي ولم أشتُمها ... والناذرينِ إذا لمَ ألقَهما دمي
فهذه الألف لا تكونُ تأسيسًا، لأنها منقطعة من ميم دمي، وليستْ من ضميره. وقال لعجّاج:
فهنَّ يعكفنَ به إذا حجَا
عكفَ النّبيطِ يلعبونَ الفنزجا
فهذه الألف لا تكون تأسيسًا لأنها منفصلةٌ.
فإن كانت الألف منقطعة، وحرف الرّويّ من اسم مضمر، جاز أن تجعلَ الألف تأسيسًا وغير تأسيس. قال الشاعر فألزم التأسيس:
إن شئتُما ألقحتُما ونتجتُما ... وإن شئتما مثلًا بمثلٍ كما هُما
وإن كان عقلٌ فاعقلا لأخيكما ... بناتِ المخاضِ والفصالَ المقاحما
فجعل ألف المقاحم مع ألف كما هما. وألف كما منقطعة، والرّويّ ميمها، وهو حرفٌ من إضمار لا يزول. وقال زهير:
ألا ليت شعري هل يرى الناسُ ما أرى ... من الدهر أو يبدو لهم ما بدا ليا
بدا ليَ أنِّي لستُ مدركَ ما مضى ... ولا سابقًا شيئًا إذا كانَ جائيا
فألف بدا منقطعةٌ من ليا.
1 / 4