وذكرت قطر الندى ماشطتها أم آسية، فانحدرت على خدها قطرة دمع ... وكانت أصوات القيان تتجاوب، فترجعها صوادح الطير في البستان ومزامير الملاحين في دجلة ... ومضت ليلة شهد فيها القصر الحسني آية أخرى غير ما شهد في غابر الأيام من آيات جعفر بن يحيى البرمكي، وليالي بوران بنت الحسن.
فلما كان يوم الثلاثاء الخامس من ربيع الآخر جليت قطر الندى على عروسها، وبدأ تاريخ جديد بين أبي العباس المعتضد أمير المؤمنين، وأبي الجيش خمارويه بن طولون.
واجتمع على عرش الخليفة في بغداد ملك المشرق وملك المغرب. •••
ونظر المعتضد إلى العروس المجلوة لم تزدها زينتها جمالا على ما حباها الله من نعمته، وتحدث إليها فسمع حديثا لو كان ضربا على وتر لما زاد على ما سمع سحرا وفتنة، وسألها فأجابته عما سأل مستحيية، فلو أن حكيما أدبها فلقنها جواب كل سؤال تسأله لما علمها خيرا مما أجابت ...
وورد على قلب أمير المؤمنين من الإعجاب بها ما لم يكن يتوقع أو يخطر له على بال ... وكانت عيناها في عينيه شفاعة ضارعة فيها حنان ورحمة، وفيها نجوى خافتة تتحدث إلى ضميره بأبلغ بيان، واستشعر الخليفة من نظرتها روحا من العطف والرقة لم يشعر بمثله فيما غبر من أيامه، وغلبته عاطفته على فكره وهتفت به نفسه: «أهذه بنت خمارويه التي أردت بزواجها ما أردت تدبيرا لسياسة ملكك؟»
واصطرعت في نفسه شئون وشجون.
ومثلت بين يديه جاريته «ساجي» تغنيه وعروسه أحب الأصوات إليه، وكان هو صانع لحنه:
كللاني توجاني
وبشعري غنياني
فابتدرها الخليفة: ليس هذا يا ساجي، هلا غنيتني بشعر المازني:
Bog aan la aqoon