وأطرق سليمان، لأنه لم يعرف أين يولي وجهه، وقال وهو خارج: نعم، هذا ما سأقول.
وخرج.
الفصل السابع عشر
شهور مضت تليها شهور وأنا هنا حبيس في هذا البيت أو القصر أو أي شيء كبير، لا أملك أنا فيها شيئا إلا هذه الملابس التي أتلقفها من أحمد بك، شهور مضت وتلتها شهور، وأنا حبيس لا أصنع شيئا إلا أن أجلس مع أحمد بك ومع صديقه، هذا المتذاكي الذي لا يكف عن الانتقاد والسخط، شهور وأنا أرى هناء، هناء هانم تأتي إلينا في حجرة المكتب ثم تتركنا بعد أن تسمع الحديث الطويل الذي برع فيه السيد الحكيم، العالم النابه فوزي عبد المجيد، ذلك الحديث الذي يلقيه فلا يجد أحدا يرده، فالجميع به معجب، وأي جميع! إنهم، أو إنهما، أحمد وهناء؛ ألا تكفي هناء حتى أقول الجميع؟ إنها الجميع لا شك! إنها كل شيء حين أنا لديها لا شيء، وماذا أكون أنا، وأنا لا أتحدث في أي موضوع، إنني حتى حين حاولت أن أظهر علمي الديني لقيت من الجميع سخرية وهزؤا، فما الدين عند ثلاثتهم بالأمر الخطير، الدين جميعه لا يهمهم في شيء، فكيف أحادثهم عن أركان الوضوء وإقامة الصلاة وغير ذلك مما كنت أنال به في العواسجة التبجيل والتوفير والاحترام؟ إن هذا الفوزي لا يترك مجالا لأحد أن يتكلم إلا إذا جاء جعفر بن وصفي باشا، فهو وحده الذي يقف له بالمرصاد، ويرده في عنف حينا وفي لطف أحيانا، أما حسام فلا شأن له بأي موضوع يتكلم فيه أحد، كل ما يعرفه أن يظل رانيا إلى هناء، نظرات تحسها هي، ثم ما تلبث أن تنفضها عن نفسها في زهو وخيلاء أنها كعبة أنظار، ثم لا تفعل بعد ذلك شيئا إلا أن تعجب بفوزي عبد المجيد وحديثه الطويل عن الغنى والفقر والظلم والعدل والديمقراطية والاشتراكية، أين يجد هذا الكلام؟
وأنا ماذا ألم بي؟ لماذا لا أخرج؟ لقد ضرب علي عم دهب حصارا عنيفا، فأنا لا أخرج إلا وهو على علم بكل مكان أقصد إليه، وأنا لا أنال من النقود إلا صبابة لا تغني، وكنت فرحا أنني آت إلى مصر أعوض فيها ما فوته علي أبي حين أمسك بي عند الذرة، فإذا بيده التي انصبت على قفاي لا تزال تلاحقني هنا بقبض المال عني، وبعيون عم دهب الرواصد علي، وأحببت هذا الحبس أول الأمر، فرحان أن أكون إلى جانب هناء، فإذا هناء لا تحس بي، وكيف لها أن تحس؟ وأنا مهما أكن طالبا في الجامعة فلن أزيد على ابن عبد البديع، فإن احترمتني فأنا ابن عبد البديع أفندي ولا زيادة، شهور مضت وتلتها شهور، أفأظل هنا قابعا إلى فتاة ما أظن أنها ستحس بي يوما؟ أما آن لي أن أخرج إلى الحياة؟ لقد رفضت أن أشترك في أي نشاط في الكلية، حتى تظل فترة المساء كلها خالصة لهناء، ولكن ماذا جنيت من كل هذا؟ لا شيء، ضياع في مجالات الهوى، وضياع في مجالات المجد لقد رفضت حتى أن أشترك في نشاط الجماعة في الكلية، والله لن يكون هذا منذ اليوم، إنني إلى الحياة خارج، فافتحي لي صدرك أيتها الحياة! إلى أين؟ أين يمكن أن ألتقي بالحياة؟ علي أولا أن أحدد الجهة، إنها شارع فؤاد لا شك في ذلك، فالحياة تمور فيه مورا، والنسوة لا ينقطعن عنه ذهابا وجيئة.
ولكن أي منطقة في شارع فؤاد خليقة أن أجعلهما مرقبي؟ إنها تلك التي يقع فيها محل الأمريكين، إن هناك اتفاقا غير مكتوب بين الفتيات والفتيان أن يلتقوا في هذا المكان، فإليه!
دارت هذه الأفكار في ذهن سيد، وهو يختار أجمل ملابسه، ويضعها على نفسه، حتى إذا أتم زينته، خرج من باب حجرته، وصعد بضع درجات، فأصبح على سطح الأرض، أرض الحديقة، وتلفت حواليه فاطمأن إلى أن عم دهب غير موجود، فعبر الحديقة مسرعا يتحسس الجنيه الذي أوهم عمه دهب أنه سيشتري به كتابا لا بد منه للكلية، وبعد حين كان سيد عبد البديع يلوب في مكانه حول باب الأمريكين، والنساء يتهادين أمامه، يرى الواحدة منهن فيوشك أن يتقدم منها، ثم يثنيه عن الإقدام خوف راعد يملأ نفسه، وطال به الأمر وهو حائر لا يدري كيف يبدأ حديثه، وأخيرا رأى إلى جانبه فتى شديد الأناقة يقف في مكانه متحفز النظرات، لا تستقر قدماه على حال، ولا يستقر رأسه إلى جهة، فهو دائم التلفت، يتربص بالشارع جميعا، حتى مرت به أخيرا فتاة غيداء، أنيقة غاية الأناقة، ما كان سيد ليجرؤ أن يرفع إليها نظره، فهي حلوة المشية، متعالية رفيعة النظرات، لا تذكره إلا بهناء في ترفعها وكبرياء تصرفاتها.
اقتربت الفتاة منه ومن هذا الفتى الذي يقف إلى جانبه، وكان الفتى إليها أقرب، فسارع إليها قائلا: مساء الخير.
وذهل سيد حين سمعها تقول في هدوء: مساء الخير.
ماذا؟ مساء الخير! دون أن تضربه أو تدفعه عنها، أو حتى تسير ولا تلتفت إليه؟ أهي مسألة ميسورة سهلة إلى هذا الحد؟ مساء الخير، ثم أضع ذراعي في ذراعها ونمضي؟ وأنا هنا واقف منذ ساعات أقدم رجلا وأؤخر ستين رجلا؟ ما أغباني!
Bog aan la aqoon