وراح عبد البديع يقص على عمه الخير الذي سكبه عليه الباشا وابن أخيه وصفي بك، ولم يفته أن يذكر جمود سليمان، واتفق عبد البديع مع عمه على أن يكون الفرح بعد أسبوع، وأن يكون المهر ثلاثين جنيها، بدلا من العشرين التي كان متفقا عليها.
ولكن الصباح أقبل عليهم بمرض الباشا فتأجل الزواج، وجعل موعده شفاء الباشا، حتى يكون الفرح فرحين، وظل عبد البديع يتعجل هذا الشفاء حتى علم به وعلم بخطبة سهير هانم إلى سليمان بك، ففرح بخبر الشفاء فرحا غامرا، وإن اعترضت غمرته غصة بهذا الزوج الذي اختاره الباشا لابنته، ولكنه سرعان ما قال في نفسه: «أطال الله لنا عمر الباشا! ما لنا نحن ولسليمان».
وأقيم فرح عبد البديع وخلت الحجرة به وبزوجته وارتاح المضنى إلى المضنى بها، وهدأ اللاعج المستعر من هوى شب على السنين الطوال، وازداد أجيجه من نظرة عارضة عجلت بالزواج، وانصرف الجمع الذي ظل ملازما لباب الحجرة، يعلو خواره وتنشق حناجره عن أصوات مرتفعة تريد أن تلتهم في هديرها تلك الصرخة التي تودع بها الفتاة عهد العذارى.
خلت الحجرة بالزوجين وبدأت بهما حياة جديدة، جديدة عليهما، قديمة على العالمين منذ بدء العالمين.
وفي القاهرة، وفي ذلك القصر المطل على النيل، كانت العدة تعد لفرح آخر؟ ولكن أهو فرح؟ أيحمل من معنى هذه الكلمة شيئا؟ على كل حال هو زواج دعي إلى شهود حفله قوم كثيرون، هم خيرة أبناء مصر وقادتها، وسيحيي ليلته خير المغنين، بمبة كشر عند الحريم، وعبد اللطيف البنا عند الرجال، فهو فرح إذن! ولكن العروس، مصدر هذا الفرح وسببه، حزينة لا تعبأ من أمر هذا الفرح بشيء، وإنما هي جامدة لا تتحرك خلجات وجهها عن نأمة من بشر أو سرور، تسألها أمها عما تريد فتترك لها الأمر جميعه، لا تريد أن تساهم فيه بأكثر من تلك الموافقة التي قسرت نفسها عليها قسرا، ويسألها أبوها عن طلباتها فلا تزيد على الدعاء له بطول العمر، دعاء صادقا من عميق قلبها، وإن يكن صدقه هذا يخفي مشاعر أخرى لا تبين عنها لأبيها، كانت سهير لا تريد أن تشارك في هذا الجرم الذي تقترفه نكاية بنفسها أكثر مما ساهمت، فبحسبها إعناتا لنفسها وانتقاما أنها وافقت على الزواج من سليمان، أما أن تشارك في تجهيز نفسها لهذا الزواج، فهذا ما لا تطيق أن تفعل، لقد استنفدت جهدها جميعا لتقول لأبيها إنها تقبل هذا الزواج، ولم تبق منها بقية تجهز بها له.
وكانت الأم تعرف ما يعتلج بنفس ابنتها، ولكنها تكتم علمها ذاك فلا تبين عنه، فهي تخشى أن تشمت بها بنات زوجها، وهي تخشى أن تنكأ في نفس ابنتها جرحا تعرف أنه يسيل، وترجو من الزمان أن يرقأ دماءه المسفوحة، فهي صامتة تلهي نفسها بالشراء والإشراف على شأن الزواج وحفله، ولكن هذا الشراء وهذا الإشراف لا يمهدان لها وقتا طويلا، فقد تم الاتفاق على أن يقيم سليمان مع زوجته في قصر أبيها الباشا، فالأمر لم يعد محتاجا لغير أثاث حجرة نوم واحدة تستبدل بالقديم الذي كانت تنام فيه سهير، والشيء الوحيد الذي طلبته سهير هو ألا يباع أثاث حجرتها القديم، وألا يبارح الطابق الأعلى أو القاهرة إلى منزل الريف، طلبت ذلك ولم تبد لطلبها سببا، وأجيبت إلى طلبها دون أن تسأل عن السبب، لقد شهدت هذه الحجرة أسعد أيامها، وهي تريدها أن تبقى قطعة من سعادتها الذاهبة.
لم تكثر الأم إذن من الشراء، إنما هو أثاث حجرة واحدة فخم وضعته بدلا من أثاث حجرة سهير القديم، وابتسمت لسهير، وهي تقول: أما أثاث حجرتك القديم فهو كما طلبت، سيظل هنا معنا في هذا الدور، سأجعله في الحجرة المجاورة لك ينتظر الأولاد.
وذعرت سهير، الأولاد؟! وهل ستأتي بأولاد أيضا، نسيت سهير أن الزواج في غالب أمره ينتج الأولاد، الأولاد، أولاد منها ومن سليمان، لم تفكر في هذا الأمر إلا حين ذكرته أمها، وقد ظلت بعد ذلك ليالي تفكر في هذه الكارثة الجديدة التي ستصاحب ما وقع، وما أوقعته هي على نفسها من كوارث، وأوشكت، بل وهمت أن تقول لأمها ارفضوا الزواج، ولكن منعها خوف راعد، خافت الصدمة التي سيصاب بها أبوها إن هي قالت «لا» بعد «نعم»، وخافت أن يرغمها أبوها على الزواج إرغاما، وقد كان خليقا أن يفعل، فهو لا يقبل أن تمس كرامته بسوء وإن كلفه هذا حياة ابنته جميعها، وخافت أيضا أن تطفئ هذه الفرحة الغامرة التي تمرح أختها سميحة في أسكوبها، مظهرة أنها فرحة من أجل أختها، وقد غبيت أن أختها تعرف تماما بأمر حبها لسامي وحب سامي لها وانتظارهما زواجها هي ليتزوجا هما أيضا.
لم تكن «لا» إذن ذات فائدة، فقد فات حينها، بل إنها كانت خليقة أن تجعل الزواج يتم في ظلال قاتمة من الإرغام والقهر والزجر والتهديد، بدلا من إتمامه في ظلال من العطف والإشفاق والحدب والحب، نعم، فقد كان البيت الذي يتهيأ للزواج الجديد، مغمورا بهذه الظلال من العطف والإشفاق والحدب والحب، وهي ظلال كما ترى خالية من الفرح كل الخلو، فهي ظلال بلا إشراق، كان القصر المقبل على الزواج بعيدا عن الفرح كل البعد، ولم تجد الزغرودة التي كانت تطلقها بعض الخادمات من حين إلى حين، عندما يقبل العريس وينتظر عمه في الدور الأسفل، أو عندما تقبل قطعة من أثاث جديد أو قماش أو فستان للعروس، لا ولم تجد تلك الضحكة العريضة التي كانت تضعها الأم على شفتيها، لا ولم تجد هذه الرقة الحنون التي كان يصطنعها الأب كلما حادث ابنته العروس، بل ولم تجد الفرحة الحقة التي كانت تعيش سميحة في أنغامها، لم يجد شيء من ذلك في إشاعة قبسة من فرح في هذه الظلال التي كانت تسود القصر الذي يتهيأ للزواج الجديد، وإن تكن الظلال مسكوبة من عطف وإشفاق وحدب وحب، إلا أنها ظلال أبدا لم تعرف ومضة الفرح.
ومع ذلك جاء اليوم الموعود، وسمي اليوم يوم الفرح، واستقبل الأب اليوم أشد ما يكون إشفاقا وضيقا؛ فقد كان يعلم تماما ما تقاسيه ابنته، حتى لقد كان يوشك أن يقتل ابن أخيه هذا، كان يرى فيه جلاد ابنته الذي اختارته هي لنفسها في لحظة انهدمت فيها آمالها، لم يكن لفقر سليمان أي أثر في ضيق الباشا به، فهو ابن أخيه، وقد كان أخوه حبيبا إلى نفسه، ولقد طالما نهاه عن السرف والقمار والمضاربة ولكنه لم يستمع، بل أنه كان في كثير من الأحايين يدفع عنه ديونه وإن تضخمت ليبقي عليه أرضه، ولكنه لم يكن لينتهي حتى أنهى ماله جميعا وأتى عليه، فلم تبق منه إلا أوشال ضئيلة لا تعدو ثلاثين فدانا ملاصقة لأرض الباشا، ومع ذلك فقد كان الباشا يحبه، وظل يرعى ولده بعد وفاته حتى عاد من أوروبا، وكم كان الباشا يتمنى أن يكون سليمان على خلق سوي، وترفع عن الدنايا واعتزاز بالنفس، ولكن سليمان لم يكن، كان كل شيء إلا خلقا سويا أو ترفعا أو اعتزازا، كان هينا، هينا على نفسه، فرآه الناس أهون، وكان دنيئا لا يعرف السمو، وكان ذليلا يطلب الأمر اليسير فيبذل في سبيله كل كرامة، حتى لم تبق له كرامة، لا يعف عن قول خسيس، ولا تمتد آماله إلا إلى توافه الأمور بلا طموح، أكبر آماله هي تلك التي ينالها الآن، زواج من ثروة، وركون إلى هذه الثروة، واستزادة لها دون أن يفكر حتى فيما سيتمتع به في ظلال هذه الثروة.
Bog aan la aqoon