المهد
دخان الظلام
اليمامة
القرار الأخير
الخنافس
وراء العامود
تيزة أم عزيز
حملة القماقم والمباخر
الغد قادم أيضا
مؤامرة
Bog aan la aqoon
طبقات السعادة
مسافر بحقيبة يد
رجل أفلس
لحظة عابرة
عودة القرين
الرجل الوحيد
العودة
بيت المستشار
الرجل القوي
البهو
Bog aan la aqoon
ذوو الدخل المحدود
الحزن له أجنحة
العود والنارجيلة
لقاء خاطف
المهد
دخان الظلام
اليمامة
القرار الأخير
الخنافس
وراء العامود
Bog aan la aqoon
تيزة أم عزيز
حملة القماقم والمباخر
الغد قادم أيضا
مؤامرة
طبقات السعادة
مسافر بحقيبة يد
رجل أفلس
لحظة عابرة
عودة القرين
الرجل الوحيد
Bog aan la aqoon
العودة
بيت المستشار
الرجل القوي
البهو
ذوو الدخل المحدود
الحزن له أجنحة
العود والنارجيلة
لقاء خاطف
القرار الأخير
القرار الأخير
Bog aan la aqoon
تأليف
نجيب محفوظ
المهد
في حومة الهموم لا بأس من التماس الرحمة في رحاب الأشياء التي أحبها القلب. هي أيضا حقيقة، غرست جذورها في الوجود، ومن حق الحران أن يجفف عرقه ويبل ريقه. •••
المرح بين يد حنون وحضن حنون، الغفلة السعيدة عن الزمن، نيل المطالب بالتمني، التمرغ في بستان الحرية قبل الوعي بها، مسرة الوقفة والعثرة والضحكة، والأسئلة الكبيرة تنهمر اعتباطا، ما أكثر ما يعجب وما يسر! في الانتظار سوارس والترام والتروللي، تخترق قضبانه النحيفة الحدائق. ومن الورق تصنع القوارب الصغيرة، وتعوم في الجداول لتمضي مع المياه الوانية إلى البلاد المجهولة، والهمس لأضرحة الأولياء بأعذب أماني القلب، والاشتراك في حشو الأسماك بالتوابل ودهنها بالدقيق الملتوت، وإذا سمع أذان الفجر في هدوء الليل طرب القلب لاقتراب الصبح واللعب، وعلى الوسادة يرقد تمثال الرحالة المصنوع من الصفيح الملون فيسأله هل بلغ بلاد الواق ورأى العجائب؟ والأحباب كثيرون من باعة جوالة وزفة السيرك ومواكب الفتوات والأقارب الريفيين وأساطيرهم عن العفاريت وقطاع الطرق، ولكن لكل حكاية نهاية سعيدة. •••
وأول العشق يوجد في دنيا الأطعمة، والحلوى بصفة خاصة؛ البيت يجود بالمهلبية والأرز باللبن، والسخينة، والحليب، والشهد، والعسل الأسود بالطحينة، ومن الفواكه البطيخ، والشمام، والبرتقال، والعنب، والنبق، والخوخ، أما الشارع فيختص بالدوم، والتفاح المسكر، وبراغيث الست، والملبن، والفطائر، وفوق القمة البليلة والكسكسي، الحلوى فاتنة في ذوبانها ، ساحرة في نشوتها وسريانها في الحواس، وهي أول تدريب لعشق الجمال. ويمضي الصغير بملاليمه لا يشبع ولا يرتوي، يستقبل بفيه المشوق النهم ما لذ وطاب، ويتوج جهاده بالكنافة والبقلاوة والجاتوه والشيكولاتة. •••
وفي كلمة أو كلمتين نعرف سر الدنيا والآخرة. حقا إن المخاوف كثيرة، الظلمات محدقة، ولكن الله رحمن رحيم، ينشر عنايته الإلهية، فتحيط بكل شيء، وقد يسر لنا مفتاح الأمن والأمان، بالآية نتلوها، بالصلاة نقيمها، بالصوم نتقرب به إليه، فتصفو الدنيا وتحلو، وتهب الخير والبركة، ويتقهقر إبليس وجيوشه، وننتظر هناك الجنة ونعيمها. ولا بأس من أن نستزيد من الأمن والأمان بزيارة ولي، أو تعليق تميمة بالطاقية، أو بحرق قليل من البخور. «ما أيسر السعادة في الدارين لمن يشاء!» •••
ودعوة للخروج في صحبة الأب أو الوالدين هي عز المنى، في بدلة بحار يسير تياها. يجلس الأب في حلقة من الأصدقاء، بمقهى الجندي بميدان الأوبرا، وينعزل هو وقدح الدندورمة في الطرف. ينظر إلى الميدان وحديقة الأزبكية، وتمثال إبراهيم باشا، وأحيانا يتابع أحاديث الصحاب ويستمع بانشراح إلى ضحكاتهم. لماذا يقهقهون وتتراقص شواربهم المجدولة الأطراف؟ لا يدري، ولكن وجهه يجاملهم فيضحك. ويسمع أيضا أن فلانا طلق زوجته، وأن شارع الخليج كان يستقبل مياه الفيضان في زمن مضى، ويتحول إلى ترعة تشق وسط القاهرة. ويسأل أباه: مثل الترعة التي في لونا بارك؟
فيقول الأب ضاحكا: أنت من يوم ما عرفت لونا بارك والسينما، حصلت في دماغك لوثة.
ورأى في ميدان العتبة الخضراء موقف حمير، وهما في طريق العودة إلى الحي العتيق، فاقترح على أبيه أن يركبا حمارين بدلا من سوارس، ولكن الرجل سخر من رغبته قائلا: الله يخيب ذوقك، لا فائدة من محاولة تمدينك.
Bog aan la aqoon
ولكنه لم يضن عليه بشراء جهاز صغير خاص بصنع الدندورمة والجرانيتة، سهل الاستعمال، فكان يملأ وعاءه الداخلي باللبن المحلى حينا، أو بالليمونادة حينا آخر، ويلتهم الدندورمة والجرانيتة، ما يملأ حلة متوسطة. •••
وسطح البيت مملكة تنعم بحرية مطلقة، سقفه سماء الفصول الأربعة بألوانها المتباينة. وفي الأفق قباب عديدة ومآذن مفردة ومزدوجة، تستوي بينها مئذنة الحسين كالعروس بقدها الممشوق المنطلق. الكتاكيت تتجمع وتتلاصق تحت الشعاع، كأنها خميلة متكاملة الألوان، نقيق الدجاج يترامى من وراء الباب الخشبي، رءوس الأرانب تبرز من أفواه البلاليص المائلة. وأنت تجمع البيض في حجر جلبابك، وتقدم أعواد البرسيم للأرانب، وترمي الحب للكتاكيت، وثمة كرسي خيزران قديم نقول له كن سوارس، أو كارو، أو سيارة، أو طيارة فيكون بقدرة الخيال الطموح. والطشت يملأ بالماء فيكون بحيرة، والسلم الخشبي ينام على الأرض، فيصير قضيبا للترام. الوهم والحلم والحقيقة شيء واحد. وفي الصيف تنقل الأم الكانون والحلل إلى السطح تحت تكعيبة اللبلاب، فيشارك في اللعبة الجديدة بما يحلو له، يغسل اللحمة، يدق التوابل في الهاون، يخرط الملوخية، وفي المواسم يسهم في نقش الكعك ولت العجين وتسمين خروف العيد. ومن فوق السطح رأى الطيارة وهي تمرق في الفضاء، وأزيزها يملأ الجو، ولمح سائقها في حجم اللعبة الصفيح، ورأى القمر في الليل، ورصد ظهور ليلة القدر، ليكون من أهل الحظوة والسعادة. ورأى أيضا فتوات الحواري وهم يتصارعون كالوحوش، كما رأى التاريخ في مواكب ثواره وسمع هتافاتهم، وشاهد أعداءهم وهم يطلقون الرصاص بلا رحمة. وفي الليالي الحلوة والنجوم تزهر، تفرش الأم فروة تحت اللبلابة، فيتربع أمامها على ضوء مصباح يشتعل فوق الطبلية، ليسمع حكايات الإنس والجان. ومع أن أكثر الوقت يمضي في وحدة إلا أنه لا يمضي في صمت. حواره متصل دائما مع الكتاكيت، والدجاج، والأرانب، والنمل، ومع الجماد أيضا كالكرسي، والطشت، والسلم، والتمثال الصفيح، ويتجاوز ذلك إلى الخيالات والأشباح. ولكن السطح أيضا كثيرا ما يكون ملتقى الأهل والجيران، فيحلو السمر ويطيب الغناء، ويكثر اللعب مع الأقران من الذكور والإناث. وتلك العروس الصغيرة بنت أم علي الداية التي قادتهما الغريزة الكامنة الغامضة إلى طريق اللهفة المحفوف بالنشوة والحذر. •••
وموسم القرافة من مواسم الأفراح! أليس موسم الفطائر والزهر والريحان، والمسيرة بصحبة الوالدين في مهرجان حافل من النساء والرجال والأطفال؟ ويطالعك باب الحوش المفتوح على مصراعيه، فرش مدخله بالرمل ورش الماء. يضعون السلال في حجرة الرحمة، ويهرعون إلى القبر ليغطوه بالأزهار. إنه قائم بشاهديه كما كان لا يتغير، غارق في صمته وغموضه، مثير للحيرة وحب الاستطلاع. يمعن النظر في قاعدته لعله يطلع من منفذ عما في جوفه. جدود وأقارب لم يرهم، يرقدون في سلام، ويتلقون من الزيارة والتلاوة أنسا ورحمة. والوالدان يخاطبان القبر بكلام غريب وكأنهما يخاطبان أحياء يسمعون ويستجيبون. ويتلى القرآن، وتوزع الرحمة على الفقراء والشحاذين. ويتسلل إلى الخارج فيجد نفسه بين كثيرين من أقرانه، فيتجاذبون أطراف الأساطير، كل شيء يدعو للفرح؛ فلماذا تدمع العيون؟! •••
ولكن ما شأن هذه الجارة التي تلوح أحيانا فوق سطحها الملاصق لسطح بيتنا؟ تسقي الزرع أو تزقق الحمام، لها وجه أبيض منير، وشعر أسود غزير تضمه في ضفيرة طويلة مسترسلة، نظرتها جدابة باسمة، وروحها خفيفة فاتنة. هي أكبر منه بزمن طويل، ولكن أمه تخاطبها كما تخاطب ابنة لها. تداعبه بأحلى الكلام، وتتحفه بين الحين والحين بالملبن ونبوت الغفير، وإذا زارت أمه بصحبة أمها رفعته بين يديها وقبلته. وهو يخجل منها، ويرغب في المزيد منها. وكلما صفا له الوقت ملأت خياله، ومرة قالت له أمه بحضور أبيه: أنت تنظر إلى أبلة طول الوقت تريد أن تأكلها.
فقال: إنها جميلة. - وماذا تريد منها؟
تحير قليلا، ثم قال: أن أتزوجها!
فضحك الأب وقال: خيبك الله .. انتظر حتى تعرف كيف تكتب اسمك دون أخطاء. •••
ويعشق رمضان، والعيدين، ويحب الأيام في انتظارها. والكرار أول ما يبشرنا باقتراب شهر رمضان حين ترص بجنباته أجولة الياميش. وتهفو نفسه للصيام، ولكن الأم تمتنع عن إيقاظه وقت السحور. وتسمح له بالصوم عدد الساعات التي يستطيعها، فتدرب عليه رويدا حتى شرع فيه جادا في السابعة ومعه الصلاة. وتلاشت آلام الصوم في مسرات لا حصر لها؛ السحور، والإفطار، والفوانيس، واللعب ما بين الميدان والحسين وترديد الأناشيد. في الأيام الأخيرة من الشهر يمضي به أبوه إلى السكة الجديدة، إلى محلي جاكويل وجوستر، فيشتري له بدلة جديدة وحذاء جديدا يحفظهما لصباح العيد، ويتفحصهما بحنان، ويشمهما بوجد متلذذا برائحة الجلد والقماش الجديدين. وحلق الشعر، والحمام ، وأخذ الزينة الكاملة، والانطلاق إلى ميدان الأفراح، والزمامير، والأراجيح، والكعك والغريبة، والعديات، وزيارات الأقارب والأحباب. وسينما الكلوب المصري، وشارلي شابلن وماشست. أما عيد الأضحى فيشهد صداقة جديدة مع الخروف كما يشهد الغدر به في فجر اليوم الموعود، إفطاره شواء وغداؤه فتة ورقاق، وفي تلك الأيام بدأ حب الله يطرق القلب الصغير مع حب الجارة المليحة واهبة القبلات والملبن. •••
ولذة الحواس أشمل من الطعام والحلوى. أول خضرة أطلت من تكعيبة اللبلاب، وأصص القرنفل. والتروللي يشق طريقه في حقول حدائق القبة، يدفعه سائقه الحافي. الخضرة والأزهار تهب القلب فرحة طائرة ومناجاة عذبة، والجداول توقظ ذكريات الروح. وروائحها الفاتنة عرفها أول ما عرفها عند تقطير ماء الزهر والورد من خزان المياه في حمام البيت القديم. أما مسرة الأذن فحديثها يطول. تنهمر من الأفراح والليالي الملاح، والفونوغراف مرددة تلاوة المقرئين، وطقاطيق العوالم، وأغاني عبد الحي حلمي، والمنيلاوي، وصالح، ومنير، والبنا، وسيد درويش، فيما سبق أم كلثوم وعبد الوهاب، ولكل مسرة موضع تعيش فيه وتبقى. •••
وسينما الكلوب المصري متى وكيف ملكت الفؤاد؟ كيف انضمت إلى رصيد الحب والأحباب حكايات الغرب الأمريكي، وخفة شارلي شابلن، وقوة ماشست، وجمال ماري بكفورد؟ سحر وحلم، حسبته أول الأمر حقيقة وأنه يوجد في مكان ما وراء الشاشة في خان جعفر أو حارة الوطاويط. سلمت بعد ذلك بأنها صور، ولكنها منقولة عن وقائع حقيقية لا روايات خيالية. وددت لو أقضي العمر أمام الشاشة مع الأبطال. وعشقت ماري بكفورد، وأرضاني تشابه مراوغ بينها وبين جارتي المليحة. وصدقت بكل حماس أن وليم هارت اسمه الحقيقي علي الديان، وأنه أصلا من باب الشعرية! وجيء لي بجهاز عرض صغير يدار باليد، ويضاء بمصباح غازي، ويزود بشرائط قصيرة منزوعة من الأفلام في غفلة من أصحابها، فرحت أديره في غرفة السطح الصغيرة التي أصبحت بفضله مرتادا لبنات الحي الصغيرات. •••
Bog aan la aqoon
وتقليد التجارب المثيرة لذة أيضا. الأب أول من قلدت والأم أيضا. وقبل ذلك فترة يسيرة ثم انقطع بالزجر. وسيدنا شيخ الكتاب ومقرعته، ألف المنديل حول رأسي كعمامة، أتربع على صندوق، وتجلس الخادم على الأرض بين يدي، أحاكي صوته وألوح بالعصا، وألقي الدرس، وأسمع وأعاقب آخذا ثأري من كل ما لحقني في يومي الثقيل، أو أغطي الصندوق بملاءة فيكون قبرا، وأخاطبه كما يخاطب والدي القبر: «السلام عليك يا أبي، والسلام عليك يا أمي»، وأتلو ما تيسر، وتنزعج أمي لذلك غاية الانزعاج وتنهال علي باللكمات. وأقلد الفتوات لاعبا بالعصا في الهواء، وأقلد المتظاهرين هاتفا بحياة سعد، وسقوط الحماية، وأقلد الباعة، والعوالم، وبعض الزائرات ذوات اللوازم الغريبة، وأحيانا أقلد «الردح» الذي يصدم سمعي في الميدان، ويهزني ما أثيره من سخط أو إعجاب تبعا للظروف والأحوال. •••
والجولات السعيدة في مساكن الإخوة والأخوات، تنطلق بنا من الحي العتيق إلى أحياء جديدة كالحدائق، والسكاكيني، والظاهر، وغمرة، في مسكن ألقى رجلا غريبا، وفي آخر أجد امرأة غريبة، ولكننا نقابل عند الجميع بالحب والترحاب. وهناك المواليد الجدد، يرقدون في المهد أو يحبون، وأنا بالقياس إليهم رجل بالغ الرشد. وتنهال علي القبلات والحلوى، وألاعب الصغار تحت رقابة مشددة. وتختلف درجات الحب بالنسبة إلي بين بيت وبيت، فبيت يتراءى لي وكأنه امتداد لبيتي في ألفته وحرارته، وآخر لا يخلو من شيء من التحفظ الذي لا يشعر به سواي، ولكنها بصفة عامة أسرة متماسكة متوادة متحابة، لا أذكر أن نبت في أرضها الخضراء شوكة واحدة، وشد ما أحببتهم جميعا كما أحبوني. •••
ودنيا الآثار العجيبة طفت بأرجائها المترامية، قبل أن ألتحق بأية مدرسة. وعندما عدت إليها في الرحلات المدرسية كانت عودة إلى أرض العجائب، التي نقشت رموزها في القلب والخيال إلى الأبد. الخطوة الأولى بدأتها مع الأب، ثم وقعت الأم في شباكها، فصارت من طقوس تقواها الأضرحة والمساجد الأثرية، وبعض الكنائس، وتكايا الصوفية، والأهرام، ودار الآثار الفرعونية، والإسلامية، والقبطية، كم حركت من خيالي وأثارت من شجوني. وحديث أبي عنها موجز جدا وجاف، أما الأم فلا أدري من أين جاءت بكل تلك الأساطير عنها. وأطول وقت قضيناه في حجرة المومياوات المحنطة، تنحني فوق التابوت متفحصة المومياء بخشوع وأسى، وأسألها: أهم أحياء ؟
فتقول: أموات من زمن بعيد. - هل أهلنا في القبر مثلهم الآن؟
فتقول بجدية: الله أعلم بحالهم.
وأسأل باهتمام: هل كلنا سنموت؟
فتقول باسمة: بعد عمر طويل إن شاء الله.
ولعل جوابها طمأن قلبي! •••
والصداقة من نعم الحياة الكبرى. دائما وجد الصديق، فوق السطح، في الميدان، في الحارة. ومنهم العابر، والمقيم. من العابرين أقرباء ينزلون عندنا إذا جاءوا من الريف، ومن أبناء العم والعمة. نلعب معا في البيت وخارجه، وأكون لهم مرشدا لحي الحسين فيسيرون ورائي كالسياح - ونحن نقزقز اللب - من بيت القاضي إلى خان جعفر، إلى الحسين، والسكة الجديدة، والغورية، والصاغة، والنحاسين، والوطاويط، وقرمز، والكبابجي، وبين القصرين، وحارة الشوام، وقصر الشوق، والسكرية؛ ثم نتفرج على المجاذيب عند الباب الأخضر. أما المقيمون فكثرة ترهق الحصر، ولكن يتصفون باللطف والمسالمة في أغلب الأحوال. يحبون السباق والجري وراء عربات الرش، وحكي الحكايات، والترنم بالأغاني الجماعية، يتميز بينهم بالأناقة أبناء دكتور العيون، والشيخ بشير والد فاتنتي. ولم يخل التجوال من لقاء من نطلق عليهم أبناء الشوارع، وهم رغم أسمالهم البالية، وأقدامهم الحافية على قدر كبير من خفة الروح، أما خرقهم للتقاليد المرعية فلا حدود له، يرددون الأغاني الفاحشة فنشعر بالفطرة أنها ترشح من يحفظها للنار وبئس القرار. ويوم يمر دون لقاء مع أولئك أو هؤلاء لا يحسب من العمر. •••
حتى تلك السن المبكرة جدا لم تخل من الحومان حول الجنس الآخر، والانسياق مع جاذبية المغامرات الخاطفة، واكتشاف كنوز الفواكه المحرمة، تتم في حذر يفضح الشعور بالإثم، والوعي لحد ما بالذنب. ودعك من فاتنتي التي تتخايل في حصنها كالحلم، فهناك حجرة السطح وبئر السلم يشهدان حوادث مثيرة وغير نادرة، فضلا عن أن سحر النساء ينفث نداءاته الغامضة في عمق وسرية وبلا انقطاع، وغير مفرق بين غريبة وقريبة، يافعة أو ناضجة. •••
Bog aan la aqoon
فترة خاطفة تبدو لعين الحالم خطوة أولى في طريق بلا نهاية. خطوة تمهيد ليس إلا، ثم تتلوها المدرسة، والمراهقة، والشباب، والنضج، والشيخوخة، الحياة بكل أبعادها المتاحة. لكن مهلا .. هي فترة قصيرة ولكنها تحمل أجنة احتمالات لا تعد. تشهد مولد الأسئلة الخالدة، والحب، والجنس، والصداقة، والقيم، والحياة، والموت، في رحاب ذي الجلال. ألحان أساسية تنمو وتتنوع مع العمر، تتلقى من البحر الثري أمواجا متدافعة، وآفاقا مترامية. توزعنا الأهواء والتأملات، الحلم والأفعال، الانكماش والاندفاع، ولا نتخلى عن الرغبة الأبدية في الاهتداء إلى مصباح يضيء لنا طريق المصير.
دخان الظلام
رأيتني في رحلة مرحة من رحلات الزمان الأول. يبدو أن اليوم من أيام الشتاء اللطيفة؛ فالسماء صافية والشمس حانية. توافدنا على الميدان كما تواعدنا رغم الموت الذي فرق بيننا، بأيدينا حقائب صغيرة من الخوص المجدول الملون ملأى بالأطعمة والأشربة. زقزقت حناجرنا بالضحكات، وعبرنا حدود الميدان الشرقية المفضية إلى الخلاء، وعيون المياه وراحة النخيل والحناء. كالعادة يمضي النهار بصحبة الطعام، والشراب، والسمر، والطرب حتى ينهكنا السرور، ثم نعود بالحقائب الخاوية إلى الميدان عند الأصيل. الآن الشمس تنحدر نحو الأفق، ولفحات من البرودة تهب، ولكن في دماثة وعذوبة. تبادلنا تحيات الوداع، وتفرق الأحباب بين الطرقات المفضية إلى بيوتهم. تمهلت بعض الوقت مطمئنا إلى قرب بيتي من الميدان. وجدت نفسي شبه وحيد لندرة العابرين آخر النهار. واتجهت نحو طريقي التي تصب في الميدان كسائر الطرق. سرت وأنا في غاية من الشبع والرضا بين صفين من الأسواق والوكالات والورش، للبيع والشراء والصناعات والحرف، فيه تختلط أصوات العملاء بأزيز المواقد ودق المطارق. لا يسكت ضجيجه أو تتلاشى حركته إلا بعد هبوط الليل، وذهاب الحافلات، واستقرار النقود في الخزائن. هو الشارع الذي حلمت فيه بالنضج والعمل، وأسعدني كثيرا التجول في جنباته. ولما شارفت نهايته دهمني منظر سد من الأحجار أغلق مخرجه بإحكام. ذهلت وغضبت، وتساءلت متى قام هذا السد؟ ومن الذي أقامه؟ ولأي غاية صنعه؟ وتلفت حولي فلمحت عند زاوية السد اليمنى شخصا يجلس وراء مكتب خال إلا من تليفون. ولما استقر بصري عليه تسمرت في مكاني من هول ما رأيت. طالعني وجه غليظ بصورة تتحدى أي خيال، وفي موضع الأنف ينطلق خرطوم قصير على هيئة خرطوم الفيل، تحت عين واحدة غائرة تستقر في منتصف الجبين. تراجعت فزعا وأنا أتساءل: أهو إنسان أم حيوان؟ وأي نوع من الحيوان يكون؟ وأرى الناس منهمكين في شئونهم لا يعيرونه التفاتا، فملكتني الحيرة، وداخلني خوف من المكان كله. وطويت حيرتي في صدري وانحصر تفكيري في النجاة بنفسي من هذا الشارع الذي توهمت خطأ أنه سبيلي إلى بيتي. وجدتني مرة أخرى في الميدان فصادفني عابر سبيل، فاعترضت طريقه مستغيثا به. أشرت إلى الطريق المسدود وسألته: ماذا يجري في هذا الطريق؟
ولكنه حدجني بحنق لاعتراضي سبيله، وهتف بي: عن إذنك، لا وقت عندي للكلام الفارغ!
ونحاني جانبا ومضى. وبدوري لم أعد أفكر إلا في العودة إلى بيتي مؤجلا أي شيء إلى حينه. لا شك أن الرحلة أدارت رأسي؛ فلعل طريقي هو التالي. أية دهشة ستدرك الأصدقاء عندما أروي لهم ما رأيت. وفي الحال ولجت مدخل الطريق الثاني. إنه أضيق من الأول، لم أستدل بملمح من ملامحه على أنه حقا طريقي، ولكني لم أعدل عن السير لارتيابي الطارئ في سلامة ذاكرتي. وهو شبه خال أيضا. أجل، تقوم على جانبيه مقاه صغيرة متباعدة، ولكن لا يكاد يرى أحد في ساحته. وسطعت من مقاهيه روائح غريبة نافذة ومؤثرة، وتراءى الجالسون وكأنهم لا يسمعون، ولا يرون، ولا يشغلهم شاغل، أو يربطهم بالحياة رابط. أوسعت الخطى هربا من قلق زاحف. ولما دنوت من النهاية تسمرت قدماي للمرة الثانية. سرت الرعدة في أوصالي، ولم أصدق عيني. إنها حوقة من الهياكل العظمية، ترقص رقصة جماعية شعبية. إنه الموت يرقص أمام عيني بلا موسيقي تصاحبه. عدت جريا قبل أن يغمى علي. ماذا جرى للدنيا؟ وكيف أعثر في هذا الضياع على شرطي لأستنجد به؟ لأذهبن إلى قسم الشرطة قبل ذهابي إلى بيتي إذا تخلصت من ورطتي الخانقة. ولم يخل الميدان من عابر أو عابرين، ولكني تذكرت الدرس القاسي الذي تلقيته على يد الرجل الأول، بالإضافة إلى أنني لم أعد أثق في شيء. لم يعد لي من هدف أهم من الرجوع إلى بيتي. وهذا هو الطريق الثالث فلأجربه وأمري لله . إنه على أي حال طريق حي تتردد فيه أنفاس العشرات من البشر. ربما يكون طريقي الذي ضللته. منه تترامي نداءات الباعة على كل ما يؤكل أو يشرب. الزبائن يقبلون خفافا ويذهبون محملين بالقراطيس والأكياس واللفائف. سرت مسرعا يشدني شيء من الأمل، ولكن ماذا أرى يا ربي؟ من الزبائن من يذهب وهو يجفف دموعه، أو من يتلوى كالملسوع صارخا، أو من يرمي بجمرة دست في قرطاسه، ثم يمص أصابعه ليبترد، تألمت وتشاءمت ولكني لم أتوقف. لم أتوقف حتى رأيت في نهاية الطريق بياع لحمة رأس يرص على طبليته مجموعة من الرءوس الآدمية. ندت عني صرخة فزع. انتبه البياع إلي وراح يحملق في رأسي. ارتعدت أوصالي ووليت هاربا لا ألوي على شيء حتى وجدتني في الميدان. رباه! .. هل جننت؟ .. لم يبق إلا الطريق الرابع وهو الأخير، فما الحيلة إذا خانني الحظ فيه أيضا؟ وهتفت بصوت جهير: ماذا حدث للدنيا؟
وإذا بصوت غاضب يصيح بي: أفزعتني لا سامحك الله!
ونظرت نحو الرجل معتذرا، وأومأت إلى الطريق الأخير قائلا في توسل: لا تؤاخذني، إني مرهق وفي حاجة إلى رفيق.
فنظر إلي بارتياب وقال: آسف، فتوكل على الله.
وابتعد عني وهو يتلفت في حذر. لم يبق إلا أن أجرب حظي. المغيب يهبط ولا راد له. والطريق ليس بطريقي، ولكن بحسبه أن يوصلني إلى العمران. وهو شارع كبير ومثير، ويتسم بالفخامة والرونق. ويمكن أن تسميه بشارع المقاهي الفاخرة. وأسماء مقاهيه المرسومة بالمصابيح الكهربائية تنطق بالصراحة والصدق والتحدي. مقهى النشالين، مقهي النصابين، مقهى القوادين، مقهي الرشوة الوحيد. لأول مرة أبتسم. ليكن من أمرها ما يكون. المهم أن أرجع إلى بيتي، ولتذهب المقاهي بمن فيها وقحتها المعلنة بلا حياء إلى الجحيم. مضيت في خطى تدفعها اللهفة والأمل. ولأول مرة أرى في نهاية الشارع ما يطمئن القلب، ويسكن الخاطر. رأيت قوة من رجال الأمن تحت قيادة رجل مهيب. لم يساورني شك في أني بصدد هجمة حازمة هدفها التأديب والتطهير. وصحت في جذل: ليحفظكم الله، هل علمتم بما يجري في الطرقات الأخرى؟
ولكني تلقيت وابلا من نظرات باردة جافة منذرة بالويل والشر. وخيل إلي في ذهولي المباغت أن ثمة تحفزا لإلقاء القبض علي. وداخلني شك في هويتهم، فوليت الأدبار جريا بغير توقف غير غافل عن أنه لم يبق لي منفذ جديد للخلاص. وبلغت الميدان والظلام ينتشر. غرقت في مستنقع الحيرة ولا طوق نجاة معي. وليس الميدان خاليا فيما بدا، ولكن شغلت جنباته أشباح وفيرة، وملأت جوه همهمات غامضة، ثم ندت عنها هتافات غاية في التضارب والتناقض غاضبة متوعدة، متحفزة للقتال في الظلام البهيم. استشعرت الخطر، وما من سلاح معي سوى حقيبتي الخاوية. من أين جاء هؤلاء جميعا؟ وماذا يرومون؟ أهم أصدقاء أم أعداء؟ من الخلاء وفدوا أم من الشوارع الوحشية المعربدة؟ وتخلل الهتاف أصوات من نوع آخر؛ أغاني خليعة، وأناشيد دينية، وموسيقى عسكرية. وضاق صدري ضيقا فأوشكت أن أختنق. وركبني شعور بالضياع والخسران والقنوط. من شدة غيظي، وجهت بجامع قبضتي ضربة إلى أم رأسي. •••
Bog aan la aqoon
وفجأة تلاشى الجحيم فيما يشبه المعجزة. تلاشي فجأة وبلا تدرج، هبطت اليقظة من مملكتها الحرة بالسماء .. يقظة مضيئة مفعمة بالعذوبة والسلام والطمأنينة، مرحة، مريحة، سعيدة تنضح بالمودة والهناء. مددت بصري نحو النافذة، فرأيت الأفق يزدهر بحديقة الشمس المشرقة.
اليمامة
ألعب تحت شجرة البلح عند الأصيل. مغروسة في موضعها من قبل أن يشيد بيتنا بزمن طويل. عندما تهب الريح يلاطم غصن من أغصانها مشربيتنا. وتطل أمي علي من حين لآخر كيلا أبتعد عن الميدان. لما أكون وحيدا أغني أو ألاعب نفسي السيجة. ذات يوم تهبط علي غمغمة ممطوطة منغومة فيهتز لها قلبي. اليمامة تبعث لحنا، أعرف شدوها، وأحبها حبا جما. أرفع رأسي المغطى بطاقية مزركشة فأراها مستقرة ناعمة البال عند أصل غصن. لها لون الدوم، وفي وداعة النسمة، ووحيدة مثلي، ولكنها لاهية عن حبي. أترنم في شغفي:
يمامة حلوة
ومنين أجيبها
طارت يا نينة
عند صاحبها
إنها من أغاني المفضلة. ترى أأحب اليمامة لافتتاني بالأغنية أم أحب الأغنية إكراما لليمامة؟ أقول لها بتوسل: اهبطي .. لا تخافي .. عندي الأمان كل الأمان .. عندما أذهب إلى الكتاب أودعك سريري الصغير.
يبدو أنها لا تعرف لغتي. سارحة في دنياها الخضراء، ولسبب ما تطير بغتة فتقطع نصف الميدان، ثم تحط على سور الزاوية الصغيرة على كثب من قبة الضريح. أندفع جاريا تحتها بجلبابي المقلم، وصندلي العتيق غير منتبه لما تحت قدمي. لا فكرة لدي عن صيد اليمام، ولا يحركني إلا الحب. أقف أسفل سور الزاوية على قيد أشبار من المدخل. أبتغي الوسيلة إلى بلوغ المرام بتلاوة الفاتحة. لكن من المؤكد أنها لا تأبه لي، أو أن الحذر خالط هواجسها. لا تريد أن تمكث فوق السور حتى أسترد أنفاسي فتطير مرة أخرى. أجري تحتها وأصوات خشنة تهتف بي «يا ولد .. فتح عينك».
وتحط اليمامة على حافة شرفة مدرسة خان جعفر. أقف تحت شرفة المدرسة، بصري متعلق بها، وأنسى تماما تعليمات أمي المشددة. وأتساءل: ماذا يخيفك مني؟
Bog aan la aqoon
شد ما تحزنني لامبالاتها! فضلا عن أنها لا تريد أن تستقر على حال، فما هي إلا لحظات حتى نطير معا، هي في الفضاء، وأنا فوق الأرض الغائبة عن بصري. وأستيقظ على فرقعة سوط فأنتبه إلى قدوم كارو أوشك أن أصطدم بها. أتفادى منها على عجل، وسباب السواق يلاحقني. عيناي مشدودتان إلى محبوبتي حتى تهبط فوق غطاء دكان لبيع البقالة والسجائر والخمور. أقف وأنا ألهث غير ملق بالا إلى الزبائن. ما أطول المسافة التي قطعتها ولكن طولها نفسه يحرضني على الاستمرار. ربما يساورني شيء من الضيق والكدر، ولكن الأمل لا ينقطع. وأقول بعناد: وراك .. وراك .. مهما طال الزمن وراك.
سوف تحاسبني أمي علي اختفائي، ولكن سرعان ما يتلاشي غضبها عندما ترى اليمامة في حضني. وها أنت تطيرين للمرة الرابعة يا قليلة الرحمة فأجري أنا كالمجنون في إثرك. أكاد أعثر هذه المرة بشيء فوق سطح الأرض ولكن الله سلم. أتبعها بإصرار حتى تهبط فوق حافة شباك المستشفى. الدنيا زحام، عشرات يدخلون وعشرات يخرجون. يختلط الدعاء بالشكر بالبكاء. أغرق في تيار البشر، ولكن عيني لا تتحولان عنها. يخيل إلي أنها ترمقني، إنها الآن تعرفني أكثر من أي وقت مضى. وأسألها: ألم تشبعي من الطيران؟!
لكنها تطير للمرة الخامسة، دون أدنى اكتراث بي. أطلق ساقي في عناد يقهر أي تعب. وفجأة تزل قدمي في نقرة فأندلق على وجهي. أنهض مسرعا متوجعا والدم ينز من ركبتي. يمزقني ألم قاس، فأفحم في البكاء كالأطفال. لكني أنظر من خلال الدموع الى أعلى. أحس بعوج في كاحلي يمنعني من الجري. وتجول عيناي في الفضاء، فلا ترى أثرا لمحبوبتي الهاربة. أنتبه إلى ما حولي فألمس العتمة في الخلاء المحدق بالمدينة. تختفين بعد مشوار طويل مبلل بالعرق والدموع؟ ويتبين لي أن الخلاء ليس بالغريب علي؛ فطالما أقطعه حاملا الخوص بصحبة أمي ونحن في طريقنا إلى المقابر. ولم أجد من الخلق إلا أحادا عابرين. وها هو المساء يهبط بكل جلال.
القرار الأخير
رجل جاد لا موضع فيه للمرح. رجل يحب الكمال بإفراط مهلك. وقيل عنه أيضا إنه وحش، لم ينبض قلبه بنبضة رحمة واحدة، ولو على سبيل الراحة. يوم مات انتشر الخبر في الحي كالشعاع الحار مفجرا مزيجا من الدهشة والرهبة والارتياح. وثارت شكوك حول حقيقة موته، فتهامس جيران بأنه قتل. وتصاعد الهمس حتى شرحت الجثة قبل دفنها. وثبت أنه مات كما يموت كثيرون بنزيف في المخ، ورغم ذلك ألصقت بابنه تهمة قتله، واشتهر الشاب في كل مكان يحل فيه بقاتل أبيه، وحلت به اللعنة في هالة من عطف كبير. ويهتف الشاب: كل واحد يعرف أن التهمة كاذبة، ولكن كيف أدفع اللعنة؟!
ألم يلكم أباه فيطرحه أرضا؟ ماذا يهم بعد ذلك أن يموت الرجل من أثر اللكمة أو يموت حزنا وكمدا؟! وعلى ذهول الشاب وكآبته فإنه لم يعلن ندمه، وصارح كل مخلوق بأنه كره أباه حيا وميتا. كان رجلا يستحق المقت. قيل إنه عشق الكمال، وأصر على أن يتحلى بالكمال كل من خرج من صلبه، فمن كان ذلك الرجل الذي هام بالكمال لحد الجنون؟ كاتب حكومي لا أكثر، الابتدائية غاية تحصيله، قرأ بعض كتب الرواد فراودته أحلام بأجنحة وبلا أقدام. أفلتت منه الفرص، وذاب في الزحام، فأراد أن يجعل منا؛ أنا وأخي الكبير، وأختي أمثلة حية للكمال البشري. صدقوني، لم يكن إلا مجنونا. لا خبرة له على الإطلاق بالتربية، ويؤمن بأن القوة هي الوسيلة السحرية لخلق المستحيل. كم من مرة صب زوبعة غاضبة على أمي لأن طبق طعام بات دون غسيل، أو خصلة من شعرها الكستنائي تسربت من حافة المنديل. أخي الأكبر جلد بقسوة مرات لأن ترتيبه تأخر عن الأول، وأختي الجميلة تعرضت لنفس العقوبة دون اعتبار لرقة أعضائها وتوفر نضجها. وهو يجلد إذا جلد بوحشية المتعطش للانتقام لا حكمة المربي الزاجر. ولم يكن يبتسم، دائما يعلوه الحزن، وكأنما يتوقع قدوم موت وشيك. عشنا في رعب، عشنا بلا حب، نتبادل نظرات التشكي، وأمنا تتأوه باكية وتصيح: أنت تهلك الأولاد، ربنا لن يسامحك أبدا.
فيرد عليها بصوت كالرعد: اسكتي يا داعية الانحلال.
وقالت له مرة: أنت أسوأ أب.
فصاح بها: ما أنت إلا امرأة سوء .. والموت عندي خير من الضياع.
وذاعت أخبار بيتنا بين البيوت، قالوا إن في بيتنا محكمة تفتيش منعقدة بصفة مستمرة. ولم يكن لديهم ما يأخذونه عليه كجار؛ فهو يشيع الأموات، ويعود المريض، ويبرق مهنئا في الأفراح. لكنه لا يذهب إلى المقهى، ولا يوثق علاقة بأحد، ولا صديق له. يؤدي فريضة الجمعة في المسجد، يتبادل بعض التحيات في تحفظ، وسرعان ما يرجع إلى مسكنه. وتجرأ عليه جار يوما، فاعترض سبيله ليعترف له بأن صراخ أبنائه يكدر صفو حياته، وأن التربية تقوم على الحزم والرحمة معا، ولكنه عبس ومضى مقاطعا الحوار. وبلغ حزننا مداه عندما قبلت أختي زيجة غير متكافئة لا لشيء إلا أن تهرب من قبضة أبيها الحديدية. لا السن مناسبة ولا الشكل، ولكنها وجدت في جواره الكئيب النجاة. وذهب أخي الأكبر ذات يوم ولم يعد. اختفى من حياتنا فلا هو حي، ولا هو ميت. وتحطم قلب أمي. أما أبي فقد ثار غضبه طويلا، ووجم أحيانا، ودارى هزيمته بكلمة فظة انطلقت من فيه كالحجر، صاح: في داهية!
Bog aan la aqoon
هل يتغير سلوكه مع الابن الأصغر؟ لا يبشر وجهه بأي خير. والولد على صغره لم يسلم من الجلد، ولكنه استعد للدفاع بطريقة تلقائية. راح يدرب جسمه تدريبا رياضيا ويتمرن على الملاكمة. واتسع له المجال في ذلك داخل المدرسة وخارجها. واصل استعداده لمواجهة يوم أسود أغبر. والرجل رغم كهولته متين البنيان، وتمده التقاليد بقوة متجددة. والولد من ناحيته حزين على أمه وأخته وأخيه حزين. وعمل ألف حساب ليوم ظهور النتيجة، ولكنه انتظره بعضلات متوترة وقبضة متمرسة. كرهت بسببك العلم والحياة. أتخيلك تماما وأنت تنتظر قدومي، إليك بالأخبار.
قلت دون تحية: سقطت.
صمت وقتا ثقيلا ثم تساءل: هل تعرف ماذا يعني هذا؟
فقلت بنبرة حادة لم يسمعها من قبل. - لا يهمني أن أعرف!
هب قائما أحمر البصر. أقبل نحوي بسرعة، وبكل ثقله. تلقى أول لكمة في حياته من حيث لا ينتظر. تهاوي وهو يشهق فيما يشبه الإغماء. أمي صوتت. لم أنبس بكلمة. غمرني شعور باليأس والتحدي. جاءت أمي بقارورة كولونيا، وجعلت تدلك وجهه. ساعدته على القيام ومضت به نحو الفراش وهي تصيح بي: أنت مجنون وملعون.
وانفجرت باكية. فكرت في الاختفاء مثل أخي، ولكن موته لم يمهلني. وثبت أنني لم أقتله، ولكنني قاتل أبيه في نظر الجميع حتى المتعاطفين معنا. أورثنا موته هما لا يقل عن جنونه حدة. وطلقت أختي، ورجع أخي دون أن يستقر في عمل يليق به، وماتت أمي، وكنت الوحيد الذي أتم تعليمه وتوظف، ولكني أتعس الجميع.
الخنافس
أول ما ترددت الشكوى في المنزل رقم 4، ومنه انتقلت إلى رقم 9، ثم إلى رقم 22. ولم يكن يمضي أسبوع حتى انخرط الحي كله في ترديد الشكوى. يعثر شخص على خنفساء، ساكنة أو متحركة، فيهرسها دون مبالاة. في اليوم التالي يرى اثنتين وربما ثلاثا. ما هذا الوافد الجديد؟ بل تصبح ظاهرة تثير الضيق والحيرة، ويشملها السمر في المقاهي. - لا خوف منها، ولكن لم تظهر بكثرة على غير عادة؟ - ولا تنسوا ما يقال من أنها تجذب وراءها العقرب.
تواصل القتل بلا هوادة، سهرت أعين الرعاية حول الأطفال والصغار، وباتت الخنافس الشغل الشاغل والحديث الغالب. واستمر تكاثرها، وانتشر الخوف منها ومن العقارب. ورجع بياع جوال ذات مساء وقال: إنهم يحطمون الأحجار فوق الجبل بالديناميت، ومن الجبل تنهال علينا هجرات سكان الجبل بادئة بالخنافس.
ثم واصل بعد لحظة صمت: وتتبعها بعد حين العقارب والحيات!
Bog aan la aqoon
إنه قضاء يتحدى الحي، ولا بد من دفاع من نوع ما. واتجهت الآمال أول ما اتجهت نحو المحافظة. وفي الحي موظفون ومتعلمون، فما علينا إلا أن نجس النبض، والله المستعان. لكن الشكوى لقيت من المحافظة استخفافا وسخرية، أتريدون أن تعطلوا المصلحة العامة خوفا من خنفساء؟! أما ما يقال عن العقارب فما هو إلا خرافة من خرافات الأولين. هذا والخنافس تتكاثر والقتل يستفحل حتى حلف الحلاق أن جثث الخنافس جاوزت بالأمس المائة في مسكنه. وفازت غرف النوم بعناية مركزة، وعرضت للتفتيش الدقيق الحشيات والأغطية والوسائد، فما يحتمل أحد أن يستيقظ من نومه على زحف خنفساء فوق جبينه أو اندساسها بين شفتيه، وقال رجل: لولا أزمة المساكن ما بقيت هنا يوما واحدا.
وقال آخر: سكنى المقابر أفضل وآمن.
وراجت تجارة المبيدات، وانهالت الاستشارات علي الصيادلة، أما جموع الخنافس فلم تتوقف أو يعترها ضعف، وانتشر لونها في مواقع فصبغتها بالسواد، إضافة إلى الرائحة الكريهة، وعندما تجيء العقارب فقل علينا السلام. وحل اكتئاب عام كأنه غبار تحمله الخماسين، فقد الناس المرح، واشتدت حساسيتهم لأقل سبب، يتشاجرون حتى مع أنفسهم، وفي البيوت توترت الأعصاب، وتعددت أسباب النزاع، وكثر الحلف بالطلاق، وضرب الصغار لأتفه الفعال. وكل شخص قال إن العقارب آتية لا ريب فيها. يا إلهي، ما سر البلاء؟ أهو الديناميت؟! أهو سوء النية؟ أهو غضب الله؟ ولكن ما جدوى التخبط بين الفروض، وها هو ديناميت الحكومة لا يسكت دقيقة واحدة؟ الحكومة وراء الخنافس، وراء العقارب، لا تعاني مثلنا، ولا تبالي بنا، تقيم في الأحياء الآمنة بعيدا عن الديناميت والجبل، وتتركنا لمصيرنا. أي حياة هذه؟ لا عمل لنا إلا قتل الخنافس في ضجر وقرف، وشحن الصفائح بالجثث عمل أثقل، والتخلص منها أمر محير. كأننا لم نخلق إلا من أجل مقاومة الخنافس. واقترح رجل فاضل أن ينقل ميدان المعركة إلى الخلاء الفاصل بين سفح الجبل ومشارف المساكن. وتحمس كثيرون للفكرة، فانطلقوا إلى الخلاء حاملين العصي وانقضوا على الجموع الزاحفة بهمة وتصميم، وتواصل العمل حتى هبوط العتمة، ولكن ذلك كله لم يقلل من انتشار الخنافس في البيوت، ولا خفف من مخاوف النساء والأطفال، بل راحت الخنافس تتسلل إلى الطرقات والمقاهي والدكاكين، ويعثر عليها مرات في قوارير الخل والزيت والمرطبات أو مدفونة في حشو العيش والطعمية. الحياة ضجر وقرف وترقب لخوف داهم. ودعا قوم للهجرة وليكن ما يكون. وحرض آخرون على قتال طغاة الديناميت. وقال ولي صالح إنه لا نجاة لنا إلا بالبخور. وسعي من سعى إلى الهجرة، وخطط من خطط للقتال. ومال كثيرون لفكرة البخور لسهولتها وسحرها. والبخور متوفر والمبخرة جاهزة، ولكن الولي اشترط الطهر والنقاء فيمن يقوم بالتبخير وإلا رفعت اللعنة، وحلت العقارب والحيات مكان الخنافس. وكلما عرض الأمر على رجل مشهود له بالطيبة جفل وقال الكمال لله وحده. وبدا أسهل الحلول وكأنه أصعبها. حتى جيء بطفل في الرابعة من عالم البراءة، فطوقوا وسطه بعلاقة المبخرة النحاسية، وحمله أبوه فطاف بالبيوت والأماكن. وكف الناس عن المقاومة أملا في البخور، ولكن الخنافس تكاثرت لدرجة تعذرت معها المقاومة. وهجر الناس بيوتهم إلى الطرقات، وهم في كرب ما بعده كرب، وانهالت الاتهامات على البخور والولي، وحتى الطفل لم ينج من تهمة تناسبه. واختلطت الأمور وذهل الناس عن الحقيقة، وازدادوا ذهولا والأيام تمر. ولا أحد من المعاصرين يدري كيف انكشفت الغمة وتلاشى الكابوس. أجل، قد رجع الناس إلى المساكن، ورجعت المساكن إلى الناس، ولكن كيف؟ يهمس قوم إنها الهجرة. ويشيد آخرون بقتال الأبطال. ويتغنى فريق بشذا البخور.
وراء العامود
بكافيتريا الفندق الكبير لذت فرارا من حر يتأجج في الشوارع. ما أجمل الجو المكيف عقب احتراق وعرق! وثمة مكان خال وراء عامود ضخم مطعم بالمرايا والأصداف الملونة، فأسلمت نفسي لمقعد لين. يكاد يخلو المكان، سوى ذلك الركن الغربي تتهادي منه ضحكات رزينة وروائح السيجار. لمحتهم من ناحية العامود جالسين حول مائدة معدنية اصطفت فوقها أقداح المرطبات. عرفتهم رغم أنني لم أرهم من قبل، يدل عليهم مظهرهم الرائع، وسمات مشتركة كاللغد الممتلئ والسيجار والنظرات الهابطة من عل. ورغم طفرة الزمن فهم يتنادون بسعادتك ومعاليك، وانعقد فوق هاماتهم نصر مؤكد. تجول عيناي في أرجاء المكان تابعة الفتيات ذوات السترات الحمر وهن يؤدين الخدمة، ثم يرجعن إلى الركن، فوضح لي هذه المرة أن صاحبي «الأستاذ» مندس بينهم كأنه أحدهم. يقينا هو ليس منهم، ولكنه حائز لرضاهم، يكتب إذا كتب في حياء، متناولا طرائف الشرق والغرب، ولكنه عند الحديث يضع الكلمة المناسبة في المكان المناسب، فما من طائفة إلا وتظنه وليها. أراهن على أنه يروي نكتة، صوته غير مسموع وإشاراته دالة، وهم يصغون باهتمام، ثم تتهادى الضحكات الرزينة. هم في حاجة إليه، وهو في حاجة إليهم. ابتسمت لكثرة ما تذكرت. تلك الليالي الحافلة بالكلام والسمر. إنه الآن ينافق. يقوض أبنية ليداهن أحلامهم. أنا أيضا أجلس في مجلسي الرطيب لأحلم. النوم العميق يجد في الأحلام مفتاح الفرج. أما في مجالسنا المرحة فقد استحق الأستاذ لقب مؤرخ العصر ومفشي الأسرار. لكنه صادق معنا وإلا، كانت تلك الأقدار التي تحيط بنا. إنه يحيل الشائعات إلى حقائق بمشاهداته وأسانيده وأخباره. مؤرخ خبير بالصفقات والسلب والنهب. بل لعله في أعماقه متمرد أو ثائر، ولكنه يؤثر السلامة والربح. إنه يعلم أن ذلك الركب غاص بالموبقات، ولكنه آثر أن يتعلق بذيله ولو على كره. في مجالسنا فقط ينطلق على سجيته ويكفر بالكلام عن سلوكه. يسأله أحدنا: حتى متى تمضي الأمور هكذا؟
فيقول بحماس عابر وحقيقي: حتى تلفظ السلبية أنفاسها. - لكننا شهدنا أكثر من ثورة؟
فيقول ضاحكا: لي عمة لم يشف كبدها من أوجاعه حتى أجرت به ثلاث جراحات!
وأمد بصري نحو ركنهم وعاصفة تموج في صدري، ألا يفكرون في العواقب؟ أم هو قدر يحمل الجميع إلى غاية مرسومة؟ وأتسلى بالنظر في قعر فنجان القهوة الفارغ، كأنما أشوف البخت. أري رسما في راسب التنوة يشبه القاطرة. أتذكر ما يقال عادة: «أمامك سكة سفر!» ورأيت الركن يتحول إلى حجرة هادئة للتدخين معزولة تماما عن الفندق مغلقة الباب، والسادة هائمون بين الاسترخاء والسمر، ولكن الباب فتح، وانسل منه شاب غريب، أغلق الباب، ولاه ظهره، وتوجه نحوهم في توتر وتحد. نحيل طويل ذو سروال رمادي وقميص غامق اللون، معروق الوجه شاحبه، زائغ البصر. ترتفع نحوه الأبصار مستطلعة، ويسود صمت داهم. لا أحد من السادة يعرفه أو ينتظره، لعله جاء لمقابلة الأستاذ، المهم ألا تطول الزيارة. يدس الشاب يده في جيب سرواله ثم يسدد نحوهم مسدسا، يقول: حذار .. أي حركة ستجر وراءها الموت.
حلقت فيه العين، أي مفاجأة؟ كفوا عن التدخين. مجنون؟ ما أكثر المجانين في هذه الأيام! لكن الحياة ليست باللعب. وتساءل أحدهم: أي شيء بيننا وبينك؟!
فهتفت: كثير .. كثير .. للأسف ليس في المسدس ما يكفي من رصاص.
Bog aan la aqoon
فقال الرجل بحرارة: لماذا؟ تمهل وفكر .. أنت تهدر حياتك وأنت في عز الشباب. - حياتي مهدرة .. الحياة مهدرة.
استحوذ عليهم رعب شديد وقال صوت متهدج: فكر أنك قد تقتل بريئا.
صاح بعصبية: يا أوغاد .. يا أوغاد.
ووجه الشاب بصره نحو الأستاذ وسأله: ألا يستحقون الموت؟
فخرج الأستاذ من جلده وقال: إنهم يستحقون الموت، ولكنك لا تستحقه!
فتساءل متهكما: متى حظيت حياتي بكل ذلك الاهتمام؟
ثم واصل بإصرار نهائي: ما دمت لا أستطيع أن أقتلكم جميعا، فسأقتل أشدكم إجراما.
اعتقد كل واحد منهم أن حياته انقضت.
على غير توقع من أحد حول مسدسه نحو الأستاذ، وأطلق النار. •••
شعرت بإعياء، أشعلت سيجارة. ألقيت على الركن نظرة من جديد. الضحك لا يتوقف ولا السمر، ولا الأحلام.
Bog aan la aqoon
تيزة أم عزيز
ذات قامة طويلة متينة البنيان، ووجه أسمر جذاب رغم طوله وحدة تقاطيعه، وعينين سوداوين نافذتين ذاتي كحل رباني، وفي غمازة الذقن وشم. لا أذكر أني رأيتها في أي فترة من العمر إلا مقبلة في ضجة من المرح، كأنها محترفة المزاح في ليالي السمر. أما بالنسبة إلي فهي دائما تيزة أم عزيز. لم تتغير. في عيني لم تتغير أبدا. حتى بعد أن تغير كل شيء فيها وحولها. الضاحكة، المبدعة من كل لفتة أو موقف صورة كاريكاتورية حية. حتى حين لم تعد تملك إلا الجلباب المرقع الذي يسترها ولا تصيب من غذاء الدنيا إلا اللقمة والدقة. أصلا من رشيد جاءوا، بلد الاقتصاد والعمل والنكتة. بصحبة ابنها الكبير اختارت إقامتها. أما الابن الآخر المزارع هناك، فقد ضاقت بها زوجته. أليس كل مكان ينبت العز طيبا؟ ثم إنها صاحبة أرض، مستورة، إذا حلت بمكان جرت فيه البركة، وبكريها ما شاء الله موظف بالبكالوريا يسر الخاطر، يدخن ماتوسيان، ويفسر القرآن، وفي بعض ليالي السمر يشرب الويسكي، ويغني ولا يفوته فرض. من محاسن الصدف أن زوجته القاهرية كانت عاقلة مهذبة، كسول فلم يحدث ما يكدر الصفو، وحصل تكامل بين العروس المحبة للراحة، وتيزة أم عزيز المغرمة بالعمل، وسبحان من يوفق بين الأضداد بحكمته ورحمته. بدا طويلا أن الحظ سيستقر في بحيرة الطمأنينة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن الابن الرشيدي ذكي وذو همة. ينظر فيما حوله فيلتقط لباب الأشياء. فكر ثم فكر، وشاور ودبر، ثم قرر أنه لم يخلق للعمل الروتيني البسيط، وأن حياته لا يمكن أن تضيع بين إشارة إلى كتابكم الرقيم، وتفضلوا بقبول وافر الاحترام. كلا .. ما عليه إلا أن يبيع أرضه، ويعمل بالتجارة، وخير التجارة البقالة. الناس قد تستغني عن السلاح، ولكن هيهات أن تستغني عن الجبن، والزبد، والعسل، والزيتون، وقد فعل. وتيزة أم عزيز لم تعترض، بل تشجع وتحرض، وإذا تأففت الزوجة قومتها بالأمثال والنكت. تيزة لا تحب المرح وحده، ولكنها تقدس العمل والربح أيضا. وتتحسن الأحوال تحسنا جميلا، فيتجدد الأثاث والمظاهر، وتدب حيوية جديدة في مجال تيزة أم عزيز. تتجلى مواهبها المأثورة في طهي الطواجن والضلمة والأسماك، وتعلو همتها في الولائم يشهدها عملاء ابنها، فيلتهمون الطعام، ويثنون على صانعته داعين لها بطول العمر والعمار. كل شيء حسن ويبشر بما هو أحسن، ولكن ماذا أغراك بالقمار يا عزيز؟ ولم تستجيب لندائه الماكر بعد أن أنجبت من الذرية ستة؟ وكيف غاب عن سكرتك أنه مغامرة لا تصلح لأهل التجارة، أليس لكل شيء ميزان؟ وتمضي الليالي الصاخبة الحمراء بين الفول آس والكاريه والبلف، والضحك والوجوم والأرق، والأحلام لا تجدي والويسكي عابث خداع، حتى وقعت الواقعة وتقوض البناء، والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين. يا له من موقف يستحق أن تنوح عليه الرباب! وتماسكت أم عزيز وقالت له بيقين: لا تنس أنه موجود، وأنه لا ينسى عباده.
وهو أيضا مؤمن بالرغم من معاصيه، وذو همة ونضال؛ سعي في سبل شتى حتى عمل مدرسا في مدرسة ابتدائية أهلية بمرتب بسيط يصرف تبعا للظروف والأحوال. وأقدمت تيزة على مغامرة جريئة فباعت أرضها لابنها الآخر، وأعطاها الثمن بعد أن حجز منه نصيه الشرعي، نظير إنفاق نصيبها على أبناء أخيه. ورصدت المال للإنفاق منه عند الطوارئ. وظل الحال كذلك حتى نفد المليم الأخير والأولاد لا يتوقفون عن النمو. وتتعدد المطالب والكل يعيش من أجل الأولاد والمطالب. شد ما صبروا على ضنك وحرمان! أما تيزة أم عزيز فظلت تيزة أم عزيز. أو هكذا تبدت لعيني المرحة القوية المتحدية، والله أعلم بالسرائر. اليوم يا تيزة تعلمت أن المآسي قد تحكى في كلمات، ولكنها تعاش على أنات الكدر وعذاب المعاناة، وفي غيابات القهر. ولا أنسى حديث المتحاورين والمعلقين من بعيد: الله يسامحك يا عزيز، نسي أمه وأهملها، تأكل ما يعافه الخدم، وترتدي الرث المرقع، يا خسارتك يا أم عزيز! - الرجل معذور يا أختي، طالما أنه لا توجد إلا لقمة واحدة فالأولاد أولى بها! - ألم تبع أرضها من أجله؟ - هي الدنيا، والحكم لله وحده.
كيف شقت تلك السفينة العارية المتهالكة طريقا في خضم الأمواج الكاسحة؟ كيف عانى الرجل الذي لبث حياته كلها يدفع ثمن خطئه؟ ولكن رغم كل شيء أكرمه الله، فأهدى إلى الحياة ستة من أروع الشباب المتفوق. لعلهم لا يذكرون عذاب الأب وهوان الجدة. وأشهد أنني ما رأيتك إلا باسمة حتى وجلبابك الرث يشف عن جسد جاف أعجف. وعجيب أنني لا أذكر رحيلك عن دنيانا التي تراقب الحوادث بعين واحدة. لعلك مرضت فلم يدر بمرضك أحد. ولعل الليل تلقى من شكواك ما ضننت به على البشر. أو لعل ذاكرتي أبت أن تحفظ من ذكراك إلا صورة السيدة القوية المرحة ذات العينين النافذتين والوشم المطل من غمازة الذقن. صورة الصبر الجميل والحب العميم.
حملة القماقم والمباخر
شهد شارعنا أروع جنازة في تاريخه الطويل، حينما توفيت ست بطة. انعطفت مقدمة الموكب إلى الشارع العمومي على حين لم تدب الحركة بعد في ذيول المشيعين الواقفين داخل السرادق في مؤخرة الشارع. تقدمتها فرقة موسيقي حسب الله تعزف لحن الموت التي تنقبض الصدور لوقعه، فيهرع الأحياء للفرجة، وتطل رءوس النساء من النوافذ. وتبع الفرقة صفان متوازيان من حملة القماقم والمباخر، بدلهم السوداء بوجوه مغضنة كالحة. وتهادي النعش محمولا علي الأعناق، يمشي وراءه مباشرة الأهل وعلية المعزين، يسبقهم الباشا - زوج الراحلة السابق - وأبناؤها الأربعة؛ منهما اثنان من وكلاء الوزارة، واثنان من مديري العموم، ورئي بين كبار المشيعين وزير الحربية، وكثيرون من ضباط الجيش العظام، ونفر من الشخصيات السياسية والاقتصادية المرموقة. بين هؤلاء جميعا سار علي صريمة زوج المرحومة الجديد، كاتب حسابات الفرن الإفرنجي، ببدلته العتيقة وطربوشه المتجرد، وحذائه الغليظ، وجسمه النحيل القصير، ووجهه الدميم. مشهد مثير للخواطر مفجر للذكريات، قضي بحكم واقعه أن تجمع الجنازة بين الصفوة والكادحين. تابعه المشاهدون على الصفين باهتمام، وحاروا غالبا في تفسير قراره المذهل. شاهدنا الجنازة فيمن شهدها من الخلق، ثم مضينا بعد ذلك إلى المقهى. انطلقت الضحكات من حناجرنا بغير حساب، واندفعنا نفصح عن انفعالنا. من منا لا يعرف ست بطة؟ من منا لم يعجب بفخامة سراي الباشا، ومن منا لم يطلق لسانه على السراي، وما يجري فيها من أحداث؟ وسرعان ما تدفقت التعليقات ساحبة الذكريات بلا ضابط ولا نظام. •••
برافو صريمة، تمكنت أخيرا من أن تتحرك بين الباشوات، كأنك واحد منهم. لكن اليوم يوم ست بطة؛ فهي صاحبة النصر. ما هي إلا جثة لا تميز بين الهزيمة والنصر. إنه يوم علي صريمة، ولو صفع بعد ذلك على القفا. يا سبحان الله يا إخوان! كانت يوما أجمل وأبهى امرأة في الحي. وكانت السراي تحفة لا ينقصها إلا الحرس، والحنطور الأنيق وأول فورد يسير في شارعنا. ما أحلاها وراء الياشمك! كأنها الأميرة عين الحياة. والحقيقة أن الباشا هو المذنب. مهلا، لا يخلو طريق الإنسان من أزمات، وهي امتحان يكشف عن قوته كما يعري ضعفه. وما وقع يقطع بأنها كانت امرأة مستهترة نزقة، وما أصابها إلا ما يصيب زوجات لا حصر لهن كل يوم. أنتم تطالبون المرأة بأن تكون قديسة أما الرجل فله أن يفعل ما يشاء. دعنا من آرائك الإفرنجية، وبطة لم تكن مجرد امرأة. كانت أما لصبيان وبنات. لماذا يحق للباشا وهو في الخمسين أن يتزوج من فتاة في العشرين، فيهجر أسرته وذريته، ولا يجوز للمرأة أن تخطئ؟ تقاليدنا يا رجل. الأمومة مسئولية وقداسة. طلقت في سن اليأس مهجورة وجريحة، وككل محسودة أرقها لهيب الشماتة فاجتاحها اليأس. هذا منطق قواد .. ها ها ها. دعه يدافع عن مامته ها ها ها. ووقع الانفجار وكان مفزعا. ولم يحرك الأبناء ساكنا دفاعا عن شرف أسرتهم. أليس ذلك بعجيب؟ كانت على أي حال أمهم، ولم يكونوا دونها سخطا على أبيهم المتصابي. ولا تنس سطوتها عليهم. كانوا يقفون بين يديها كالخفراء أمام الباشا المدير، بخلاف أبيهم الذي لم يكن له وزن يذكر. ما أكثر الضباط المهابين في ثكناتهم، الوديعين في بيوتهم! كاللواء حماد باشا، مثلا. وربما كانت الحكايات مجرد شائعات! شائعات! لا لا، حتى الخدم كانوا يتغامزون، وعم مجاهد بعد طرده من السراي أقسم أنه ما من رجل تردد على السراي لشأن ما إلا وكان له معها مغامرة؛ الخضري .. الجزار .. الكواء .. حتى جاء الختام على يد علي صريمة، صل على النبي ولا تقل شائعات. يا ناس، لو كانت امرأة شبقة، ألم تجد في طبقتها من يرافقها؟ خانها الزمن يا بطل، وللعمر أحكام، وفي أمثال تلك الظروف تقوم الطبقة الشعبية بالواجب . وفي الوقت المناسب شبت ثورة الأبناء. ألم تجئ متأخرة عن الوقت المناسب؟ الثورة لا تشب إلا في الوقت المناسب، إنه يعني أنهم بلغوا سن الرشد، وتشمموا رائحة كريهة، فأحكموا إغلاق الأبواب، وقالوا بلسان واحد لا مهازل بعد اليوم. وماذا كانت النتيجة؟ نشبت ثورة مضادة، وقالت الهانم أنا حرة وملعون أبوكم. وغادرت السراي مضحية بكل شيء في سبيل شهوتها، ولكن لماذا كانت من نصيب علي صريمة؟ إنه أقبح الجميع وجها وأحقرهم مظهرا؟ يوجد شيء اسمه السر الباتع ها ها ها. زواج عجيب بين امرأة تشارف الستين، ورجل في الثلاثين. سلمت له نفسها بكل ما تملك من حلي، وعاشت راضية في أصغر شقة في شارعنا تغدق عليه الحب والمال. زواج متكافئ فيما أرى. هل رأيتموها في أعوامها الأخيرة؟! منظر يثير الرثاء ويشهد للرجل بجميل الصبر. ما هو إلا ثعلب، وكان على علاقة مع شمس بنت بياعة المنزول. له عذره. كل إنسان له عذره حتى الباشا نفسه. ما شاء الله! وإذن فليحي الملك وليحي الاحتلال. ماتت فلم يصوت عليها أحد، هجرت وقوطعت كأنها لم تنجب بنتا ولا ولدا. ربنا لا يحكم عليك. أشهد أني رأيت علي صريمة دامع العينين. الثعلب! القلوب أسرار، مثل أسرار الثورة العرابية. لكنه عرف كيف ينتقم من جميع من احتقروه. كيف واتته الجرأة على نشر هذا النعي الذي أورد جميع باشوات وبكوات الأسرة؟ ضربة معلم تعلم أصولها ولا شك في الفرن، ولكنه جاملهم فوصف نفسه في النعي أحمد صريمة من رجال الأعمال ها .. ها. كفاية، واذكروا حسنات موتاكم. هل وجدنا حسنة واحدة وسكتنا؟ أقول لكم لا يعلم الحقيقة إلا الله. ترى ماذا يدور بسرائر أبنائها وبناتها اليوم؟ حلمك. سينضح كل إناء بما فيه، وتظل الحقيقة حيث هي. حكاية ست بطة تذكرني بحكاية ست أوسة! وتذكرني بامرأة العزيز. كفاية .. كفاية .. كفاية دعوها الآن بين يدي من لا يظلم.
الغد قادم أيضا
فيلا؟ لا والله إنها لسراي. تشغل حيزا هائلا فوق جبل المقطم. ويضفي عليها طرازها العربي مذاقا خاصا من الأبهة والعظمة. حديقتها زهراء مترامية، تشمل ثلثي المساحة الكلية، وحمام السباحة في الوسط علامة عز نادرة، جلسنا من حوله للعشاء، ولسماع نخبة من المغنين والمغنيات، يصبون الكلمات المصرية في أوزان إفرنجية، تحت عناقيد المصابيح الكهربائية المغروسة في الغصون. الداعي صديق قديم، هو اليوم نجم سينمائي يحظى بشهرة متطايرة ومحبة آسرة، أراد السميع العليم أن يمتعه وهو في عز الرجولة والجمال.
واختصت مائدتنا بنفر من الرجال، لا يمتون للفن بصلة، ولكنهم يمثلون صداقة الصبا والزمان الأول. جلسنا في شبه غربة نتهامس في غمار صخب الوسط الفني، ونتطلع إلى الوجوه فنقول هذا فلان، وهذه فلانة، وذاك بين بين. ولا نكف عن الأكل والسمر. الحق أن عريس الليلة الذي يحتفل بافتتاح مقامه الجديد أغدق علينا ألفة وأنسا بوفائه، وتمسكه بأصول ماضيه، رغم انهماكه في العمل المتصل ما بين السينما والمسرح والتلفزيون. وعمق من جذور الصلة القديمة أن أحدنا يعمل محاسبا لضرائبه، ومستشارا ماليا له، وآخر تزوج من عمته في الأيام الخالية.
Bog aan la aqoon
رحت أراقبه وهو يتنقل بين الموائد مرحبا ضاحكا مداعبا مؤانسا، يكاد يتوهج تألقا وجمالا وصحة وعافية. هي السعادة عندما تجود بنفسها بسخاء، وتجعل من الواقع حلما من أحلام اليقظة.
وقال أحدنا بحرارة: ربنا يديم عليه النعمة.
فقلنا آمين. وحل بعدها صمت مباغت كأنما لم يجئ مصادفة. وتجلى في الأعين نظرة جادة كأنها لون الصمت. هل رحنا نتذكر تقلبات الدنيا، وما حفظناه في ذلك من الشعر والنثر؟! وتذكرت زملاء كانوا مثالا للوجاهة، وكيف عصفت بهم الثورة، وحولتهم إلى صعاليك تعاف النفس منظرهم. وليست الثورة وحدها التي تعبث بالمصائر، فلأي حشرة دور، وربما لفحة هواء أو نزق النشوات. ما علينا، اللهم احفظنا، واحفظ لنا صديقنا الوفي الكريم. وإذا بصديق يعبر الصمت متسائلا: هل تتذكرون؟
نظرنا نحوه مستطلعين بقلوب خالية إلا من السرور، فابتسم مواصلا: ليلة الشطرنج في مقهى إيزيس!
وأكثر من صوت قال: عليك اللعنة، ماذا ذكرك بها؟
وندت عنا ضحكات خافتة تناسب المقام، فعاد الصديق يقول: الذكرى مقيمة في أعماق ذاكرتي.
ونحن أيضا مثله ، ولكنها لا تكاد تخطر بالبال! إلا كل حين ومين. كان صاحبنا يلاعبني شخصيا، وسط حلقة من المشاهدين. بدأت بتحريك جنديين وانتظرت أن يبدأ. لكنه لم يبدأ، بل نظر في وجوهنا نظرة غريبة وقال: سأغادر دنياكم بعد دقائق!
ظنناه يمزح، ولكن وضح لنا أن وجهه شديد الشحوب، وأن نظرة خابية تطل من عينيه. مع ذلك قلت له مازحا: العب أو سلم!
سرعان ما انطرح جذعه إلى مسند الكرسي، وشهق شهقة مخيفة ثم غاب عن الوجود. من ينسى ذلك المنظر؟ من ينسى ارتباكنا وفزعنا؟ من ينسى ضياعنا في قصر العيني، حتى صباح اليوم التالي؟ ما كان أيأسك يا صديقي في تلك الأيام! ألم نطلق عليك بحق الشاكي الباكي؟ دائما تشكي من عمك الوصي عليك، كما تبكي حبك الخائب، ولكن ماذا، هل أفلتت منا بعض التفاصيل؟ يقول أحدنا: كان الحب وراء محاولة الانتحار.
فيؤكد آخر: بل عمه، كان فظيعا حقا وصدقا.
Bog aan la aqoon
لا أهمية الآن لذلك. المهم أن صديقنا الذي أرجعنا إلى الماضي تساءل: ألا يعني ذلك أن الانتحار خدعة وخرافة؟!
وخضنا في حديث الانتحار طويلا، وهو ذو إحصائيات مثيرة وخاصة إذا تعلق بالأمم الراقية، ولكن الجو الجميل الذي نتنفسه دفعنا إلى التهوين من شأنه ووحشيته. - اليأس حال تمر وكأنه لم يكن. - تصوروا لو لم تنقذه العناية، فمن كان يحظى بالنجومية؟ ومن كان يشيد هذه السراي؟ ومن كان ينعم بهذه السعادة؟!
واقترح أحدنا أن نذكره بليلة الشطرنج، ولكنا رفضنا الاقتراح رفضا قاطعا. وإذا بالعريس يقبل نحونا، وجلس بيننا وهو يتساءل: هل ينقصكم شيء؟
فشكرنا، وأثنينا عليه بما هو أهله، وقال أحدنا: لا مطلب لنا إلا أن يديم الله عليك نعمته.
فحمد الله، ودهمه صمت مريب، ثم قال بنبرة اعتراف: صدقوني، أشعر أحيانا بأنني نلت فوق ما أتمنى، وأتمني ولو للحظة عابرة أن يأخذني الله من فوق قمة السعادة!
مؤامرة
الجو يقطر ظلاما، ولكن الأشباح تترامق في رجوم. السيد يتطاير غضبه شررا، والأتباع بين يديه يقومون في ذلة وكآبة، ويهدر السيد قائلا: يا لها من هزيمة لم تخطر لي على بال طيلة الأجيال المتعاقبة! ها نحن نتخبط في مستنقع البطالة السافرة.
وسرت همهمة مليئة بالاكتئاب، حتى قال أحد الأتباع: ما قصرنا ولا أهملنا ولا ترددنا، عني شخصيا فقد تخيرت رجلا صالحا لا تقاربه الإشاعات، وموضع ضعفه لا يخفى على أحد، فهو ذو دخل محدود وأعباء ثقيلة، أغريته بالمال رشوة، أو اختلاسا، ولكنه أبى بصلابة عجيبة، عرضت عليه اقتراحا براق المظهر؛ أن أقرضه مبلغا محترما ليستثمره في مصرف أو شركة، فتسد الفوائد القرض، ويبقى له بعد ذلك رزقا حلالا، فأعرض عني في استياء وكبرياء!
فتساءل السيد: ألم تذكره بما يجري حوله؟ - إنه يعرف كل شيء، حتى الأسماء يحفظها عن ظهر قلب.
وتحول نظر السيد إلى التابع التالي فقال: انتقيت رجلا يعتبر مثالا في التقوى والعفة، واستبشرت خيرا بحيويته الدفاقة وقوته الموفورة، سلطت عليه امرأة يذوب الصخر في دفء عينيها ورشاقة بنيانها، ولكني لم أدر من أين واتته المناعة الراسخة!
Bog aan la aqoon
فصاح السيد: لعل الخطة لم تكن محكمة، ألم يزل أبوهم وهو في كنف ذي الجلال؟! - صدقني يا مولاي، تحدتني صلابة تفجر اليأس في ينابيع الأمل.
وجاء دور التابع الثالث فقال: عثرت على أرملة جميلة وتعيسة، تكرس حياتها لتربية أربعة من الأبناء، وتشقى بأكثر من عمل وبلا معين، اعتقدت أنها لقطة لمن يريد أن يغوى، وأنني خصصت بمهمة يسيرة، ولكني وجدت الخيبة في بيت الرجاء، رغم تعدد الوسائل، وكثرة القوادين، والشقق المفروشة، كأنها ليست من ذرية حواء!
فتفكر السيد مليا وعيناه تتوهجان في الظلمة ثم قال: حسبنا ما سمعنا، لا نريد مزيدا من القرف، أنا نفسي منيت بالفشل، ولكن لا شيء يدعو لليأس؛ فالمسألة أنه إذا وجدت قلة صالحة في محيط من الفساد، فلا بد أن تكون على درجة من المناعة يتعذر غزوها، فلندعهم في سجنهم الاختياري، ولنلتفت إلى الفاسدين.
فقال أحد الأتباع محذرا: ليسوا في حاجة إلى إغواء، إنهم يسبقوننا إلى السقوط قبل أن تبدر منه حركة واحدة.
فضحك السيد بمرارة حتى تطاير الشرر من فيه، وقال : هنا يكمن سر أزمتنا، لم يعد الشر بحاجة إلى مهارتنا؛ لذلك انضممنا إلى زمرة العاطلين، وعلينا أن ننقذ أنفسنا من شرك البطالة.
تضمن حديثه دعوة إلى إبداء الرأي دون إفصاح، فقال تابع: لنعد الكرة بتصميم أشد.
فرمقه بازدراء ناري وقال: بل علينا أن نغير الخطة من جذورها.
فتطلعوا إليه بانتباه مركز فقال: لم يبق لنا إلا أن نرتدي أردية التقوى، ونسير في الأسواق لنوقظ الضمائر من جديد.
وتبادلوا نظرات الذهول فواصل السيد: للضرورة أحكام كما يقول بنو آدم. - ولكن لم نوقظ الضمائر الميتة؟ - كي يكثر الصالحون، فيتسع مجال الإغواء أمامنا.
فقال تابع بعد تردد: أفكار مولانا دائما صائبة، ولكننا لم ندرب على إيقاظ الضمائر! - من السهل تعلمها بالاندساس في الجوامع، ومتابعة أجهزة الإعلام. - يا سيدنا ومولانا، لو أن للكلام أثره المجدي لما تردى الحال إلى ما تردى إليه. - بقوة سحري نحصل على نتائج مشجعة.
Bog aan la aqoon
وقال تابع: هل يكفي الكلام وحده؟ .. هناك سلسلة من الأزمات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، تستل عن أي كلام فعاليته؟ - أعلم ذلك، وأعلم ما لا تعلمون، دعوا الأزمات؛ فقد تسندنا فيما بعد، وكما وجدت قلة صالحة في مناخ فاسد، لن يتعذر علينا مضاعفة أعدادها، انطلقوا فتعلموا الوعظ والإرشاد، وبثوه بسحري الذي لا يقاوم وسوف ترون. - يا له من جد! ولكنه بالمزاح أشبه.
فضحك السيد وقال: خير من اليأس والبطالة، بادروا إلى عملكم دون إبطاء؛ فالوقت من نار. •••
بعد حين من الدهر جمع الظلام السيد وأتباعه على حال جديدة من الإشراق، وقال السيد في شيء من المرح: هاتوا ما عندكم.
قال أكبر التابعين: الحق أنني وجدت صعوبة في ممارسة دوري الجديد، ولولا تأييد مولاي وسحره ما ذقت طعم التوفيق، ولكنني درست الوعظ بهمة عالية، وانتفعت كثيرا بما ينشر في صحف المعارضة، وما تلهج به الألسنة في الشوارع، وكان في المدينة رجل من ذوي المعاشات يقيم في بيت قديم ذي فناء غير ذي زرع، له من الأبناء أربعة، يشغلون مراكز مرموقة رغم أنهم من ذوي الدخل المحدود، الرجل يا مولاي طيب أبيض الصفحة، وذو دين ومبادئ، ولم يكن معاشه يكفيه أسبوعا أمام الغلاء الوحشي، ولكنه وجد في بر أبنائه ما جنبه أسباب القلق، وفي ظل تلك الطمأنينة تزوج من أرملة تجاوره في المسكن، وتصغره بعشر سنوات، تسللت إليه في مشرب عصير على كثب من مسكنه، واقتحمت خلوته قائلا بجرأة الدراويش: لدي ما أقوله لك.
فنظر إلى جلبابي الأبيض، وعمامتي الخضراء، وابتسامتي الحنون، وتساءل بفتور: من تكون يا حضرة؟
فقلت بهدوء وثقة: ناداني صوتك الحار، وأنت تضرع إلى الله عقب صلاة العشاء «ربي اكتب لي ولأبنائي الرضا في الدارين».
ودهش الرجل ودب في عينيه الاهتمام ولم ينبس فقلت: تأثرت لضراعتك، وقلت هذا رجل طيب يندر وجوده في هذا الزمان الكالح، والله لأزورنه.
تمتم الرجل: إنك ولا شك من أولياء الله الصالحين! - دعنا من إغداق الصفات، إنما جئت لأنقذك. - تنقذني! .. ولكن الدنيا بخير. - ليست كما تبدو، كان يجب أن تسأل نفسك من أين يجيء أبناؤك بالمال الذي يكرمونك به!
فقال الرجل مقطبا: إنهم يشغلون مراكز كبيرة كما لا بد أن تعلم. - في زماننا هذا لا ينفع مرتب ولا بنون! - ماذا تعني؟ - كلامي واضح، أبناؤك منحرفون والانحراف مغبته وخيمة.
فهتف الرجل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أنا لا يداخلني شك في أبنائي. - من أجل ذلك جئتك ناصحا.
Bog aan la aqoon
فقال الرجل بحرج: أنا لا يمكن أن أمس ذلك الجانب من حياتهم. - أفهمك جيدا، ولن أطالبك إذا اجتمعوا عندك إلا بأن تدعو لهم بالنجاة من شر الزمان.
فقال الرجل بارتياح عابر: هذا ما أفعله دائما. - ولكنني سأبثك قوة من عند الله قادرة على تحويل الصخر إلى ماء عذب.
وتناولت راحته بين يدي وضغطت عليها طويلا.
وسأله السيد في صمت من اهتمام التابعين: ولم لم تقصد الأبناء مباشرة؟
فقال التابع بزهو: اصطدت أربعة برمية واحدة!
فقهقه السيد قهقهة تطاير منها الشرر، وقال: أحسنت.
وواصل التابع حديثه في ارتياح وطمأنينة: وتابعته من موقعي يا مولاي، لم يحلم العجوز الطيب بما لدعائه الجديد من أثر، ولا خطرت بباله العواقب المتوقعة، لم يدر أنه أصبح أبا لأربعة من التائبين المستغفرين، ولكنه شعر بمعاملة أخرى قوضت حصن سلامه السعيد، عجز الأبناء عن مواصلة البر به، تلقى أعذارا وتأوهات كثيرة ونقودا قليلة، لا تغني ولا تجدي، ودب الشقاق في بيوت الأبناء فشمل الزوجات والأبناء، أما العجوز فانقلبت حياته عناء متصلا حتي ضاق بزوجته، كما ضاقت به، ووجدت في ذلك الكرب ما عزاني بعض الشيء لممارسة خير لم أخلق لممارسته، وسوف نجد في ذلك المناخ المتوتر المشحون بالقنوط ما ينفعنا عندما نرتد إلى أداء رسالتنا الأصلية!
فهتف السيد: جميل .. جميل .. جميل.
وتقدم تابع ثان فقال: أما أنا فتبعت السيدة الجميلة حتى استقرت في الشقة المفروشة، استعدت تنتظر صاحب الحظ، فرأتني أمامها في زي عظيم من رجال الشرطة، فزعت فزعا شديدا، حتي جحظت عيناها، استحلفتني بأولادي أن أستر عرضها رحمة بأسرتها .. وتظاهرت بالتأثر وقلت لها: في وسعي أن أسوقك إلى القسم لتنالي جزاءك، ولتعترفي هناك بالدور الخسيس الذي يلعبه الوغد زوجك.
فاشتعلت حرارتها في توسلات دامعة حتى خفت عليها الموت، وعندها دعوتها للتوبة، وتقويم المعوج من سلوكها، ثم غادرت الشقة وهي لا تصدق، ما حدث بعد ذلك لم أتوقعه؛ فقد تمردت على زوجها ورمته بما يستحقه، فنشب بينهما نزاع عنيف، وانساق الرجل مع غضبه، فانهال عليها ضربا وركلا حتى فارقت الحياة.
Bog aan la aqoon