مقدمة
1 - مصر طريق للتجارة بين الشرق والغرب
2 - موقف إنجلترا من امتياز قناة السويس (1854-1869)
3 - ديزريلي وقناة السويس
4 - احتلال الإنجليز لقناة السويس في سنة 1882
5 - إنجلترا وتحديد مركز القناة (1883-1888)
6 - إنجلترا والقناة (1888-1935)
7 - موقف إنجلترا إزاء القناة من بعد 1935
ملحقات
من أهم المصادر والمراجع
مقدمة
1 - مصر طريق للتجارة بين الشرق والغرب
2 - موقف إنجلترا من امتياز قناة السويس (1854-1869)
3 - ديزريلي وقناة السويس
4 - احتلال الإنجليز لقناة السويس في سنة 1882
5 - إنجلترا وتحديد مركز القناة (1883-1888)
6 - إنجلترا والقناة (1888-1935)
7 - موقف إنجلترا إزاء القناة من بعد 1935
ملحقات
من أهم المصادر والمراجع
إنجلترا وقناة السويس
إنجلترا وقناة السويس
1854-1951م
تأليف
محمد مصطفى صفوت
مقدمة
هذا كتاب في موقف إنجلترا بإزاء قناة السويس من وقت أن فكر الفرنسيون في إنشائها إلى قرب أواخر السنة الماضية.
ولقد حاولت تبسيط الموضوع وعرضه من الناحية التاريخية العلمية قبل كل شيء.
لقد حاربت إنجلترا مشروع القناة بكل ما أوتيت من قوة؛ حتى إذا أصبحت القناة حقيقة في سنة 1869، كانت إنجلترا أولى الدول استفادة منها، وحرصت من أول الأمر على ألا تسيطر دولة واحدة عليها أو على إدارة شركتها، ثم ساعدتها الأيام فاشترت أسهم الخديو في القناة في سنة 1875، ولم تمر ثماني سنوات إلا وقد احتلت إنجلترا القناة ومصر جميعها، وأصبح لها مركز فعلي ممتاز في القناة لا ريب في ذلك، واحتفظت إنجلترا لنفسها بهذا المركز ما بقي الاحتلال الإنجليزي في مصر، على أساس الحق الذي ادعته لنفسها من أنه يهمها أكثر من غيرها حماية حرية المرور في القناة للسفن الحربية وغيرها في وقتي السلم والحرب.
على أن مصر لم تعترف يوما ما بهذا المركز؛ فمصر، التي تمر القناة في أراضيها هي صاحبة الحق الأول في القناة، وهي الحارس الطبيعي لها، ولم تبد اعتراضا على معاهدة سنة 1888 الدولية، التي حددت مركز القناة والتي اعترفت بها الدول جميعا ومنها إنجلترا.
ولم يرد الجانب المصري في معاهدة سنة 1936 أن يعطي لبريطانيا حقا دائما في الدفاع عن القناة، بل جعل بموافقة بريطانيا الحق الأول في الدفاع عنها للجيش المصري.
على أنه بعد إلغاء مصر لمعاهدة سنة 1936 في 8 أكتوبر سنة 1951 ظلت بريطانيا إلى الوقت الحاضر متمسكة بمركزها في قناة السويس بعد أن تقدمت هي والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا بمقترحات الدول الأربع، فرفضتها مصر، وبررت إنجلترا موقفها في القناة بما يأتي: (1)
أن منطقة القناة منطقة استراتيجية تصلح قاعدة للدفاع عن الشرق الأوسط والعالم الحر. (2)
حماية حرية المرور في القناة، وهذا - كما ترى إنجلترا - أمر لا يهم إنجلترا وحدها بل يهم العالم جميعا، وما وجود إنجلترا - كما أعلن الجنرال روبرتسون قائد القوات الإنجليزية في الشرق الأوسط في آخر سنة 1951، وكان يتكلم باسم الحكومة البريطانية - «إلا مساهمة منها في الدفاع عن العالم الحر»، ولكن العالم والمعسكر الحر لم ينتدبا إنجلترا للقيام بهاتين المهمتين، ولم ترض مصر صاحبة القناة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عن وجود الإنجليز في القناة، وصرحت رسميا بذلك أكثر من مرة لإنجلترا وللعالم الممثل في مجلس الأمن، بل وألغت معاهدة سنة 1936 نفسها.
وإذا كان للمؤرخ أن يمتد به النظر إلى الحاضر والمستقبل، فإن استمرار الموقف الحاضر لا يحقق رغبات إنجلترا ولا سياستها بأي حال؛ فالقناة لن تكون آمنة، ولن تكون مركزا استراتيجيا ذا غناء إلا إذا كانت القوات الموجودة فيها مطمئنة، وإلا إذا كانت المواصلات بكل أنواعها في منطقة القنال آمنة، وإلا إذا كانت الأيدي العاملة والمواد الغذائية فيها متوفرة، وكلها أمور لم تتوفر بعد إلغاء المعاهدة.
ولقد وصفت صحيفة التيمز الأسبوعية في 2 يناير سنة 1952 الموقف الاستراتيجي في قناة السويس من حيث وجهة النظر الإنجليزية، فقالت ما ملخصه: «إن مصلحة إنجلترا الاستراتيجية في القناة عظيمة، وأن قواعدها الحربية فيها قيمة، ولكن التمسك بها في وجه عداء مصر ومقاومتها معناه ربط عدد كبير من القوات دون داع؛ معناه اضطراب الأمور في الشرق الأوسط، إن القوات البريطانية في مصر قوية، وقيمة قواعد قناة السويس هي في سهولة اتصالها بالبحر الأبيض المتوسط شمالا وبالبحر الأحمر جنوبا، فمنها تستطيع إنجلترا إرسال قوات إلى أية جهة في مساحة واسعة، وأما الغرض الآخر من وجودها، وهو الدفاع عن القناة، فهذا أمر ثانوي، ولكن إذا كانت القوات الموجودة في هذه القواعد مشغولة طول الوقت بالدفاع عن نفسها، فإن قيمة هذه القواعد تقل كثيرا.»
وإلى هذا التاريخ لم تحل مشكلة القناة.
ولا يسعني في هذا الكتاب إلا أن أعترف بالفضل الكبير لحضرة صاحب العزة محمد شفيق غربال بك لما تفضل به من اقتراحات طيبة ونقد قيم وعون مشكور.
كما أشكر الجمعية الملكية للدراسات التاريخية التي تفضلت فقبلت أن يحمل هذا الكتاب اسمها.
محمد مصطفى صفوت
الإسكندرية في مارس سنة 1952
الفصل الأول
مصر طريق للتجارة بين الشرق والغرب
أشرفت مصر على طريق التجارة بين الشرق والغرب حينا مذكورا من الدهر منذ أواخر العصور القديمة، وظلت تشرف على هذه الطريق خلال العصور الوسطى إلى أن انتصف تقريبا القرن الخامس عشر الميلادي.
وكان جانب كبير من تجارة الشرق في العصور الوسطي؛ نفائسه وكنوزه وتوابله وعطوره ومنسوجاته الحريرية والصوفية ومعادنه تأتي من الشرقين الأوسط والأقصى إلى البحر الأحمر لتنتقل عبر الأراضي المصرية في خليج السويس ثم في طريق مائية أو برية إلى النيل، ومنها إلى ثغور مصر على البحر الأبيض المتوسط، ثم تنتقل في ذلك البحر وهو الطريق العالمية المهمة للمواصلات، حيث ترسو على ثغور إيطاليا، ومن أهمها البندقية وجنوه، ومن هاتين المدينتين اللتين أصبحتا دولتين قويتين غنيتين، توزع في بقية أجزاء أوروبا الغربية والوسطى.
وجنت مصر من هذه التجارة الغنية - وكانت تجارة كماليات في الغالب - أرباحا طائلة، وكذلك كل الأمم المطلة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، التي كانت تقوم بنقل أو توزيع هذه التجارة أو الإشراف عليها، فلقد أصبحت الضرائب المفروضة على هذه التجارة موردا مهما من موارد الإيراد المصرية.
كانت مصر إذن حلقة مهمة في سلسلة المواصلات بين الشرق والغرب، وكان المصريون في مختلف العصور هم الذين يشرفون بالفعل على انتقال هذه التجارة داخل حدود بلادهم، ولم يكن هناك عنصر أجنبي له حق التدخل أو الهيمنة على الطريق التي تمر فيها هذه التجارة، وكانت حكومة مصر في كثير من العصور تمتع بالسيطرة التامة على البحر الأحمر وعلى شرقي البحر الأبيض المتوسط، وكانت لها الحرية المطلقة في التصرف بما تمليه مصالحها الخاصة ومصالح المصريين.
وترتب على ذلك أن أصبح البحر الأبيض المتوسط أهم طريق للتجارة العالمية بين الشرق والغرب. وأصبح للأمم التي تتصل بها مياهه التفوق في المضمارين التجاري والمالي.
وظلت الحال على ذلك إلى أن كاد ينتهي القرن الخامس عشر الميلادي، فشاهد العالم تغيرا هاما لا في وسائل النقل المختلفة، وإنما في الطرق التي تسير فيها تجارة العالم، شاهد تحولا واضحا عن البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلنطي.
وذلك بعد أن كشف البرتغاليون، وهم أولى الدول البحرية ظهورا في العصور الحديثة تلك الطريق البحرية الجديدة الطويلة حول رأس الرجاء الصالح، وكان الدافع الرئيسي لهذه الدولة هو الاستحواذ على تجارة الشرق الغنية، والوصول إلى مواطن الثروة فيه عن طريق لا يشرف عليه المسلمون ولا يسيطر عليه الأتراك العثمانيون، ولا تهيمن عليه مصر التي كانت حتى أواخر العصور الوسطى وأوائل العصور الحديثة مركز الإسلام وقلبه النابض وقوته المتفوقة وحصنه الحصين.
فتح إذن المحيط الأطلنطي لأول مرة في تاريخ البشرية للتجارة العالمية، بعد أن كان بحر الظلمات، بحرا مغلقا يكتنفه الغموض والأسرار والمخاطر، وتحول إليه نشاط الدول القومية الأوربية التي نشأت في غرب أوروبا، لقد استيقظت هذه الدول للوحدة والنمو والاستعمار والتوسع والاستحواذ على تجارة الشرق التي تجلب الثروة والغنى والقوة، استيقظت هذه الدول لاستغلال شعوب الشرق التي حل بها الضعف والوهن، وتمزقت وحدتها، وتدهورت حكوماتها.
وكان أهم هذه الدول الناشئة: البرتغال وإنجلترا وفرنسا والأراضي المنخفضة - هولندا.
سارعت هذه الدول يدفعها نشاطها وحبها للكسب والمغامرة إلى الهند والشرق الأقصى، بلد العجائب الذي تجمعت حوله الأسرار والأساطير، ونسجت حوله القصص الغريبة، تنشئ المحطات التجارية والمستعمرات والقواعد البحرية، وتكونت في الهند وفي الشرق الأقصى بصفة خاصة الإمبراطوريات الاستعمارية القوية الإنجليزية والفرنسية والهولندية.
وقام النزاع عنيفا وحادا لا يبقي ولا يذر بين الإنجليز والفرنسيين، وانتهى أخيرا بتفوق الإنجليز في ذلك الميدان.
وفي هذا الوقت الذي كانت فيه هذه الدول - دول غرب أوروبا - تشرئب للحياة والتوسع والاستعمار، كانت دول البحر الأبيض المتوسط التي ازدهرت على تجارة الشرق، وخاصة مصر، تزداد ضعفا على ضعف وتضمحل بالتدريج، وانتهى الأمر باحتلال الأتراك الحربي لمصر في أوائل القرن السادس عشر الميلادي.
ولكن احتلال الأتراك لمصر لم يعمل على تحسن الأحوال في وادي النيل، بل ازدادت الحال خلال عهد الأتراك الطويل سوءا على سوء من كل النواحي؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم أخذ الأتراك أنفسهم منذ النصف الثاني للقرن السابع عشر في الضعف والانحلال، وانتهى بهم الأمر إلى أن أصبحوا هم ودولتهم التي امتدت في شرقي البحر الأبيض المتوسط مطمعا للدول الأوربية الغربية.
ولم يأت القرن الثامن عشر إلا وقد أخذت الدول الكبرى الأوربية تفكر جديا في كيفية تقسيم ممتلكات الأتراك وفي إحياء الطريق القديمة للتجارة؛ طريق مصر؛ فإن نظرة واحدة إلى خريطة العالم تكفي لأن ترى أن مصر تقع في منطقة هي ملتقى القارات الثلاث؛ أوروبا وآسيا وأفريقيا، وأنها بموقعها الجغرافي هي أقرب وأيسر طريق بين الشرق والغرب، وأنه ليس من المستحيل وصل البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، إما بطريق برية أو بطريق مائية، فلقد وجدت الطريقان في القديم وفي العصور الوسطى.
ومن أهم الدول التي اهتمت بفتح هذه الطريق فرنسا، فحكومتها تحاول منذ القرن السابع عشر أن تقنع العثمانيين بقيمة فتح هذه الطريق للتجارة الشرقية، وبذلت في ذلك جملة محاولات، ولكن جهود فرنسا في هذه الناحية أثارت حسد إنجلترا، وخاصة في وقت كان التنازع الاستعماري بين الدولتين على أشده، ووجد بعض مواطني إنجلترا في الشرق الأدني أنه ربما كان من الخير لوطنهم أن يشارك في فتح هذه الطريق التي ربما تحولت إليها تجارة الهند والشرق، فإعادة فتح هذه الطريق قد تعود على إنجلترا بالخير العميم، وربما عملت على نمو التجارة البريطانية.
وما إن تبوأ علي بك الكبير الحكم في مصر، وسيطر على بلاد العرب، وأعاد لمصر بعض مركزها القديم؛ حتى زاد اهتمام الفرنسيين والإنجليز ببذل جهودهما في ذلك السبيل، فالإنجليز من ناحيتهم يودون لو فتح طريق البحر الأحمر إلى السويس لسفنهم الآتية من الهند والمحيط الهندي، والفرنسيون يودون لو استطاعوا الاستيلاء على تجارة الشرق عن طريق تحويلها إلى طريق مصر.
ولكن الإنجليز والفرنسيين لم يظفروا في آخر الأمر بنجاح؛ فقد وجدوا عقبات كأداء في طريقهم لا بد من تذليلها، فالدولة العثمانية وإن تظاهرت بالإصغاء إلى آرائهم؛ إلا أنها كانت أحرص من أن تأذن بفتح هذه الطريق التي تجعل ممتلكات الدولة العثمانية في شرقي البحر الأبيض المتوسط ميدانا جديدا للتنافس والتوسع الأوربي.
ولقد بررت الدولة العثمانية مسلكها هذا لدى الدولتين الكبيرتين بأن الملاحة الأوربية محرمة في البحر الأحمر، فضروري للدولة العثمانية احترام مركزها بين المسلمين، ولا يكون ذلك إلا بالمحافظة على حرمة الأماكن المقدسة الإسلامية من أن ترسوا على شواطئها سفن مسيحية أوربية.
والدولة العثمانية، وإن كانت ضعيفة من الوجهة الحربية، ولكن ساستها برعوا حقيقة في فن السياسة، فكان لهم من بعد النظر السياسي والمهارة في الانتفاع بما بين الدول من أحقاد ومنافسة ما مكنهم من المحافظة على الدولة وسط التيارات الدولية العنيفة، وكان هؤلاء الساسة يخشون أن يعمل إحياء طريق مصر على زيادة موارد بكوات المماليك الذي استقلوا بأمور مصر، واحتقروا من الناحية العملية سلطة السلطان، وعملوا على الانفصال عن الدولة العثمانية.
ولقد حاول الإنجليز والفرنسيون أن يلجوا بابا آخر للوصول إلى أغراضهم المادية، فحاولوا عقد معاهدات مع بكوات المماليك أنفسهم أصحاب السلطة الفعلية والنفوذ في مصر، ولكن هذه المعاهدات لم تسفر عن نتيجة، فأمور مصر السياسية لم تكن مستقرة، وأحوال الأمن الداخلي مضطربة، وعهود بكوات المماليك لا يوثق بها ولا تربط أحدا، على أن ما يهمنا في هذا المكان هو أن إنجلترا وفرنسا اهتمتا بأمور مصر ومستقبلها نتيجة لاهتمامها بفتح الطريق القديمة، ففرنسا ترى أن فتح هذه الطريق سيجلب لها متاجر الشرق، وسيلحق بتجارة أعدائها الإنجليز الضرر البليغ. والإنجليز من ناحيتهم يرون في فتح هذه الطريق غنما كبيرا لتجارتهم واقتصادا كبيرا في الوقت والنفقات.
وأتى الفرنسيون إلى مصر في السنتين الأخيرتين للقرن الثامن عشر فاتحين ، وقد جعلوا من أهدافهم الأولى استعمار مصر واتخاذها مركزا للتوسع في الشرق الأدنى، وفتح الطريق المائية التي تصل البحرين الأبيض المتوسط والأحمر.
وما إن استقرت أقدامهم في أرض مصر حتى أخذوا في دراسة مشروع توصيل البحرين دراسة جدية. ولكنه لم يهيأ لهم النجاح، فبقاؤهم في مصر كان قصير المدى، شغلوا في أثنائه بالدفاع عن مركزهم في هذه البلاد أمام الأهالي المصريين وأمام الأتراك وأمام الإنجليز، فضلا عن أنهم في دراستهم للمشروع قد ظنوا أن مستوى أحد البحرين أعلى من مستوى الآخر.
وخرج الفرنسيون من هذه البلاد، بعد أن وجهوا - وهم لا يريدون - نظر السياسة الإنجليزية إلى أهمية هذه البلاد من الناحية الاستراتيجية والحربية، ومن ناحية المواصلات العالمية.
وأصبحت لإنجلترا سياسة خاصة نحو مصر وضعت أسسها في مطلع القرن التاسع عشر، اتبعتها مدة طويلة، فإنجلترا لن تسمح لدولة أوربية بالاستيلاء على مصر، ولن تسمح بقيام حكومة قوية في مصر تهدد مصالح إنجلترا.
على أن مشروع وصل البحرين لم ينته بخروج الفرنسيين، فلقد ظل حيا في أذهان بعض الفرنسيين، ولم يكن الإنجليز في أول الأمر معارضين له، بل كانوا مرحبين به، وحاول الفرنسيون والإنجليز دراسة المشروع دراسة قائمة على أسس علمية صحيحة، وحاول الفرنسيون جاهدين تحقيقه في عهد محمد علي الكبير، ولكن عاهل مصر العظيم كان له من بعد النظر السياسي وفهم الموقف الدولي ما جعله يغض النظر عن تنفيذه، وإن كان قد وجه عناية كبرى إلى فتح الطريق البرية التي تمر خلال مصر من الإسكندرية إلى القاهرة ومن القاهرة إلى السويس، هذه الطريق اقتنعت الحكومة الإنجليزية بأفضليتها على القناة من الناحية السياسية، إذ إنها اعتقدت أن تنفيذ مشروع القناة سيؤدي إلى فتح بوسفور جديد وربما يضطرها إلى احتلال مصر.
ولقد عمل حكم محمد على المستنير على استتباب الأمن والطمأنينة في كل ربوع البلاد، وأعدت الطريق البرية إعدادا تاما لتكون صلة مهمة بين الشرق والغرب، وما خشيه محمد علي الكبير من المشروع الفرنسي هو ما كان يخشاه على مستقبل هذه البلاد من إنشاء بوسفور جديد، كان يخشى عواقب إنشاء قناة بحرية تصل ما بين البحرين وتغير من مركز مصر الجغرافي وتجعل منها ميدانا للتنافس الأوربي، كان محمد علي يرى أن إنشاء القناة سيجعل من مسألة مصر مشكلة دولية يهم الدول البحرية جميعا التدخل في تحديد مصيرها.
ثم يأتي عباس باشا الأول ليتولى حكم مصر، ويرتسم لنفسه خطة محمد علي الكبير فيما يختص بموضوع القناة، فلما اشتبكت إنجلترا وفرنسا في نضال شديد، وأيدت إنجلترا إحياء الطريق البرية تأييدا كاملا بوضع مشروع للسكة الحديدية بين الإسكندرية والقاهرة والسويس، عارضت فرنسا ذلك المشروع معارضة شديدة، واستغلت في سبيل ذلك ما لها من نفوذ في مصر وتركيا، ولكن المشروع الإنجليزي كتب له النجاح ودخل في دور التنفيذ، وفي أثناء إنشاء السكة الحديدية بين مصر والإسكندرية مات عباس باشا الأول، واعتلى سعيد باشا منصة الحكم في مصر.
وشاء الله أن ينجح المشروع الفرنسي - مشروع إنشاء القناة - كما نجح المشروع الإنجليزي من قبل، وكان لشخصية فردنند دي لسبس صاحب المشروع، وصبره ومثابرته وجرأته، ثم لصلته الوثيقة بوالي مصر الجديد أثر كبير في إخراج المشروع الفرنسي إلى حيز الحياة والتحقيق.
ومنح سعيد باشا دي لسبس امتياز قناة السويس بشروط مجحفة بحقوق مصر وصالح المصريين، فلقد نص في الامتياز الممنوح للشركة العالمية لقناة السويس على تسخير عدد كبير من الفلاحين المصريين لخدمة الشركة وتنفيذ أغراضها، كما أعطاها فرمان الامتياز من امتيازات الملكية ومن حيازة مساحات شاسعة من الأراضي في منطقة القناة ما لم يسمع له نظير، وليس هنا المجال لشرح نصوص ذلك الامتياز أو التعليق عليه، ولكن يكفي أن نقول: إن وجهة نظر سعيد باشا كانت عالمية، فهو يرمي إلى خدمة العالم والحضارة قبل كل شيء؛ ولذا فهو يقدم كل التسهيلات ويبذل كل شيء في سبيل تدعيم مركز شركة القناة وفي سبيل تحقيق المشروع.
الفصل الثاني
موقف إنجلترا من امتياز قناة السويس (1854-1869)
كانت إنجلترا تنظر إلى مشروع قناة السويس كمشروع فرنسي قبل كل شيء من شأنه أن يجعل للفرنسيين نفوذا كبيرا في مصر يمكنهم من التحكم في طريق عالمية لخدمة أغراضهم الخاصة.
حقيقة كانت تربط إنجلترا بفرنسا في الخمسينات للقرن التاسع عشر في عهد الإمبراطور نابليون الثالث؛ صلات ود وصداقة نمت فتحولت إلى تحالف متين الأواصر في حرب القرم؛ حين وقفت الدولتان جنبا إلى جنب مع الدولة العثمانية ضد أطماع الروس، ولكنه بالرغم من وجود ذلك الحلف لم تنس الدولتان أبدا تنافسهما القديم في حوض البحر الأبيض المتوسط وفي ميدان الاستعمار.
ففرنسا ترى أن سواحلها الجنوبية تطل على ذلك البحر، وهذا يعطيها الحق في أن تعمل على تفوق نفوذها فيه، وخاصة في مصر والشرق الأدنى، فذكريات حروبها في ذلك البحر، وذكريات صليبييها ومعاهداتها بصفتها بنت الكنيسة الكبرى مع الدولة العثمانية، كل هذه تشير إلى مستقبل زاهر لفرنسا في ذلك البحر، وبصفة خاصة في مصر وفي شمالي أفريقيا، ولقد كانت مصر في نظر فرنسا هي الميدان الذي جاهد فيه لويس التاسع في حملته الصليبية، وجاء إليه أنبغ أبناء فرنسا من رجال الحرب بحملته المشهورة التي أيقظت مصر من سبات العصور الوسطى، ومصر هي البلاد التي احتلها الفرنسيون، وقاموا فيها بمشروعاتهم العظيمة، وأزاحوا الستار عن ماضيها المجيد، ومصر هي البلاد التي ساعدوا على نهضتها الحديثة في عهد محمد علي الكبير، وأبلى منهم بلاء حسنا رجال في خدمة ذلك المصلح الكبير، في تكوين جيشه وبناء أسطوله، وتدعيم التعليم في عهده.
وكانت سياسة لوي فيليب في الأربعينيات من القرن التاسع عشر عاملة بلا ريب على إحياء الدول الصغيرة في البحر المتوسط وربطها بفرنسا بحبال صداقة لا تنفصم، ففرنسا في ذلك الوقت ترى أن لها دالة على مصر وعلى ولاتها، ولها الحق أن تمتع بنفوذ متفوق في وادي النيل.
ولذا، فالبرغم من صلات الصداقة والود التي كانت تربط الدولة الفرنسية بإنجلترا في عهد لوي فيليب ونابليون الثالث، فلقد عملت الحكومة الفرنسية - بصفة غير رسمية - على مكافحة النفوذ الإنجليزي في كل مكان في البحر الأبيض المتوسط؛ في الدولة العثمانية، في شمال أفريقيا، وفي مصر بصفة خاصة .
وكيف تعمل فرنسا على نمو نفوذها في مصر؟ لا يكون ذلك باحتلال مصر، فبريطانيا واقفة لها بالمرصاد، ولن تسمح بذلك أبدا، بل هي على قدم الاستعداد للدخول في حرب ضروس مع فرنسا إذا حاولت هذه المحاولة الجريئة، ثم إن نابليون الثالث الذي كان يدير شئون فرنسا الداخلية والخارجية في ذلك الوقت كان أبعد الناس تفكيرا عن أن يقوم بأي عمل من شأنه إفساد علاقاته الطيبة بإنجلترا؛ فإنجلترا هي الدولة الكبرى التي رحبت بمقدمه، وهي التي اعترفت رسميا بحكمه، ونسيت تاريخ وعداوة عمه، ولم تثر عقبات في وجهه، وبعد ذلك فنابليون الثالث لا يرى أبدا الدخول في حرب مع صديقته الأخرى؛ الدولة العثمانية صاحبة السيادة على مصر، وخاصة بعد أن وقف في صفها وحارب بجانبها، وبعد أن أعلن إعلانا تمسكه بسياسة المحافظة على كيانها وسلامة ممتلاكتها.
ولكنه مع ذلك لم يكن لدى عاهل فرنسا الكبير مانع من أن يعمل الفرنسيون على زيادة نفوذ فرنسا في مصر بالطرق المشروعة، وذلك بالقيام بالأعمال والمشروعات العظيمة التي سترفع بلا ريب من مركز فرنسا في مصر والعالم.
ونابليون الثالث بعد ذلك رجل عواطف وخيالات، تملأ المشروعات ذهنه وتعترض كثير من الآمال الغامضة تفكيره، فهو تارة يفكر في إنشاء إمبراطورية عربية في شمال أفريقيا، وتارة تدور في خلده صور لسيطرة فرنسا على أهم الطرق العالمية التي تصل بين الشرق والغرب.
فلا عجب إذن إذا أولى مشروع دي لسبس عطفه وتمنى له النجاح، وبذل له كل تأييد سياسي ممكن، لا سيما وأن مشروع فردنند دي لسبس ليس مشروعا حكوميا أخذت الحكومة الفرنسية على عاتقها تنفيذه، وإنما هو مشروع فردي خاص، يقوم به أحد الأفراد الفرنسيين، له ولعائلته من قبل صلات وثيقة سياسية وشخصية بالشرق الأدنى ومصر، وقد أعلن نابليون الثالث مرارا في سنة 1856 أنه قد اهتم بالمشروع وبدراسته، وأكد مرة لدي لسبس: «إنك تستطيع أن تعتمد على تأييدي وحمايتي.»
والواقع إنه لم يكد سعيد باشا يمنح دي لسبس فرمان امتياز القناة حتى تقدم نابليون الثالث فمنح سعيد باشا نيشان اللجيون دونور.
وشارك نابليون الثالث في عطفه على مشروع دي لسبس الصحافة الفرنسية التي أيدت المشروع كمشروع قومي، وكذلك الهيئات العلمية وخاصة أكاديمية العلوم في باريس، وكان المشروع يجد كذلك كثيرا من العطف خارج فرنسا من الدولتين النمساوية والروسية، فقد كانتا تؤمنان بقيمة المشروع.
وأما الحكومة الإنجليزية فلقد كانت تفهم جيدا مرامي السياسة الفرنسية، وعملها على التفوق في الشرق الأدنى، بل وسعيها لتحويل البحر المتوسط إلى بحيرة فرنسية؛ ولذلك فالحكومة الإنجليزية تبذل جهودها لوقف ذلك النفوذ والعمل على تفوق النفوذ الإنجليزي، حقيقة لم تكن لإنجلترا سواحل مطلة على ذلك البحر، ولكن قوة إنجلترا وتفوقها البحري، وقواعدها الحصينة في جبل طارق ومالطة؛ وصلات الصداقة والتحالف التي كانت تربطها بالدولة العثمانية؛ كل ذلك جعل لها مركزا قويا بل وممتازا في ذلك البحر.
وإذا كانت فرنسا تعمل جاهدة على إنشاء دول صغيرة في البحر الأبيض المتوسط مدينة لفرنسا بوجودها واستقلالها؛ فلقد ناضلت إنجلترا بقوة هذه المحاولة ونجحت في ذلك نجاحا مذكورا، ظهر ذلك النضال في تأييد فرنسا لمحمد علي في حركته الاستقلالية التي كانت ترمي إلى الانفصال عن الدولة العثمانية في سنتي 1839، 1840، ووضع حد للسيادة التركية العتيقة البالية، وفي وقوف إنجلترا في طريقه وقضائها على آماله وآمال مصر في الاستقلال.
ولقد أخذ ممثلو إنجلترا في بلدان البحر المتوسط وقناصلها على عاتقهم تنفيذ هذه السياسة بحذافيرها، وغلوا في ذلك غلوا كبيرا، واشتدت حماستهم، وقام بينهم وبين زملائهم الفرنسيين تنافس شديد بل ونضال حمي أواره تنوسيت فيه في كثير من الأحيان آداب المجاملة الشخصية، ووصل الخصام بين الفريقين إلى حد أن قطعوا صلاتهم الشخصية، وكثرت تقاريرهم إلى حكوماتهم، وطالت، وامتلأت بالصور القاتمة والتهم الكثيرة، فيكتب القنصل الإنجليزي ريتشارد ود - وهو من القناصل الإنجليز الذين كافحوا بهمة ونشاط النفوذ الفرنسي مدة طويلة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، وأحد الذين أثاروا الشغب على محمد علي الكبير في الشام - يكتب مذكرة مطولة إلى حكومته بتاريخ 20 أغسطس سنة 1859، يرسم فيها صورة قائمة لمشاريع فرنسا في البحر المتوسط ، ففرنسا - في نظره - تبذل جهودا مضنية في سبيل فصل مصر وتونس عن الدولة العثمانية، لتضم تونس إلى ممتلكاتها الجزائرية، ولتحتل مصر في أول فرصة مناسبة.
وحين يصف ذلك القنصل مركز فرنسا وإنجلترا في البحر الأبيض المتوسط؛ لا يجد في سياسة فرنسا الخارجية سوى محاولة إلحاق الضرر بمصالح إنجلترا، ووجد أن فرنسا قد أصبح لها مركز قوي في ذلك البحر، وخاصة بعد احتلالها لإقليم الجزائر، وتركيزها لقوات بحرية وبرية كبيرة في شمال أفريقيا.
وهو يسطر في مذكرته المذكورة أن فرنسا إذا أرادت الإضرار بإنجلترا؛ فهي دائما تلتجئ إلى مهاجمة المصالح الإنجليزية في البحر المتوسط، وبين أن ما يرمي إليه الفرنسيون من بذل هذه الجهود؛ هو أن يضعوا إنجلترا في مركز لا تستغني فيه عن صداقة الفرنسيين إذا أرادت المحافظة على ممتلكاتها في الهند، وقال إن الفرنسيين يستخدمون في سبيل الوصول إلى بغيتهم كل الوسائل مشروعة كانت أو غير مشروعة.
فإنجلترا إذن تكافح في سبيل منع الفرنسيين من الحصول على امتياز من والي مصر خاص بشق القناة، وكلما ازدادت حماسة الفرنسيين في تعضيد مشروعهم ازدادت حماسة الإنجليز في معارضته، بل لقد وضعت إنجلترا مشروعا منافسا للمشروع الفرنسي، وهو مشروع إنشاء السكة الحديدية بين الإسكندرية والقاهرة والسويس، ونجحت في ذلك مع والي مصر عباس باشا الأول الذي لم ينس درس سنة 1840 وعرف مقدار ما تستطيعه القوة البحرية الإنجليزية، تيقن عباس باشا الأول من أن إنجلترا لديها العزم على تنفيذ سياستها في الوقت الذي هددت فيه فرنسا وأنذرت، ثم أخيرا تخاذلت عن نصرة مصر في أزمتها الشديدة سنة 1840، رأى والي مصر أن يجامل إنجلترا ويؤجل المشروع الفرنسي، غير آبه كثيرا لإنذار فرنسا له بالعمل لدى الباب العالي على عزله عن ولاية مصر.
أرسلت إنجلترا تعليمات إلى قنصلها العام في مصر بأن يقنع عباسا الأول بقيمة مشروع السكة الحديدية، وبأن مشروع القناة يكلف ما لا يطاق من الجهد والوقت والمال، فمال الوالي ناحية المشروع الإنجليزي وعمل على تنفيذه.
ولكن فردنند دي لسبس استطاع أن ينتهز فرصة تولي سعيد باشا فيسارع إلى مصر مذكرا الوالي الجديد بصلاتهما الوثيقة القديمة، ويجد من الوالي الجديد ترحيبا كبيرا، وينجح في إقناعه بقيمة المشروع الفرنسي في فتح القناة البحرية وتوصيل البحرين، ولا يدري أحد بالدقة ماذا دار بينهما من حديث، وماذا وضع دي لسبس أمام سعيد باشا من آمال، ولا ندري بالضبط ماذا كان يدور بخلد والي مصر من دوافع لمنح مثل ذلك الامتياز، وإن كان البعض يظن أن غرض الوالي كان العمل على اكتساب صداقة فرنسا وتأييدها لاستقلاله إذا ما تأزمت الأمور بينه وبين الباب العالي صاحب السيادة على مصر.
يوافق سعيد باشا على منح فردنند دي لسبس الامتياز الخاص بمشروع فتح القناة البحرية التي تتصل فيها مياه البحر الأحمر بالبحر المتوسط، ويتم ذلك في 30 نوفمبر سنة 1854.
ويسقط في يد إنجلترا، فلقد أخذ فردرك بروس ممثلها في مصر فجأة بتصميم سعيد باشا على منح ذلك الامتياز وتنفيذ ذلك المشروع ولم يفلح في تحويل الوالي عن رأيه؛ حتى بعد أن أعلن منذرا بأن الحكومة الإنجليزية لا تستطيع أن توافق على ذلك المشروع؛ فهو في نظرها مشروع خيالي وغير عملي، ولم يحن الوقت ولا الظروف الملائمة لمحاولة تنفيذه، وأن خيرا منه هو إتمام مشروع الطريق البرية الحديدي من القاهرة إلى السويس.
على أن الحكومة الإنجليزية لم تجد في ذلك الوقت أن تقدم إنذارا رسميا للوالي ضد تنفيذ ذلك المشروع، فالعلاقات بينها وبين الحكومة الفرنسية كانت بصفة عامة جيدة، وتقديم مثل ذلك الإنذار معناه أن الحكومة الإنجليزية تحارب رسميا مصالح الفرنسيين ومشاريعهم، فالحكومة الإنجليزية لم تتخذ مثل هذه الخطوة، ولم ترد الذهاب إلى ذلك الحد.
ثم إن منح سعيد باشا للامتياز ليس بذي أهمية كبيرة؛ إلا إذا وافقت عليه الدولة صاحبة السيادة على مصر، فعلى الحكومة الإنجليزية إذا أرادت عرقلة المشروع أن تبذل مساعيها لدى الباب العالي، فهو صاحب السلطة الرسمية في مصر، وأن تنصحه بعدم الموافقة على الامتياز أو على الأقل بتأجيل النظر فيه.
وكان سفير الحكومة الإنجليزية لدى البلاط العثماني ستراتفورد دي ردكليف - وكان يتمتع في الأستانة بنفوذ لا نظير له - كان يرى أن على إنجلترا أن تبين للباب العالي خطر المشروع الفرنسي على الدولة العثمانية، فما تريده فرنسا من وراء ذلك المشروع هو فصل مصر عن الدولة العثمانية بممر مائي يصلح لأن يكون خطا دفاعيا حربيا، وإنشاء مستعمرة فرنسية في شرقي مصر، ثم السيطرة على كل مصر بعد ذلك؛ ولذا فخير للباب العالي ألا يصدق على الامتياز، ولم تقتصر محاولات ستراتفورد على ذلك، بل طلب تعليمات رسمية من حكومته تؤيد موقفه؛ ولذا وجد لورد كلارندن، وزير الخارجية البريطانية، ضرورة الاتصال بسفير الحكومة الفرنسية في لندن ليبين له وجهة نظر الحكومة البريطانية في مشروع القناة، فهذه الوجهة تتلخص فيما يلي: (1)
نظرا لأن تنفيذ المشروع يستلزم نفقات كثيرة، فالغرض الواضح منه سياسي. (2)
والمشروع يؤخر إتمام مشروع السكة الحديدية من الإسكندرية إلى السويس. (3)
المشروع وليد سياسة عدائية بالنسبة لمصر من ناحية فرنسا.
ولم تجد محاولات فردنند دي لسبس في الاتصال بستراتفورد، وإقناعه بأهمية المشروع وعدم تعارضه مع المصالح الإمبراطورية الإنجليزية، وأن المسألة مسألة مصرية تركية قبل كل شيء، لا داعي فيها للتدخل الحكومي الإنجليزي أو الفرنسي.
ولقد نجح ستراتفورد دي ردكليف في نصحه للباب العالي، مما عقد الأمور لدي لسبس، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أرسل الباب العالي نتيجة لمساعي إنجلترا خطابا شديد اللهجة إلى سعيد باشا في مصر يحذره فيها عواقب عمله الجريء.
ومع ذلك فقد قدر للمشروع الفرنسي البقاء نظرا لتدخل الدولة النمساوية في صالح دي لسبس، فلقد كانت تعضد المشروع الفرنسي تعضيدا كبيرا.
ولقد اصطدمت المصالح الإنجليزية والفرنسية في هذا المشروع وهاجت بينهما الإحن القديمة إلى حد أن وجدت الحكومتان الإنجليزية والفرنسية ضرورة المحافظة على تحالفهما وعلاقاتهما الطيبة، فاتفقتا فيما بينهما على أن تمتنعا عن التدخل الفعلي لا بتعضيد المشروع ولا بالعمل على فشله، ولكن هذا الاتفاق لم يمنع الحكومة البريطانية من أن تتابع خطتها في بث العقبات والعراقيل أمام المشروع الفرنسي، وهذا الموقف اضطر صاحب المشروع للقيام بالدعاية للمشروع في إنجلترا ذاتها.
وكان على رأس الوزارة في إنجلترا في ذلك الوقت لورد بامرستون، وهو يمثل الرجل الإنجليزي والسياسي الإنجليزي أصدق تمثيل، فهو مؤمن بتفوق إنجلترا، ويعمل لعظمتها وخدمة مصالحها قبل كل شيء، ويرى أنه من الواجب على الدول الأخرى أن تستمع لآراء إنجلترا بما لها من مركز ممتاز في العالم، وهو لا يتقيد كثيرا بالخيالات ولا تؤثر فيه النواحي العاطفية إذا ما تعارضت مع مصالح إنجلترا الحقيقية، وهو ملم تماما بأمور السياسة الخارجية لا تفوته صغيرة ولا كبيرة من أمورها.
وهو من أكبر دعاة الإمبراطورية، ومن القائلين بضرورة حماية مواصلاتها وطرق تجارتها، وهو الذي وضع سياسة إنجلترا التقليدية في الشرق الأدنى، فليس إذن غريبا أن يعارض هذا الرجل كل مشروع فرنسي، فهو لا يوافق على مشروع القناة؛ لأنه يرى أن المشروع يتعارض مع مصالح إنجلترا الإمبراطورية، وهو لا يثق كثيرا في استقرار الأمور السياسية في فرنسا، وخاصة ما يتعلق منها بنظام الحكم، ويرى أن إنجلترا يجب أن تتمسك بطريق الأطلنطي لأنها تستطيع الإشراف عليه، وهي مشرفة عليه بالفعل.
فهو يعترف بأن حكومة نابليون الثالث صديقة لإنجلترا، ولكنه لا يستطيع أن يضمن أن الحكومة التي تخلفها في المستقبل ستحافظ على ولاء إنجلترا، فقد تستغل هذه الطريق الجديدة لمناوأة النفوذ البريطاني ومحاربة المصالح الإنجليزية فيما وراء البحار.
ولذلك حين حاول دي لسبس الاتصال به لم يجد منه أذنا صاغية، فلقد بين بامرستون لصاحب المشروع بصراحة ووضوح، شأنه في كل تصريحاته السياسية، بأنه لا يوافق على ذلك المشروع فهو غير عملي ولا يمكن تنفيذه.
على أن موقف الحكومة الإنجليزية العدائي لم يدع دي لسبس إلى القنوط أو إلى التنازل عن فكرته؛ ولذا فهو يحاول الاتصال بالزعماء الإنجليز الآخرين من أمثال كوبدن، وجلادستون، وحاول كذلك الاتصال بالرأي العام الإنجليزي، يقنعه بقيمة المشروع من الناحية العملية ومن الناحيتين الحضارية والإنسانية، أرسل خطابات إلى أعضاء البرلمان الإنجليزي، وإلى إدارة شركة الهند الشرقية، وأصحاب السفن، وأعضاء الغرف التجارية، وكبار رجال الصناعة وأصحاب المصارف ، يحاول أن يقنعهم بفائدة المشروع من الناحية العملية والمالية، ولم تذهب كل مساعي دي لسبس دون جدوى، فلقد أظهرت شركة الهند الشرقية عطفها على مشروعه، وكذلك بعض شركات خطوط الملاحة لا سيما شركة ال
O. .
والواقع أن الرأي العام البريطاني لم يكن مجمعا على معارضة المشروع، كما كانت الحكومة الإنجليزية معارضة له، فلقد كان جانب منه محبذا للناحية التجارية للمشروع، وهذا شجع دي لسبس على أن يسير قدما في مشروعه وفي طريقه، وأن يبين للرأي العام الإنجليزي أن المشروع ممكن تنفيذه من الناحية العملية، فأعلن أن تقارير المهندسين الفرنسيين من أمثال لينان بك وموجل بك قد أثبتت بطريقة لا تقبل الشك أن المشروع من الناحية الهندسية عملي وممكن تنفيذه.
ولم يقتصر دي لسبس على ذلك، فهو رجل جم النشاط ممتلئ بمشروعه، موقن بقيمته، كبير الأمل في تحقيقه، كون دي لسبس لجنة دولية ضم إليها عددا من كبار المهندسين الإنجليز أنفسهم لفحص المشروع ودراسته والتقرير عن إمكان تنفيذه.
ولقد بدأت اللجنة الدولية عملها في سنة 1855، وانتهت من وضع التقرير في يناير سنة 1856، ولو أنه لم ينشر إلا بعد ذلك، وفي ذلك التقرير أيدت اللجنة الدولية إنشاء القناة البحرية التي تصل ما بين البحرين، وبينت أن التنفيذ ليس صعبا كما يتصور المعارضون، وأن النجاح في إنجاز المشروع ممكن.
وعلى أساس هذا التقرير الجديد، حاول دي لسبس في يوليو سنة 1857 الإجابة على اعتراضات بامرستون، وبين أن هذه الاعتراضات قائمة على أسس تجارية وفنية وسياسية، فمن الناحية التجارية قيمة المشروع لا تقدر لإنجلترا، لا يحتاج ذلك إلى بيان، فطريق القناة - إذا تمت - أقرب الطرق إلى الشرق وفي هذا توفير للوقت والمال والجهد، وأما من الناحية العملية فهذا تقرير اللجنة الدولية التي تجمع بين أعضائها عددا من كبار المهندسين الإنجليز يقول بأن المشروع عملي وممكن تنفيذه، وقد أيدت هذا التقرير أكاديمية العلوم في باريس والمعهد الإمبراطوري الفرنسي، وأما من الناحية السياسية فآراء لورد بامرستون قائمة على أساس أخطار وهمية على الهند والإمبراطورية العثمانية، ولا خطر على الدولة الإنجليزية من مشروع القناة طالما يملك الإنجليز جبل طارق ومالطة وعدن وجزيرة پريم، أما الدولة العثمانية فمركزها مضمون بالمعاهدات والمواثيق الدولية، بل إن فتح القناة سيجعل مصر بمنأى عن أطماع الدول الأوربية إذ سيجعل لها مركزا محايدا، وفي هذا كما يرى دي لسبس تأييد لسياسة الإنجليز التقليدية في المحافظة على سلامة الدولة العثمانية.
كان دي لسبس يرى أن لهجة بامرستون متناقضة وغير منطقية وغير معقولة، فلا داعي في نظر دي لسبس لأن يعتقد بامرستون أن سياسة فرنسا مريبة، وأن فرنسا هي التي شجعت محمد علي على مناوأة إنجلترا، وأن ذهب لوي فيليب ملك فرنسا هو الذي أنشأ قلاع الإسكندرية وأن مشروع القناة يرمي إلى مناوأة إنجلترا.
وعلى أي حال فلقد نال دي لسبس على أساس تقرير اللجنة الدولية من سعيد باشا امتيازا جديدا خاصا بالقناة روعى فيه مقابلة بعض مخاوف إنجلترا، فلقد نص فيه على حياد القناة، وأن معظم من سيقومون بالتنفيذ مصريون لا فرنسيون، كما نص فيه أيضا على ضرورة موافقة الباب العالي، ولقد كان تكوين هذه اللجنة الدولية، والنتيجة التي وصلت إليها، من العوامل التي زادت ثقة دي لسبس في مشروعه، وضمت جانبا كبيرا من الرأي العام الإنجليزي والعالمي إلى صفه في مشروعه الجريء.
على أن الحكومة الإنجليزية استمرت في معارضتها للمشروع، وبررت ذلك الموقف بتعارض المشروع مع سياسة إنجلترا التقليدية إزاء الدولة العثمانية، وأنه سيوجد فاصلا مائيا بين مصر وتركيا، وردد بامرستون هذا الرأي بصراحة تامة في مجلس العموم البريطاني في شهر يولية سنة 1857، فلما ثار موضوع القناة في مجلس العموم البريطاني في يونية سنة 1858، أعلن بامرستون أن تنفيذ المشروع سيعمل على انحلال الإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية، وأن السكة الحديدية بين القاهرة والإسكندرية تكفي لخدمة مصالح لإنجلترا أكثر بكثير من حفر القناة، وأبان جلادستون في الجلسة نفسها عن ضعف هذه الفكرة، وذكر أن القناة مجرى مائي، وإذا قدر لها أن تقع في يد أية دولة، فستقع في يد أقوى الدول البحرية وهي إنجلترا، وطلب من الأعضاء أن ينظروا إلى مشروع القناة لا كمشروع سياسي ولكن كمشروع تجاري قبل كل شيء، ولكن آراء جلادستون وإن تركت أثرا في الرأي العام البريطاني إلا أنها لم تحول الحكومة البريطانية عن رأيها.
فلقد عبر لورد كلارندون وزير الخارجية إذ ذاك عن رأي الحكومة البريطانية في ضرورة الوقوف أمام المشروع، بل وأنذر الباب العالي بأنه إذا صدق على الامتياز الممنوح لدي لسبس، فيجب ألا ينتظر أن تستمر بريطانيا أو غيرها من الدول الكبرى الأوربية في سياسة المحافظة على الدولة العثمانية وعلى سلامتها، ولم تجد محاولات الإمبراطور نابليون الثالث لإقناع الحكومة البريطانية بالكف عن معارضتها.
ولم يمنع هذا دي لسبس من المضي في تنفيذ مشروعه، فلو استطاع جمع المال اللازم لتنفيذ المشروع، لهدم هذا حجة قوية من حجج الحكومة الإنجليزية بأن المشروع غير عملي، وأنه لن يقبل على المساهمة فيه أحد؛ ولذا لما فتح دي لسبس باب الاكتتاب في المشروع تهافت عليه الناس في أوروبا، فكان نجاح الاكتتاب من عناصر تقوية المشروع وتأييده، وإن كان الإنجليز لم يكتتبوا في الأسهم التي كانت مخصصة لهم.
ولكن ما تطلبه تنفيذ المشروع من نفقات باهظة وما لاقاه من صعوبات في أول الأمر كاد يودي بكل المشروع، لولا العطف والتأييد الذي لاقاه من إمبراطور الفرنسيين ومن الحكومة الفرنسية والرأي العام الفرنسي.
إذ إنه في سنة 1860 بعد أن تابعت شركة القناة أعمال الحفر، كتبت الصحف الإنجليزية مثل «الديلي نيوز» و«التيمز» تسخر من المشروع، وتبين أن من السهل حفر حفر في الصحراء وجمع أكوام من التراب الذي تذروه الرياح، فيغطى الحفر من جديد، وأبانت عن أن المشروع فاشل لا محالة وسيكلف كثيرا من النفقات التي لا تستطيع القيام بها شركة خاصة، وردد هذا القول في البرلمان الإنجليزي، فقال بامرستون: إن المشروع مجرد جعجعة وخداع، وإنه سيكلف من الوقت والمال والعمل ما لا تستطيعه شركة القناة، وذكر في خلال كلامه أن والي مصر قد اضطر إلى الاقتراض من مصرف في مارسيليا للوفاء ببعض التزاماته إزاء شركة القناة.
وفي السنة التالية في مايو ثارت في البرلمان الإنجليزي المعارضة شديدة ضد المشروع الفرنسي، وتكرر نفس الطعن السابق، فالمشروع في نظر بعض الأعضاء غير عملي من الناحية التجارية، فهو كثير النفقات كبير الخسارة على المساهمين، وفوق كل ذلك فهو يعطي الشركة الفرنسية أراضي شاسعة في قلب مصر حول القناة، وأن الحكومة الفرنسية قد تستطيع استخدام هذه الأراضي لمصلحتها الخاصة والاستفادة من مركز المنطقة الاستراتيجي، وذكر بعض الأعضاء أن المشروع في نظر فرنسا له قيمته الاستراتيجية، وأنه لا يمكن اعتبار شركة القناة شركة خاصة، فهي شركة تتكلم باسم الشعب الفرنسي وتدعي أنها تمثل الحكومة الفرنسية وتطلب تأييدها في كل حين، وأشير إلى زيادة عدد الرعايا الفرنسيين في مصر، وطلب إلى الحكومة الإنجليزية أن تستوضح من الحكومة الفرنسية موقفها إزاء هذا المشروع.
وأجاب ممثل الحكومة البريطانية في البرلمان بأن سياسة بريطانيا لم تتغير، فهي تراقب الموقف بدقة متناهية، وهي لا تعترض على المشروع كمشروع تجاري ولكنها تنظر إليه بالنسبة لتركيا وإزاء مركز مصر السياسي، ونادى بعض الأعضاء بأنه يكفي إنجلترا المحافظة على بوسفور واحد، وأنه لا معنى لمشروع يضع إنجلترا بين يدي فرنسا؛ لأنه إذا نفذ المشروع؛ فعندئذ تستطيع فرنسا إرسال أساطيلها بسرعة، وقطع المواصلات بين إنجلترا والهند؛ ولذا فلا مناص لإنجلترا من معارضة المشروع.
ولجأت إنجلترا إلى عرقلة المشروع في دور التنفيذ من ناحية أخرى، فأثارت مسألة تسخير الفلاحين في أعمال الحفر، فهاجمت الصحف الإنجليزية تسخير الفلاحين على أساس أنه ليس إلا صورة من صور الرق، ووصفت ما يلاقيه هؤلاء العمال من عذاب وقسوة، مثلهم في ذلك مثل الرقيق في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة.
ولقد أثير مرارا موضوع السخرة في البرلمان الإنجليزي، وطالب بعض النواب الحكومة الإنجليزية بأن تعمل ما في وسعها للتخفيف من آلام وشقاء هؤلاء البؤساء.
على أن محاولة الإنجليز عرقلة المشروع من هذه الناحية لم تنجح كثيرا، فلقد أسرع دي لسبس في تنفيذ مشروعه ليضع الحكومتين العثمانية والإنجليزية أمام أمر واقع، والتنفيذ من شأنه أن يقنع الحكومة الفرنسية بضرورة تأييد المشروع وحماية أموال المساهمين الفرنسيين، وفي 18 أكتوبر سنة 1862 وصلت مياه البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة التمساح، فالنجاح الذي أحرزه أعظم أبناء فرنسا من المغامرين في منطقة صحراوية، كان لها أثره المشهود على الرأي العام الأوربي والإنجليزي.
ولم يحول هذا الحكومة البريطانية عن رأيها وعن عدائها للمشروع ولتنفيذه، فعادت إلى الاحتجاج الشديد على شروط الامتياز، فهي شروط كما بينت مجحفة بحقوق السلطان وحقوق واليه على مصر، وأقنعت الباب العالي بضرورة إرجاء موافقته إلى أن تنتهي الشركة من تسخير الفلاحين المصريين.
ولقد كان الفلاحون المصريون يجمعون جمعا، ويساق بهم إلى أماكن الحفر كالأنعام أو كالرقيق الذليل، وذلك في أعداد كبيرة قد تصل إلى عشرين ألفا طوال أيام السنة تقريبا، وهناك يسامون الخسف فلا يعنى بصحتهم ولا بمعاملتهم كآدميين لهم حقوق الإنسان العادي، وكانت «المتاعب والآلام لا تقتصر على هؤلاء العمال وحدهم، بل كذلك على زوجاتهم وأطفالهم الذين كانوا يتركون بغير عائل، وكثيرا ما كانت الشركة تتوقف عن دفع أجورهم الزهيدة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.» هذا ما قاله خصوم الفرنسيين في مجلس النواب البريطاني، والواقع أن العمال كان يجمعون من كل أجزاء مصر، ويسيرون المسافات الطويلة حتى يصلوا إلى مناطق الحفر، ثم يقطعون المسافات الطويلة إلى القاهرة لصرف الصكوك المعطاة لهم، ويقاسون الأمرين في سبيل ذلك. •••
ولم يؤثر موت سعيد باشا تأثيرا كبيرا في تصميم الشركة على إنجاز المشروع، وإن كانت الشركة قد فقدت فيه عونا كبيرا، ولكن إسماعيل باشا كان لحسن حظ الشركة، مؤيدا من ناحية المبدأ للمشروع، فهو يرى أن المشروع إذا تم إنجازه فسيجعل لمصر مركزا ممتازا في العالم، وسيجعل لاسم حاكم مصر دويا لم يكن له من قبل.
ولكن إسماعيل باشا لم يكن يرضى عن كل شروط الامتياز، وخاصة ما كان متصلا منها بالسخرة، فلم يكن ليرضى عن تسخير الفلاحيين المصريين، ورأى مقدار الخسارة التي تحل بمصر والزراعة من جراء ذلك، إذ مصر في ذلك الوقت بلد زراعي قبل كل شيء، فضلا عن أن تسخير الفلاحين المصريين بهذا الشكل يتنافى مع أبسط مبادئ الإنسانية.
واستغلت إنجلترا هذا الموقف الجديد لصالحها، فما كانت الحكومة الإنجليزية ترى أن تترك مسألة تسخير الفلاحين المصريين تمر بسهولة لصالح الشركة، فلقد أرادت انتهاز هذه الفرصة لإرهاق الشركة وعرقلة المشروع، إن لم يكن القضاء المبرم عليه.
لقد استغلت الحكومة الإنجليزية الحركة الإنسانية التي شملت إنجلترا كما شملت غيرها من الدول، لخدمة مصالحها الخاصة في مصر، لبث العراقيل أمام المشروع الفرنسي، فاستمرت الصحافة والرأي العام الإنجليزي في مهاجمة الفرنسيين لاسترقاق الشركة للفلاحين المصريين، ورأت الحكومة الإنجليزية في هذه الحركة وسيلة لحرمان الشركة من الأيدي العاملة التي تعتمد عليها، وأجاب فردنند دي لسبس على ذلك بأن المسألة كلها مفتعلة وليس فيها إخلاص، فلقد نسيت إنجلترا أن السخرة قد استخدمت في إنشاء الخط الحديدي من الإسكندرية إلى القاهرة، فعلى أي أساس تحتج الحكومة الإنجليزية الآن؟!
ولقد تابعت الحكومة الإنجليزية السير في خطتها، فزار السفير الإنجليزي في استامبول، سير هنري بولور، مصر في أواخر عهد سعيد باشا ليطلع بنفسه على أمور الحفر في القناة، وقبل كل شيء، ليرى ما إذا كانت الشركة الفرنسية تقيم تحصينات في منطقة القناة، وليعرف إلى أي حد يسخر الفلاحون المصريون في شق القناة، وربما بالغ سير هنري بولور في وصفه لبعض الأمور في منطقة القناة، وأبدى خشيته من أن تتحول المدن التي تنشأ في منطقة القناة إلى مدن ومستعمرات فرنسية، كما كشف عن تخوفه من إشراف الفرنسيين على هذه المنطقة.
وأشار في غير مبالغة إلى كثرة عدد الفلاحين الذين ينزعون من حقولهم قسرا، وينقلون في بعض الأحيان، وهم عشرات الألوف، إلى حيث يسخرون، ووصف سير هنري بولور قلة أجورهم، وسوء حالهم والبؤس الذي يعانون، والآلام التي يقاسونها، وكانت لآراء سير هنري بولور تأثير كبير على حكومة الباب العالي التي أسرعت من جانبها إلى مطالبة الحكومة المصرية بإلغاء السخرة.
وكذلك اتصلت الحكومة الإنجليزية بإسماعيل باشا نفسه، وبينت له الأضرار البليغة الناشئة عن تسخير الفلاحين، وأثر ذلك في الزراعة المصرية التي حرمت من جانب كبير من الأيدي العاملة التي تشتغل فيها؛ ولذا فإسماعيل باشا، وإن كان مؤيدا لإنجاز المشروع، إلا أنه كان يرى إلغاء الشروط التي لم تراع فيها حقوق مصر، فهو إذن يرمي إلى إلغاء السخرة في حفر القناة تؤيده إنجلترا في ذلك، وثانيا: هو يرى إلغاء امتلاك الشركة للأراضي الكبيرة التي أخذتها في منطقة القناة، فامتياز الأراضي يخول الشركة وضع جاليات أجنبية فيها لاستغلالها، وهذه الجاليات لها أن تتمتع بنفس الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب في مصر، وكانت إنجلترا تؤيده في هذه الناحية لأنها تخشى أن تغدو هذه الأراضي مستعمرات فرنسية في منطقة القناة.
ولذا كان إسماعيل باشا يرمي من وراء إلغاء هذين الشرطين في الامتياز إلى مصلحة قومية، إلى رد اعتبار المصريين، ومعالجة نقص الأيدي العاملة في الزراعة، في فرصة لا بد من انتهازها، ولا سيما بعد قيام الحرب الأهلية الأمريكية، وزيادة الحاجة إلى القطن المصري الذي ارتفعت أسعاره ارتفاعا كبيرا، ثم إن إسماعيل باشا يطمح كذلك إلى إنشاء إمبراطورية كإمبراطورية جده العظيم، والجيش الذي يعتمد على الفلاحين هو أداتها الأولى، وإسماعيل باشا بعد ذلك قد أعلن صوته إلى جانب الحركة الإنسانية التي ترمي إلى إلغاء الرقيق، فكان عليه أن يقوم بمحاولة حاسمة لإلغاء تسخير الفلاحين في حفر القناة.
وأما إنجلترا فهي تهدف إلى منع الفرنسيين من إنشاء مستعمرات فرنسية لهم في مصر، وهي تريد في نفس الوقت توفير العدد اللازم من الفلاحين للاهتمام بزراعة القطن التي كانت مصانع إنجلترا في أشد الحاجة إليه نظرا لقيام الحرب الأهلية الأمريكية، لقد ربط الإنجليز بين مشروع القناة والرق. وحاولوا الخفض من شأن مشروع القناة لاتصاله بمسألة تسخير الفلاحين، وأفلحوا في إحداث كثير من القلق والاضطراب في دوائر شركة القناة.
وسرت إنجلترا للجفاء الذي ساء علاقة إسماعيل باشا بالقنصل الفرنسي العام دي بوفال، فذلك القنصل قد بذل كل جهد مستطاع في تأييد دي لسبس في كل ما قام به، وفي كل مطالبه من الحكومة المصرية بشأن القناة، ولم تحزن الحكومة البريطانية كثيرا لسحب الحكومة الفرنسية له من مصر، وكانت إنجلترا تبني كثيرا من الآمال على موقف إسماعيل بإزاء امتياز القناة، وترى في مطالب إسماعيل باشا بإلغاء السخرة وإرجاع ملكية الأراضي لمصر مسألة قد تؤدي إلى فشل المشروع الفرنسي وعدم إنجازه.
ولقد اعتقدت شركة القناة في وقت ما أن تفكير إسماعيل باشا الجدي في إلغاء السخرة وتأييد إنجلترا له ضربة قد تذهب بالمشروع كله، واضطربت لذلك دوائرها، وأخذت تفكر في تعديل سياستها إزاء العمال المصريين، ولقد وجدت الصحافة الإنجليزية في موقف إسماعيل باشا تأييدا لتشديد مهاجمتها لمشروع القناة، وفعلا انخفضت أثمان أسهم القناة، وساد الذعر بين المساهمين.
على أن دي لسبس لم يفقد الأمل في نجاح مشروعه، فهو يلتجئ إلى نابليون الثالث لحماية المشروع الفرنسي.
واضطر إسماعيل باشا إلى أن يلتجئ إلى الباب العالي يطلب تأييده أمام فرنسا، فهو يخشى بطبيعة الحال غضب الحكومة الفرنسية، والتجأ الباب العالي من جانبه إلى إنجلترا، فأبدى سفير إنجلترا في استامبول رأيه في أن الامتياز الممنوح لا قيمة له طالما لم يوافق الباب العالي عليه، ولكن الحكومة العثمانية لم تكن تجرؤ على اتخاذ مثل هذه الخطوة وتلغي الامتياز، وخاصة بعد أن سار المشروع الفرنسي في دور التنفيذ مدة أربع سنوات، فالحكومة الفرنسية لا بد وأن تحتضن المشروع حتى تحافظ على مصالح وأموال رعاياها.
وانتهز السفير البريطاني فرصة وجود إسماعيل باشا في العاصمة التركية سنة 1863 ليحضه هو وحكومة الباب العالي على الصمود أمام فرنسا، فإنجلترا لن تقوم بتأييد الاثنين إلا إذا حافظا على مصالحهما واستقلالهما، وبين للفريقين أنه لا مناص من وضع حد لتسخير الفلاحين المصريين، ولا بد من أن تدفع الشركة أجورا معقولة لهم، ونبه إلى أن عقد الامتياز لا يصبح ملزما إلا إذا وافقت على كل شروطه الحكومة العثمانية، فهي إذن تستطيع تعديل الشروط التي تراها منافية لمصلحتها ولمصلحة مصر، وليس للحكومة الفرنسية إذن حق الاحتجاج، وأن على الدولة العثمانية اتخاذ كل التدابير لحماية مصالحها لا تخشى في ذلك لومة لائم، وأن تبلغ قراراتها للدول الكبرى، وقد ذكر السير هنري بلور الحكومة العثمانية أن الحكومة الإنجليزية لن ترضيها أن ترى سيادة الباب العالي وحكومة الوالي في مصر ستارا لنفوذ دولة أجنبية، وكان الهدف الذي ترنو إليه الحكومة الإنجليزية من كل هذا هو أن توقع شركة القناة في أزمة مالية كبيرة وأن تقضي على الثقة فيها.
ولكن آمال إنجلترا في القضاء على المشروع انهارت حين علمت أن إسماعيل باشا حين رجع إلى مصر وصل إلى اتفاق مع شركة القناة، فهذا الاتفاق مع الشركة فيه اعتراف ضمني بمركزها وبقيمة المشروع، فلقد أخذت الحكومة المصرية على عاتقها حفر الترعة العذبة من القاهرة إلى وادي الطميلات في مقابل تنازل الشركة عن حقوقها في الأراضي الواقعة على جانبي الترعة، واتفق إسماعيل باشا أيضا مع الشركة على تقصير المدد التي تدفع فيها الحكومة المصرية الأقساط المستحقة من ثمن الأسهم.
ثارت ثائرة إنجلترا لذلك، ووبخت الحكومة البريطانية قنصلها العام، وبذلت جهدها لإلغاء الاتفاقية، وأرسلت إلى إسماعيل تنذره بأن دي لسبس ينتقص من سلطة الوالي، وأن الخطر لا شك محدق بمركزه إذا استمر في هذه الخطوة واستمع للفرنسيين، ولكن إسماعيل باشا وجه لهذا الإنذار أذنا صماء.
وحين أراد السلطان عبد العزيز زيارة مصر، عارضت إنجلترا في هذه الزياة خوفا من أن تحاول الشركة الاتصال به في مصر والتأثير عليه، واهتمت إنجلترا بمراقبة المشرفين على أمور الشركة في مصر، ومعرفة مدى اتصالهم بحاشية السلطان، ولهذا الغرض أرسل السفير البريطاني في استامبول سكرتيره إلى مصر.
وكان المشرفون على الشركة في مصر من جانبهم يتوقون لزيارة السلطان العثماني منطقة القناة، فلقد كانت خطة الشركة في مثل هذه الظروف دعوة العظماء وأولي الأمر لرؤية المشروع وهو في دور التنفيذ وزيارة مناطق الحفر، وكانت ترى في ذلك دعاية لها وتقوية لمركزها في مصر والخارج.
ولقد حاول دي لسبس الاتصال فعلا بحاشية السلطان، ولكن إنجلترا ارتاحت تماما لعدم زيارة السلطان مناطق الحفر، وكانت قد طلبت منه بالفعل عدم زيارة هذه المناطق، ولقد انقاد السلطان لمشورة إنجلترا، ولم يكتف بذلك، بل بعث بمذكرة سياسية إلى كل من الحكومتين الإنجليزية والفرنسية يبين فيه وجهة نظره فيما يختص بضرورة تعديل شروط الامتياز فيما يتعلق بالسخرة واسترداد الأراضي حول القناة من الشركة، وكما كانت الحكومة الإنجليزية تراقب الحالة بدقة عن كثب، كانت الحكومة الفرنسية متنبهة للموقف، فهي تحذر إسماعيل باشا عواقب القيام بعمل يمس مشروع القناة قبل أن يحيطها علما بذلك، وكان القنصل الفرنسي العام في مصر من ناحيته متيقظا كل التيقظ يخابر حكومته في كل الأمور المتصلة بمشروع القناة، وما تقوم به الحكومة المصرية أو قنصل إنجلترا في مصر من خطوات قد تؤثر في مستقبل ذلك المشروع.
ولقد استمر النزاع قائما بين إسماعيل باشا وشركة قناة السويس إلى أن قبل إسماعيل باشا تحكيم الإمبراطور نابليون الثالث، ففض ذلك النزاع، وذلك بأن أجيب والي مصر إلى تعديل الشرطين الخاصين بتسخير الفلاحين المصريين وبامتلاك شركة القناة للأراضي سالفة الذكر، نظير دفع إسماعيل باشا تعويضا للشركة يبلغ ثلاثة ملايين من الجنيهات تدفع على خمسة عشر عاما، وبذا رجع إلى حوزة مصر 180 ألف فدان وبقي للشركة 30 ألفا.
ولم تستطع إنجلترا أن تعارض في تحكيم إمبراطور الفرنسيين ولا في الحكم الذي أصدره، وبذا زاد مركز شركة القناة قوة، وزادت الثقة بها، وتمكنت من أن تسير في تنفيذ مشروعها حتى استطاعت أخيرا إنجازه.
وبعد أن تم الاتفاق بين إسماعيل باشا والشركة، لم يجد الباب العالي - وخاصة بعد أن أصلح إسماعيل باشا علاقته به - بدا من الموافقة على الامتياز الممنوح لشركة قناة السويس، فأصبح مركزها بذلك قانوينا، ولم تعد إنجلترا بمستطيعة مهاجمة المشروع من هذه الناحية؛ وقوي مركز الشركة نتيجة لذلك، ووضع حد نهائي لمحاولة إنجلترا عرقلة المشروع.
ولولا تأييد كل من فرنسا والنمسا للمشروع، ولولا صبر فردنند دي لسبس ومثابرته، ولولا عطف إسماعيل باشا على المشروع، لنجحت محاولات إنجلترا في القضاء نهائيا على المشروع.
وافتتحت القناة في سنة 1869، وهنأ وزير الخارجية الإنجليزية لورد كلارندن دي لسبس، كما هنأ الشعب الفرنسي والحكومة الفرنسية، ومنحت الحكومة الإنجليزية دي لسبس النياشين، واستقبل في لندن استقبالا مشهودا.
الفصل الثالث
ديزريلي وقناة السويس
شراء إنجلترا لأسهم الخديو في القناة سنة 1875
ولما تم وصل البحرين الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، أصبحت قناة السويس التي توصل بينهما من أهم المجاري المائية البحرية في العالم، ولو أنها فصلت بين قارتين، آسيا وأفريقية، إلا أنها ربطت بين الشرق والغرب، وأحكمت الصلة بينهما، وأصبحت أقصر وأقرب طريق بين الدول الأوربية الإمبراطورية ومستعمراتها الشرقية.
وقدرت إنجلترا حق القدر قيمة مشروع القناة بالنسبة لها ولإمبراطوريتها وتجارتها وحياتها كأكبر دولة بحرية استعمارية ظهرت في العالم، فلقد قيض لها رجل من أنبغ أبناء فرنسا، جاهد طوال حياته ليخدم بطريقة غير مباشرة مصالحها المادية.
وتمتاز هذه الطريق الجديدة بأن بريطانيا تستطيع ببحريتها المتفوقة حماية تجارتها وسفنها، ومن الوقت الذي افتتحت فيه هذه الطريق أصبحت إلى حد كبير تحت رحمة القوة البحرية، تحت رحمة قوة بريطانيا البحرية، وخاصة بعد الكارثة السياسية والحربية الكبرى التي حلت بفرنسا في الحرب الفرنسية الألمانية سنة 1870.
وستصبح إنجلترا أولى الدول في المرور في القناة الجديدة، ولم تعد أهمية القناة في نظرها قاصرة على وقت السلم، بل كذلك في وقت الحرب، إذ أصبحت القناة الطريق الرئيسية لمرور السفن والقوات والمعدات الحربية البريطانية إلى شرقي أفريقية والشرقين الأوسط والأقصى وأستراليا ونيوزيلند. أصبحت القناة الطريق الرئيسية لمد نفوذ بريطانيا وسلطانها في شرقي العالم وفي آسيا، وخاصة في وقت بدأ يطغى فيه الإمبريالزم والاستعمار على عقول الناس في إنجلترا وفي غرب أوروبا.
ولذا ستهتم كل الحكومات البريطانية مهما تعددت ألوانها الحزبية أو اختلفت برامجها السياسية لا بحياد القناة؛ وإنما بحرية المرور فيها لكل السفن التجارية والحربية في وقت السلم والحرب.
وتبعا لاهتمام إنجلترا بحرية المرور في القناة وسلامة القناة في كل الأوقات، ستزداد في نظرها أهمية مصر التي تخترق القناة أجزاءها الشرقية، لقد ربطت السياسة الإنجليزية مصير مصر ومستقبلها بمصير القناة، وأصبحت مشكلة القناة إلى حد كبير مشكلة مصر.
ونشأت الفكرة التي تقول: إن من الواجب على الحكومة الإنجليزية بعد أن تبينت أهمية القناة الحيوية لها ، شراء الشركة جميعها والإشراف إشرافا تاما على إدارة القناة، وربما ظن بعض الناس أن الخديو إسماعيل كان يفضل أن تستولي شركة إنجليزية على إدارة القناة، ولقد ثارت فعلا في سنة 1874 الإشاعة التي تقول: إن الخديو والباب العالي كانا يفكران جديا في بيع القناة لبريطانيا؛ لأن بريطانيا أكثر الدول اهتماما بالقناة بعد فتحها، ويقال: إن هذا كان من رأي الجنرال ستانتون قنصل إنجلترا العام في مصر أيضا، فهو الذي خاطب حكومته في هذا الشأن، وأيده بعض أعضاء الوزارة الإنجليزية، ولكن جلادستون رئيس الوزارة ومعه لورد جرانفل وجها لهذه الفكرة أذنا صماء، إذ رفضا أن تقوم إنجلترا بتعويض حملة أسهم القناة عما لحق بهم من خسارة مادية، ويقال أيضا: إن فردنند دي لسبس ذهب إلى لندن لهذا الغرض، ولكن وزير الخارجية جرانفل رفض المناقشة مع أي فرد أو هيئة في شروط بيع القناة، ولو تحققت هذه الفكرة لتناقضت مع المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الشركة العالمية لقناة السويس، فإن وضع هذه القناة تحت إشراف دولة واحدة يتناقض تماما مع الفكرة العالمية التي قام عليها الامتياز الذي منح للشركة.
وربما كان فردنند دي لسبس نفسه يفكر، أمام الصعوبات المادية والخسارة التي لاقتها شركة القناة في سنيها الأولى، في أن تباع الشركة للدول البحرية الأوربية، وذلك حتى يضمن تماما دوليتها وحيادها. ولكن الحكومة البريطانية لم توافق على هذه الفكرة، وكذلك الحكومة العثمانية ما كانت لتنصت أبدا لمثل هذه المشاريع التي تتعارض بطبيعة الحال مع حقوق سيادتها، فشركة القناة شركة مصرية خاضعة للقوانين والتقاليد العثمانية.
وربما كانت إنجلترا تظن في بعض الأوقات أن مصلحتها تقضي بأن تدير القناة شركة دولية لا فرنسية، ولقد أعلن لورد داربي وزير الخارجية البريطانية في سنة 1874 أنه لا يمانع في ذلك، وكرر هذا الرأي في سنة 1875، على أساس أن وجود هذه الطريق العالمية العظيمة في يد شركة خاصة قد يثير كثيرا من الصعوبات والتعقيدات، ولكن مثل هذه الأفكار لم تخرج إلى حيز التنفيذ، وظلت شركة القناة كما هي.
وبينما كان ديزريلي زعيم المحافظين في إنجلترا، ورئيس الحكومة الإنجليزية، موجها نظره إلى تطور المسألة الشرقية في سنة 1875 إذ وصل إلى علمه وجود مفاوضات في باريس بين الحكومة المصرية وشركة فرنسية لرهن أسهم الخديو إسماعيل في قناة السويس، ولقد اتصل فردريك جرينورد أحد البارزين من رجال الصحافة الإنجليزية والمحرر في مجلة ال «پال مال» بلورد داربي وزير الخارجية البريطانية، وأكد نبأ هذه المفاوضات، وبين أن مصلحة إنجلترا تقتضي أن تسرع الحكومة البريطانية فتشتري هذه الأسهم، والسبب في تقديم الخديو إسماعيل هذه الأسهم للرهن أو البيع هو ما أصاب ميزانية مصر من عجز عن سداد أقساط الديون المتراكمة أو فوائدها الفادحة، وكان عليه أن يجد في شهر نوفمبر في خلال إسبوعين مبلغ أربعة ملايين من الجنيهات.
وكان أمام الخديو إسماعيل إما رهن هذه الأسهم أو تقديمها للبيع، ووضعت الشركة الفرنسية التي كانت تجرى معها هذه المفاوضات شروطا قاسية لإقراض الخديو المبلغ المطلوب، جعلته يتردد كثيرا في التصديق النهائي على شروطها.
وحين عرضت الفكرة على الحكومة الإنجليزية لم يرحب بها داربي كثيرا، ولم يكن ذلك عن قناعة أو تفكير صحيح، ولكن أفق خياله كان ضيقا، وتنقصه الجرأة في كثير من الأمور.
ولكن رئيس الوزارة بنجامن ديزريلي لحظ بسرعة أهمية الصفقة لإنجلترا من الناحية السياسية والإمبراطورية، وخاصة من الناحية السياسية. وكتب للملكة فكتوريا في 18 نوفمبر سنة 1875 يقول:
إن خديو مصر على وشك الإفلاس المالي، وإنه يرغب في بيع أسهمه في قناة السويس، واتصل لذلك الغرض بالجنرال ستانتون ... إنها مسألة ملايين أربعة على الأقل، ولكنها تعطي لمالكها نفوذا عظيما إن لم يكن متفوقا في إدارة القناة، وإنه حيوي لسلطة جلالتك ومركزك في هذا الوقت العصيب أن تصبح القناة ملكا لإنجلترا ... ولقد حاولت أن أقنع داربي، ونجحت في إقناعه بأهمية تحول مصالح الخديو إلينا.
ولقد حاول ديزريلي بالفعل أن يقنع زملاءه في الوزارة بأهمية الصفقة لإنجلترا، ونال في آخر الأمر موافقتهم جميعا على مبدأ شراء الحكومة الإنجليزية لأسهم الخديو إسماعيل في قناة السويس، بعد أن تمسك عدد منهم بمعارضة الفكرة إلى آخر لحظة، ولقد استصوبوا جميعا في آخر الأمر رأي رئيسهم؛ لأن الحوادث - كما اعترفوا هم بذلك - قد أيدت وجهته، وأثبتت بعد نظره.
رأى ديزريلي أنه يجب على الحكومة الإنجليزية ألا تتأخر يوما واحدا، حيث إن حالة مصر المالية سائرة في طريق الانهيار السريع، والخديو إسماعيل في أشد الحاجة إلى المال، والمنافسون للحكومة الإنجليزية متيقظون، ولقد ظل الخديو إسماعيل فترة كارها لأن يضع نفسه بين يدي الحكومة الإنجليزية وتحت تصرفها، إذ كان يفهم تماما معنى شراء إنجلترا لهذه الأسهم من الناحية السياسية. ولكن كان من الصعب إن لم يكن من المستحيل إيجاد المبلغ اللازم له في فرنسا أمام المعارضة الشديدة التي قامت بها الحكومة الإنجليزية.
ولقد خشي الدوق ديكاز وزير الخارجية الفرنسية في ذلك الوقت، وكان شديد الحرص على صداقة إنجلترا، فهي التي وقفت إلى جانب فرنسا في أزمة ربيع سنة 1875 الشديدة، وأنقذتها من أظفار ألمانيا، خشي ديكاز أن يتدخل لتأييد الشركة الفرنسية إذ كان يعرف ما سيكون لذلك التدخل من أثر على موقف الحكومة الإنجليزية بالنسبة لفرنسا، إذن لتزعزع مركز فرنسا في أوروبا، ولتخاذلت قوتها وتضعضعت أمام الخطر الألماني الذي كان يتهدد دائما حكومة المحافظين في فرنسا؛ ولذا فلا عجب إذا وجد ألا يقدم للشركة الفرنسية أية معونة، وعلى ذلك انتهى الأمر بفشل مسألة الرهن ومعها مشروع الشركة الفرنسية.
كانت هذه الشركة قد طلبت في الواقع ربحا فاحشا على رأس المال، 18٪ فائدة للمبلغ الذي تقدمه للخديو إسماعيل، فإذا عجز حاكم مصر عن أن يدفع لها ذلك المال في وقت معلوم يضيع حقه في 15٪ من الأرباح السنوية لشركة قناة السويس، وتصبح الأسهم ملكا للشركة، واتفق بين الفريقين على جعل يوم 26 نوفمبر سنة 1875 الموعد النهائي للموافقة على هذه الشروط.
وكان فردنند دي لسبس مدير شركة قناة السويس يؤيد هذه الشركة التي ستقرض الخديو إسماعيل، وكان يحاول إقناع الرأسماليين الفرنسيين بجمع المال اللازم لها، ولقد طلب بالفعل من الحكومة الفرنسية - وكانت حكومة المحافظين - التدخل لصالح الشركة وتأييدها سياسيا، وإزالة العقبات المالية الموجودة أمامها.
ولكن الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت كانت ضعيفة مترددة، تهتم أولا وقبل كل شيء بمركزها في أوروبا ومراقبة الخطر الألماني وكسب الأصدقاء، هذا من الناحية الخارجية، وأما من الناحية الداخلية، فكان مركزها مزعزعا لانقسام الملكيين على أنفسهم، يهددها الحزب الجمهوري باستمرار؛ ولذا كانت في حاجة شديدة إلى تأييد إنجلترا السياسي لها وإلى عدم إثارة مشاكل خارجية قد تودي بحكم المحافظين في فرنسا وبمركز فرنسا في أوروبا.
وكانت الحكومة الإنجليزية قد بينت موقفها بالضبط في ذلك الموضوع، فلقد أعلن داربي وزير الخارجية الإنجليزية لجافارد ممثل فرنسا في لندن، بأن الحكومة البريطانية كانت ترى في ملكية الخديو لجانب كبير من أسهم شركة قناة السويس وسيلة للاطمئنان بأن القناة ليست ملكا للفرنسيين وحدهم؛ ولذا فليس أمام إنجلترا إلا أن تعارض معارضة شديدة في وقوع هذه الأسهم في يد شركة فرنسية؛ فالخديو إذا تم الرهن لن تسمح حالته المالية بسداد المبلغ ولا فوائده، فسينتهي الأمر إذن بوقوع هذه الأسهم في يد الشركة الفرنسية نهائيا.
وإن إنجلترا، كما أضاف داربي، تعتبر موقفها هذا ضروريا تمليه أبسط وسائل الدفاع عن مصالحها، فقناة السويس - كما يرى وزير الخارجية البريطانية في ذلك الوقت - هي سبيل المواصلات البريطانية إلى الهند، ولبريطانيا أربعة أخماس التجارة التي تمر بها، وأنه يرى لذلك أن مصلحة بريطانيا في حماية قناة السويس وإدارتها أكبر بكثير من مصلحة أية دولة أخرى.
وأرسلت حكومة لندن تعليمات بذلك إلى ستانتون معتمدها في مصر، فعليه أن يبين للخديو إسماعيل في جلاء وقوة بأن الحكومة البريطانية لن تسمح برهن هذه الأسهم لدى شركة فرنسية، ولا بد من وقف المفاوضات بين عاهل مصر والشركة الفرنسية مدة؛ حتى تعطى الحكومة البريطانية فرصة لإبداء رأيها في الموضوع.
وعرض ديزريلي لشراء نصيب الخديو في أسهم القناة أربعة ملايين من الجنيهات، وقدم الأمر إلى مجلس الوزراء البريطاني الذي نظر في الموضوع، ووافق على الثمن في 24 نوفمبر، وفي 25 نوفمبر أمضى العقد في القاهرة، وأودعت الأسهم دار قنصلية بريطانيا، لقد تم للإنجليز الاستيلاء على أسهم الخديو إسماعيل في خلال عشرة أيام.
ولما تمت موافقة الحكومة البريطانية على شراء الأسهم، كان لا بد من النظر بسرعة في كيفية تدبير المبلغ اللازم للشراء، فالبرلمان الإنجليزي لم يكن منعقدا، ولا يمكن تدبير المبلغ بغير موافقته، ولا يمكن عقده بسرعة للنظر في هذه المسألة، ولكن الموضوع لم يكن يقبل الانتظار، وإلا ضاعت الصفقة من إنجلترا؛ ولذا تحول ذهن ديزريلي إلى أصدقائه من آل روثتشيلد الماليين المعروفين في إنجلترا، وكان ديزريلي متأكدا من تعاون هذا المصرف معه في سياسته المصرية، ولكنه لم تكن هناك سابقة لمثل هذا العمل الخطير، فماذا يحدث لو رفض البرلمان الإنجليزي حين يجتمع اعتماد ذلك المبلغ، ولكن ديزريلي أخذ المسئولية على نفسه، ومن ناحية ثابتة كان لبيت رثتشيلد ثقة لا تنتهي بديزريلي والحكومة البريطانية التي ضمنت هذا القرض.
وافق إذن بيت رثتشيلد على إقراض الحكومة الإنجليزية مبلغ أربعة ملايين من الجنيهات بفائدة مخفضة، وتم لديزريلي نهائيا إجراء صفقته، وبذلك أصبحت الحكومة البريطانية تملك خمسي الأسهم وأكبر مساهم في قناة السويس.
ولقد أحس زعيم المحافظين بإنجلترا بعظم الصفقة التي قام بها، فلقد كانت نجاحا لا نظير له، وكتب في 24 نوفمبر للملكة فكتوريا يقول بأنها قد نالت الصفقة، وأن الفرنسيين قد غلبوا على أمرهم بعد أن بذلوا جهودهم ... ولقد سلك بيت روثتشيلد مسلكا بديعا، فقدم المال اللازم بفائدة قليلة ... ولقد قدم دي لسبس في آخر لحظة عرضا مغريا للخديو، ولو نجح لأصبحت القناة ملكا لفرنسا ولأغلقتها أمام إنجلترا.
وفرحت الملكة فكتوريا فرحا عظيما بإنجاز هذا العمل، وجاءتها التهاني من دول أوروبا باستثناء روسيا التي أرادت أن تجامل فرنسا، واعتبر ليوبولد ملك البلجيك هذا العمل كأعظم حادث في السياسة الحديثة، ولقد قابل الرأي العام الإنجليزي هذه الصفقة بحماس كبير، وطرب المعارضون للحكومة من الأحرار لهذه الصفقة، إذ سرهم أن تنال بريطانيا هذا النصيب المهم من أسهم شركة قناة السويس، ولم يهتم الرأي العام البريطاني كثيرا بانتقاد جلادستون زعيم المعارضين للحكومة لهذه الصفقة، فرأيه في هذه المسألة كان شخصيا لا يمثل حزب الأحرار، ودافعه الأول كان الغيرة من ديزريلي والحسد له؛ ولذا فانتقاده لم ينظر إليه.
لقد خطب نورثكوت في البرلمان الإنجليزي قائلا - ما ملخصه: إن شراء هذه الأسهم كما نعتقد في مصلحة إنجلترا ومصلحة مصر، ومصلحة الشركة التي أصبحنا شركاءها، وإنا لنشعر بالود نحو هذه الشركة العظيمة ونحو مؤسسها ومتبنيها، ولدينا الرغبة في المساهمة في هذا المشروع الخطير، وإني أعتقد أن إنجلترا ارتكبت خطأ كبيرا في عدم الاعتقاد بقيمة المشروع في أول الأمر، وأؤمل أننا لسنا متأخرين كثيرا في المساهمة في هذا المشروع الآن بعد أن نضج وأثمر ... وسيقدر لهذا المشروع أن يكون ملك البشرية جميعا على مدى الدهر، وإنه من دواعي الاغتباط الكبير أن نرى أن إنجلترا قامت بمهمتها في تأمين مستقبل ذلك المشروع العظيم.
وأبدى لورد هارتنجتن - وهو من زعماء الأحرار - رأيه بأن على إنجلترا أن تغتبط اليوم إذ «انتقلت إليها حقوق سيادة الخديو على القناة»! هكذا فهم بعض الساسة الإنجليز صفقة شراء أسهم الخديو في القناة، وكانت نتيجة لهذه الصفقة أن اضطرت شركة القناة إلى قبول ثلاثة أعضاء إنجليز في مجلس إدارتها.
وكان لهذه الصفقة دوي كبير في كل أرجاء أوروبا، وكانت دليلا ساطعا على أن إنجلترا غادرت نهائيا السياسة السلبية التي استنها مستر جلادستون في وزارته الأولى، وأنها أصبحت الآن تتبع سياسة خارجية نشيطة، وبدأ ديزريلي سياسة الإمبريالزم «التسلط الاستعماري» التي ستبلغ أوجها في نهاية ذلك القرن «التاسع عشر» باحتلال مصر والتصميم على البقاء فيها وتقسيم أفريقيا والإشراف على مناطق كبيرة في آسيا.
وجدت الملكة فكتوريا في هذه الصفقة ضربة موجهة ضد بسمرك المستشار الألماني الذي سبق أن أعلن أن إنجلترا لم تعد قوة سياسية كبيرة يخشى خطرها، والواقع أن المستشار الألماني بسمرك سر كثيرا لهذه الصفقة؛ ففيها - من ناحية - إذلال جديد لعدوته فرنسا وهزيمة لسياستها، وفيها - من ناحية ثانية - تمهيد لتدخل الإنجليز في مصر، ومن ذلك الحين أخذ ينصح الحكومة الإنجليزية بضرورة أخذ مصر، فهو يعتقد أنه إذا فعل الإنجليز ذلك ، فلن يغفر لهم الفرنسيون أبدا.
ولقد نظرت الحكومة الفرنسية إلى هذه الحركة من جانب الحكومة الإنجليزية كخطوة أولى تمهيدية لاحتلال الإنجليز لمصر، أو على الأقل للتدخل في أمورها المالية، ورأت أن هذا العمل ليس إلا استغلالا لسوء حالة مصر المالية، فالمبلغ الذي دفعته إنجلترا كان أقل من ثمن السوق وليس فيه إنصاف لمصر.
قوت هذه الصفقة من مركز ديزريلي في الحكومة الإنجليزية ومن مركز المحافظين في إنجلترا، ومن مركز إنجلترا في أوروبا والعالم، كما زادت من نفوذ إنجلترا في مصر، حرمت هذه الصفقة مصر من كل فائدة من قناة السويس، فأصبح المصريون يرون أن هذه القناة التي تسير في أرض مصر، وقسمت بين أجزاء مصر، وقامت على تسخير العمال والفلاحين المصريين وإهدار حقوقهم ودمائهم، وحرمان الزراعة منهم مدة طويلة، لم تجن مصر منها فائدة تذكر، بل أصبحت كارثة على حياتها ومستقبلها طيلة خمسة وسبعين عاما، لقد جعلت القناة لمصر مركزا استراتيجيا خاصا في الشرق الأدنى زاد اهتمام الأمم الإمبريالية الاستعمارية به إلى حد أن ضحت هذه الدول بمصالح مصر ونموها واستقلالها ومستقبلها في سبيل الإشراف عليه والتحكم فيه.
على أنه يظهر أن ديزريلي لم يفهم تماما إلى سنة 1880 عظم أهمية القناة في المواصلات الإمبراطورية إلى الشرق، فكان يرى أن الأستانة هي التي تشرف على الطريق إلى الهند لا مصر ولا قناة السويس.
ولذا كان يفضل دائما الاستيلاء على آسيا الصغرى ذاتها، ويرى أن احتلال إنجلترا لمصر وقناة السويس في الوقت الحاضر لن يفيدها كثيرا، بل سيفسد إلى حد كبير علاقاتها مع فرنسا.
ولذا لم تعد الحكومة الإنجليزية في عهده توجه انتباها كبيرا لعروض بسمرك، كان المستشار الألماني في ذلك الوقت يرى أن تستولي إنجلترا على مصر وتشرف على قناة السويس كنصيبها من ممتلكات الدولة العثمانية التي أخذت في الضعف والتدهور، ففي مصر والقناة - كما يرى - تعويض كبير لإنجلترا إذا سيطرت الدولة الروسية، وهي صديقته الشرقية، على شرقي البلقان وعلى مداخل البحر الأسود، ولقد حرص بسمرك حرصا شديدا على توجيه نظر الحكومة البريطانية لانتهاز فرصة المسألة الشرقية واقتناص مصر.
ففي مذكرات مطولة له بين أنه إذا استشير فيما يجب أن تكون عليه سياسة إنجلترا الخارجية، فإنه يقترح أن تنتهج بريطانيا العظمى نفس السنن الذي تنتهجه روسيا، فإذا كانت روسيا تريد أن تستحوذ على النقط الاستراتيجية اللازمة لها بالسيطرة على المضايق؛ البوسفور والدردنيل، والإشراف على الأستانة، فعلى الحكومة الإنجليزية أن تقابل ذلك بالسيطرة على مصر وقناة السويس، وكما يقول: «إنه من الخير لبريطانيا أن تأخذ قناة السويس والإسكندرية بدلا من أن تعلن الحرب على روسيا، وبذلك وحده تتوثق عرى السلم في أوروبا.»
وهو يرى أنه إذا خشيت الحكومة البريطانية من اتباع مثل هذه السياسة، عداء فرنسا ومناوأتها، فما عليها إلا أن تبحث مع الفرنسيين أمر تقسيم الشرق الأدنى إلى مناطق نفوذ، فتوافق فرنسا على تفوق النفوذ الإنجليزي في مصر وقناة السويس، نظير موافقة الإنجليز على تفوق النفوذ الفرنسي في سوريا.
ولكن الحكومة الإنجليزية - حكومة المحافظين - ما كانت تقبل بسهولة مثل هذه الاقتراحات، فرئيسها ديزريلي «لورد بيكونزفيلد» بالرغم من أنه هو الذي عقد صفقة قناة السويس، فاشترى أسهم الخديو إسماعيل فيها، وبالرغم من تعلقه الكبير بمصر وحضارتها وآثارها، إلا أنه كان في ذلك الوقت لا يرى في احتلال الإنجليز لمصر وسيلة لدرء الخطر الروسي عن الشرق الأدنى؛ فالأستانة لا مصر ولا قناة السويس هي مفتاح الطريق إلى الهند.
ولقد أبدى بيكونزفيلد عجبه والشك الذي خالج نفسه من كثرة عروض بسمرك، فإنجلترا كانت تظن أن غرضه هو إتلاف العلاقات الإنجليزية الفرنسية الطيبة، وضرب عصفورين بحجر واحد، إرضاء إنجلترا وإذلال فرنسا.
كذلك لم يصغ الوزراء الإنجليز لنوبار باشا حين ذهب إلى لندن في سنة 1877 ليعرض عليهم قبول فكرة بسط الحماية البريطانية على مصر، وأهملوه إهمالا شديدا إلى حد أن نعى عليهم جهلهم بأمور السياسة، وصرح لسفير ألمانيا في لندن بأن الأسد البريطاني مستغرق في نومه، وأن أظفاره ستسرق منه دون أن يستيقظ.
على أنه حين تعقدت المسألة الشرقية في سنة 1877، وقامت الحرب بين روسيا وتركيا ، وضحت الحكومة البريطانية موقفها للدولة الروسية فيما يختص بمصر وقناة السويس، فهي لن تقبل أبدا امتداد الحرب إلى مصر والقناة، وتعتبر الاعتداء عليها عملا عدوانيا موجها إلى إنجلترا ذاتها، صرح بذلك وزير الخارجية الإنجليزية للسفير الروسي في لندن.
كانت إنجلترا تخشى أن تمتد أعمال الروس العسكرية إلى قناة السويس ومصر بصفتهما جزءا من الدولة العثمانية التي أصبحت في حالة حرب مع روسيا، ولكن رد روسيا جاء مطمئنا: «فبالنسبة لقناة السويس ومصر، فنحن لن نمسهما، فليست لدينا المصلحة ولا الرغبة ولا الوسائل للقيام بمثل ذلك العمل ... ونحن على استعداد للاتفاق مع حكومة لندن على كل المسائل ... وليست لنا مصلحة في معاكسة إنجلترا في ممتلكاتها في الهند أو في مواصلاتها، فالحرب الحالية لا تتطلب ذلك.» لم تكن روسيا تريد إفساد علاقاتها مع إنجلترا في الوقت الذي تصطلي فيه الجيوش الروسية بنار الحرب مع تركيا.
ولم تكن سياسة لورد سولبري الذي خلف داربي في وزارة الخارجية البريطانية، حين زاد تعقد المسألة الشرقية، التمسك بأهداب السياسة البريطانية القديمة، وهي تأييد الدولة العثمانية والمحافظة عليها، وإنما كما يقول: «إن سياستنا الخارجية تنقصها الخطة الموضوعة.» ولذا فالسياسة العملية في نظره هي الإشراف الفعلي على طرق المواصلات المائية إلى الهند، باحتلال مصر وقناة السويس وكريت، والعمل على القضاء على الدولة العثمانية.
ولذا في خلال هذه السنة 1877 نشطت في إنجلترا الفكرة التي تقول بضرورة احتلال إنجلترا لمصر والقناة، ففي 11 يوليو من هذه السنة تكتب إحدى بنات ملكة إنجلترا لأمها بأن كل من يحب إنجلترا يتوق إلى هذه الفرصة التي تسمح بوضع الإنجليز لأقدامهم في مصر. وفي نفس الوقت يكتب رئيس الحكومة ديزريلي إلى الملكة فكتوريا يقول بأن الباب العالي ميال لبيع سيادته على مصر، ولكن ديزريلي ظل متمسكا بفكرته القديمة بأنه يفضل الاستيلاء على آسيا الصغرى لا مصر.
على أن ذلك لم يمنع ديزريلي من الاعتقاد بأنه سيأتي اليوم الذي تحتل فيه إنجلترا مصر وقناة السويس، وأن ذلك حتم مقضي على إنجلترا.
فكان إذن الاتجاه في إنجلترا بعد مجيء سولسبري إلى وزارة الخارجية يسير في الطريق التي رسمها بسمرك، ولقد وجد بسمرك من رجال الساسة الإنجليز من يؤيد وجهة نظره، مثل السفير الإنجليزي في برلين لورد أودورسل، ولكن أعضاء الوزارة الإنجليزية جميعهم لم يكونوا يرون أن الوقت مناسب لذلك، وذلك خشية عداوة فرنسا، فلقد كان الركن الأول في سياسة فرنسا الخارجية في سنة 1878 هو منع إنجلترا من الاستئثار بنفوذ متفوق في وادي النيل أو القناة.
ولقد وافقت إنجلترا على اقتراح فرنسا بألا تدخل مسألة مصر في مناقشات مؤتمر برلين 1878، ورأت استبقاء لصداقة فرنسا عدم احتلال مصر، واستعاض سولسبري عن ذلك - أي: عن احتلال مصر وقناة السويس - باحتلال جزيرة قبرص التي تشرف على آسيا الصغرى ومدخل القناة معا.
ثم ازداد تعقد المسألة المصرية في أواخر عهد الخديو إسماعيل لتحرج المسألة المالية من ناحية، ومحاولة الدول الأوربية الكبرى من ناحية أخرى، ثم لنمو الشعور القومي المصري إلى حد أثار مخاوف إنجلترا وفرنسا، فطلبتا من الباب العالي عزل الخديو إسماعيل، وتم لهما ما أرادتا في سنة 1879، وجاء الخديو توفيق إلى ولاية مصر.
ولم تكن مهمة الخديو الجديد بالهينة أمام سيطرة الدولتين الأوربيتين، ولا أمام الرأي العام المصري الذي ساءه تدخل الأجانب في كل مرافق الحياة المصرية، مما هدد مستقبل البلاد ونموها، ثم جاءت الثورة العرابية، فزادت الأمور تعقيدا على تعقيد، وخشيت الدولتان الإنجليزية والفرنسية على مصالحهما في مصر، وأرسلت سفنهما الحربية إلى مياه الإسكندرية واقترحت فرنسا عقد مؤتمر من الدول الكبرى في الأستانة سنة 1882 لإيجاد حل حاسم للمسألة المصرية والقضاء على الثورة العرابية.
الفصل الرابع
احتلال الإنجليز لقناة السويس في سنة 1882
في أول الأسبوع الأخير من شهر يونيو سنة 1882 اجتمع مؤتمر الدول الكبرى في مدينة الأستانة للنظر في المسألة المصرية التي تفاقمت في نظرهم بسيطرة عرابي باشا التامة على الجيش وعلى الحكومة المصرية.
وبدأ أعضاء المؤتمر أعمالهم بإعلان سخطهم واستيائهم من تطور الأمور في مصر وأخذ الثورة ومن أيقظها بالشدة، وانتقلوا بعد ذلك إلى إعلان أنه لا يجوز لأية دولة اشتركت في المؤتمر أن تستأثر لنفسها بحقوق في وادي النيل لا تكون للدول الأخرى، وسجل أعضاء المؤتمر في نفس الوقت أن مسألة مصر مسألة دولية عالمية، وأنه غير خليق بأية دولة واحدة أن تنفرد بتقرير مصير هذه البلاد دون سواها من الدول الكبرى.
اشتركت إنجلترا في ذلك المؤتمر، كما اشتركت فيه فرنسا وألمانيا وروسيا والنمسا والمجر وإيطاليا، وكانت الدولتان اللتان تهتمان حقيقة بالمسألة المصرية هما إنجلترا وفرنسا، وأما مندوبو الدول الأخرى فلم يكونوا على علم بتطور الحوادث في مصر، على أن إنجلترا كانت الدولة الوحيدة التي قررت ألا تتقيد بمناقشات المؤتمر، أو بما يسفر عنه جدله النظري، أو تفكيره السطحي، أو بما ينفض عنه من قرارات قد تختلف مع المصالح الإنجليزية، وأن تعمل بنشاط وهدوء على تنفيذ خطتها ورعاية مصالحها في الوقت المناسب إذا ما واتت الفرصة.
كان على رأس الحكومة الإنجليزية - وهي حكومة الأحرار - جلادستون الذي سبق أن أعلن نفسه عدو الإمبريالزم والاستعمار ومن دعاة إنجلترا الصغيرة، ونصير الشعوب المغلوبة على أمرها، أعلن جلادستون هذه الآراء وهو خارج الحكم، ولكنه لما تولى الحكم آمن بما يدعيه رجال الإمبراطورية، بمهمة إنجلترا الحضارية ورسالتها الثقافية، آمن جلادستون بكل ما يؤمن به رجال الاستعمار، ونفذ السياسة الخارجية الإنجليزية بحذافيرها.
ولذا فبالرغم من انتقاده لسياسة ديزريلي التوسعية الإمبراطورية، فوزارته كانت جادة في استعدادتها الحربية، سائرة في تقوية أسطولها في البحر الأبيض المتوسط، هذا في الوقت الذي انهمك فيه أعضاء المؤتمر في مناقشاتهم النظرية واجتماعاتهم الشكلية واستفساراتهم العقيمة، فضلا عما كان المؤتمر يعانيه من عثرات في طريقه بعد أن رفضت الدولة صاحبة السيادة على مصر الاشتراك فيه.
كانت إنجلترا تراقب تطور الأمور في مصر بكل عناية واهتمام، وأرسلت إلى قائدها البحري الذي كان يرابط بقطع من الأسطول في مياه الإسكندرية، وهو بوشومب سيمور، بألا يدع فرصة تفلت من يديه، وأن يراقب ما تقوم به السلطات الحربية المصرية في هذه المدينة، فإذا لاحظ أن هناك تحصينات تقام أو محاولات تبذل لسد مدخل الميناء أو حركات عسكرية خطيرة ، فعليه أن ينذر هذه السلطات ويطلب منها تسليم قلاع المدينة في مدى أربعة وعشرين ساعة، بعد إنقضائها لا يتردد في ضرب الإسكندرية وهدم حصونها وإسكات دفاعها واحتلالها.
اعتبرت إنجلترا عمل المصريين لتحصين بلادهم عملا عدائيا موجها ضدها! ولم تكن الحكومة الإنجليزية لتتخذ هذه الخطة في الخفاء، بل صارحت بها الدول، وأرسلت بما قررته إلى مندوبي الدول المجتمعين في الأستانة.
لقد كانت الحكومة البريطانية ترى ضرورة القضاء على ما اعتبرته سيطرة الجيش في مصر قبل شهر أغسطس سنة 1882 ونفذت خطتها بالفعل، وضربت مدينة الإسكندرية واحتلتها بعد أن دافع أهلها دفاعا مشهودا، واضطر العرابيون إلى اتخاذ قاعدة جديدة في كفر الدوار والدفاع عن البلاد إلى النهاية.
على أن احتلال الإنجليز لمدينة الإسكندرية لم يكن معناه احتلال مصر جميعها أو حل المسألة المصرية بأكملها، وإن كان سفير إنجلترا في رومه قد أعلن، حين وجد شيئا من الضيق والقلق يسود إيطاليا بأنه يجب على دول أوروبا أن تشكر هذه الظروف، وأن تحمد الحكومة الإنجليزية على اتخاذ خطوات من شأنها رفعة مركز أوروبا في الشرق الأدنى!
وجدت إنجلترا أن حل مسألة مصر هو في قناة السويس، فهي النقطة الضعيفة التي تستطيع أن تنفذ منها إلى مصر مباشرة، حقيقة لقد عارضت إنجلترا - كما رأينا - في حفر هذه القناة، وعرقلت محاولة تنفيذ مشروعها، ولكنها أصبحت أكثر الدول استفادة من فتحها، لتجارتها ولمرور أساطيلها الحربية، وأصبحت القناة مصلحة حيوية مهمة من مصالح إنجلترا، ولذا شغلت مسألة حماية القناة أذهان الساسة الإنجليز بعد ضرب الإسكندرية، فبعثت حكومة لندن إلى الدول الكبرى تبدي قلقها على مصير القناة.
ومنذ الوقت الذي استفحلت فيه الحركة العرابية، تساءلت إدارة شركة قناة السويس في شيء من الخوف عن الموقف الذي ستتخذه إنجلترا إزاء القناة، وهل تنوي احتلالها؟ ولقد بين مدير الشركة أنه لا يمكن لأية دولة احتلال القناة أو جزء من القناة، أو إنزال جنود على سواحلها.
ولتفادي الأخطار التي قد تلحق بقناة السويس أرسل فردنند دي لسبس برقية إلى ممثلي الدول الكبرى في باريس ينصح فيها كل دولة تهتم بحرية المرور في القناة أن ترسل سفينة حربية للمراقبة عند بورسعيد، وبين أنه محرم القيام بأي عمل حربي أو بأية مظاهرة حربية عند مدخل القناة أو على شواطئها، وأن حيدة هذه القناة العالمية قررت في الامتياز الممنوح للشركة، وأن هذه الحيدة قد لوحظت من الناحية العملية في الحرب الفرنسية الألمانية سنة 1870، والحرب الروسية التركية سنة 1877.
اتخذ فردنند دي لسبس هذا الموقف حين طلب القائد البحري الإنجليزي المرابط في مياه بورسعيد إرسال سفينة حربية للمراقبة في قناة السويس، ولم يجد مدير الشركة أن يجيب ذلك الطلب خوفا من العواقب التي قد تترتب عليه من انفراد إنجلترا بحقوق في القناة لا تكون للدول الأخرى. ولقد وافق مجلس إدارة الشركة على ما قام به مديرها على أساس أن الشركة مشروع مصري تجاري قبل كل شيء؛ ولذا لا يجب أن تربك نفسها في عمليات سياسية أو حربية.
ولقد استشار الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة حكومتهم في لندن فيما يجب أن يكون عليه موقفهم، ويظهر أنهم كانوا يفهمون أو يريدون استغلال شركة القناة لخدمة مصالح إنجلترا السياسية؛ ولذا فهم خلال هذه الأزمة لا يهتمون بمصلحة القناة بقدر ما يستلهمون مصالح إنجلترا السياسية والحربية التي وضعوها فوق كل اعتبار، والواقع أنهم كانوا أكثر حماسة لاحتلال إنجلترا للقناة من رجال البحرية ورجال الحرب الإنجليز، ويرون في ذلك خير وسيلة لتفوق نفوذ الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة؛ ولذا فهم في هذه الأزمة قد أخذوا على عاتقهم محاربة كل اقتراح أو مشروع أو احتجاج مهما كان قانونيا أو مشروعا من شأنه عرقلة سياسة إنجلترا أو وضع العقبات أمام حركات جنودها أو سفنها في القناة، وفسروا الامتياز الممنوح لشركة القناة وكل السوابق العملية التي مرت بتاريخ القناة في الظروف الحربية المختلفة تفسيرا يتلاءم ومصالح إنجلترا، كما اهتموا بتنفيذ التعليمات التي ترد إليهم من حكومتهم بشأن القناة خلال هذه الأزمة التي انتهت باحتلال الإنجليز للقناة ولمصر.
وكانت الحكومة الإنجليزية تخشى من جانبها - كما تدعي - أن يقوم العرابيون بردم القناة أو احتلالها أو إتلافها، وكانت تقارير ممثلي إنجلترا ممتلئة بالتشاؤم، وتنذر كما يقول الإنجليز بالخطر الشديد على هذه الطريق البحرية المهمة، وتواترت الإشاعات التي تقول بأن البدو المجاورين للقناة يعملون على مهاجمة السفن المارة بالقناة؛ أي أن سلامة المرور في القناة لم تعد مكفولة ولا مضمونة.
وفي 16 يوليو سنة 1882 أرسلت الحكومة الإنجليزية تعليمات لقائدها البحري في بورسعيد الرير أدميرال هوسكنز بأن يتعاون مع قائد الأسطول الفرنسي في أمر حماية القناة، وأن يعمل بغير تردد في حالة حدوث خطر مباغت.
ولما عين عرابي باشا، علي باشا فهمي على منطقة القناة، أعلن الإنجليز أن الدولة البريطانية في حالة حرب مع عرابي باشا وأتباعه وأنها لا تحترم في مصر غير حقوق الخديو.
لقد كانت الحكومة الإنجليزية - حكومة جلادستون - مستعدة من الوجهة الفنية لتقبل كل التقارير الممتلئة بالتشاؤم وتصديق الشائعات التي تبالغ في وصف الخطر المحدق بالقناة، والعمل على مقتضاها، وخاصة وأن العرابيين لم يهتزوا كثيرا لفقدان الإسكندرية، ولم يرجعوا عن عزمهم في الدفاع عن البلاد مهما كلفهم الأمر، وأخذوا بالفعل في تحصين مصر وإعداد وسائل الدفاع والحرب.
أخذت الحكومة الإنجليزية إذن في الاتصال بالدول لكبرى التي يهمها أمر القناة، تشير إلى الخطر الذي يتهدد القناة، وضرورة حمايتها، اتصلت الحكومة الإنجليزية بحكومة رومة، ولكن حكومة رومة لم تعط الإنجليز ما كانوا يبتغون، إذ أجاب وزير الخارجية الإيطالي مانشيتي بأن مصير القناة وحرية الملاحة فيها وفتحها في كل وقت للمرور أمر يهم الإيطاليين جميعا، لا ريب في ذلك، ولكن إيطاليا تريد أن تتبين أولا وبالتفصيل نوع الإجراءات التي تريد إنجلترا اتخاذها في هذه المسألة بالذات.
وأما الحكومة الفرنسية، فلقد كانت دائما في خشية من البرلمان، تلاحقها الأزمات الوزارية والسياسية لكبير المسائل وصغيرها؛ ولذا اقترحت الحكومة الإنجليزية أن تسعى الدولتان الكبيرتان لدى المؤتمر الذي ما زال منعقدا في الأستانة لإقناعه بأمر انتدابهما لحماية قناة السويس من الأخطار التي تهددها - في نظر الإنجليز - والمحافظة عليها، فالدولتان - كما كانتا تعتقدان - صاحبتا المصالح الكبرى في مصر وفي القناة. وكانت الحكومة الفرنسية - حكومة دي فريسنيه - تعتقد أنه إذا وافق المؤتمر على انتدابها هي وإنجلترا لحماية القناة، والمحافظة على حرية المرور فيها؛ فإنها تستطيع أن تبرر عملها أمام البرلمان الفرنسي، وتستطيع أن تحصل على موافقته، وبغير ذلك لا تجرؤ على التدخل مع إنجلترا.
فالحكومة الفرنسية إذن لم تكن تقل رغبة عن حكومة جلادستون في التدخل لما تدعيه من حماية القناة، وكان دي فريسنيه نفسه يود لو استطاع التدخل والتعاون مع الإنجليز، وخاصة بعد ضرب الإنجليز لمدينة الإسكندرية واحتلالهم لها، وكان زعيم الجمهوريين في فرنسا نفسه ينادي دائما بضرورة التعاون مع إنجلترا، في كل مسائل البحر الأبيض المتوسط، ففي البرلمان الفرنسي في جلسة 19 يوليو سنة 1882 حاول ذلك الرجل أن يقنع البرلمان بضرورة التعاون مع إنجلترا للمحافظة على مصالح فرنسا، ولكن أعضاء البرلمان الفرنسي ما كانوا يوافقون أبدا على أي تدخل حربي فرنسي في وادي النيل، ولقد شكر كلمنصو؛ أحد الأعضاء البارزين في مجلس النواب الفرنسي الحكومة الفرنسية في نفس هذه الجلسة على عدم الاشتراك مع الإنجليز في ضرب مدينة الإسكندرية، وعلى الامتناع عن كل المغامرات الحربية، وندد بسياسة السير في أذيال إنجلترا.
وحاول جرانفل وزير الخارجية البريطانية أن يتعرف على رأي الدولة الألمانية في ذلك الموضوع؛ موضوع حماية قناة السويس، فبين المستشار الألماني بسمرك أنه لا زال يعتقد أن السلطان العثماني هو صاحب الحق الأول في حماية القناة والإشراف عليها، إذ هي جزء من ممتلكاته، فإذا لم يكن السلطان راغبا في القيام بهذه المهمة، كان على الدول الأخرى أن تعمل، فإذا قامت هذه الدول بحماية مصالحها، فإن الدولة الألمانية لن تتحمل أية مسئولية عن هذا العمل أو عن الإجراءات التي قد تتخذ، كذلك لن توافق ألمانيا على تعديل المعاهدات الموجودة، ولن توافق أبدا على فكرة انتداب دولة أو دولتين للقيام بحماية قناة السويس، فالمستشار الألماني يرى أن تشترك في ذلك الدول جميعا، على أن تكون حقوقهم جميعا متساوية في اتخاذ تدابير بوليسية بحرية إذا استلزم الأمر ذلك، وقال بسمرك: إن هذا هو اتجاه الرأي العام الألماني، ووافقته على هذه الخطة روسيا والنمسا والمجر وإيطاليا.
ولقد حاول وزير الخارجية البريطانية جرانفل إقناع ممثل ألمانيا بأن الموقف في القناة غريب، فالحكومة الشرعية، وهي حكومة الخديو، ليست في مركز تستطيع معه حماية قناة السويس أو الدفاع عنها، والحكومة الفعلية التي تمتع بالسلطة هي القائمة بالثورة، وهي التي يخشى خطرها على كيان القناة وسلامتها، والسلطان العثماني صاحب حقوق السيادة في مصر لم يتخذ إلى الآن أية إجراءات تكفل سلامة القناة، وضرب مثلا لذلك بأنه إذا اشتعلت النيران في منزل، فيجب ألا يتردد سكان ذلك المنزل في العمل على إخماد النيران انتظارا لمجيء صاحب المنزل والحصول على إذن منه، فهذا - كما يرى جرانفل - هو موقف إنجلترا بالنسبة لقناة السويس، وأضافت الحكومة الإنجليزية إلى ذلك بأن الحماية البحرية للقناة بغير إنزال جنود على ضفتيها لا تغني كثيرا.
لم يقتنع المستشار الألماني بسمرك برأي الحكومة الإنجليزية ولم يتحول عن رأيه، ولكن الحكومة الإنجليزية لم تقف عند هذا الحد، فهي قد وطنت العزم على حماية مصالحها، ولو أدى الأمر استعمال القوة وتجاهل حقوق المصريين والأتراك على السواء؛ ولذا قررت أن ترسل للباب العالي إنذارا بأنه إذا لم يجب دعوة الدول الكبرى في مدى أربعة وعشرين ساعة لوقف عرابي عن حده والقضاء على الثورة المصرية، ستعتبر الحكومة البريطانية إجابته سلبا، وتتخذ حينئذ ما تراه ضروريا لحماية مصالحها في القناة، واتصلت بالدول الكبرى تنبئهم بعزمها على اتخاذ تدابير فعلية في حماية القناة، مما جعل الحكومة الإيطالية تعتقد أن الحكومة البريطانية لا تبغي جادة تدخل الحكومة العثمانية؛ لأن مثل هذا الإنذار إذا قدم للسلطان سيحدث بلا ريب أثرا سيئا ورد فعل شديد لديه، إذ معناه أن السلطان أصبح في مركز ذليل يتلقى فيه الأوامر من إنجلترا في مسألة تختص بحقوق سيادته في أمر بلاد اعترفت كل الدول بأنها تابعة له، ولما وجدت الحكومة الإنجليزية أن الدول الأخرى لا تقر مثل هذه الخطوة العنيفة لم تبعث بذلك الإنذار .
ولكنها استمرت بنشاط في تجهزها للطوارئ، وأرسلت بقوات جديدة إلى قبرص ومالطة لتكون على تمام الأهبة والاستعداد، وأرسلت وزارة البحرية إلى قائد البحر بوشومب سيمور بأن يطلب من الحكومة المصرية في الإسكندرية تصريحا مكتوبا لأمير البحر هوسكنز قائد القطع البحرية البريطانية في مياه بورسعيد ليعمل باسم حكومة الخديو في منطقة قناة السويس، وأن يستولي على الإسماعيلية، وأن يحرم عرابي باشا وأتباعه من استخدام السكة الحديدية بين الإسماعيلية والسويس.
ولقد احتج فردنند دي لسبس على انتهاك الحكومة الإنجليزية لحياد القناة، بإنزال قوات عسكرية في الإسماعيلية، وأعلن أن للسفن جميعا حربية وغير حربية حرية المرور في القناة، دون القيام بأعمال عدوانية في مياهها أو أراضيها، وكرر فكرته بأن هذا الحياد قد احترم بالفعل إبان الحرب الفرنسية الألمانية والحرب الروسية التركية، فلم تعتد الروسيا على القناة ولو أنها جزء من ممتلكات الدولة التركية التي هي في حالة حرب معها، وذكر دي لسبس أن السفن المتعادية قد تقابلت في القناة دون أن تتبادل إطلاق النار.
فأعمال الإنجليز الآن - كما وضح - تكون سابقة خطيرة للمستقبل، قد تأسف لها بريطانيا نفسها، إذ إنه في أية أزمة سياسية في المستقبل تستطيع أية دولة معادية لبريطانيا، على أساس هذه السابقة، احتلال إحدى ضفتي القناة وإطلاق النيران على السفن الإنجليزية أثناء مرورها.
ولكن إذا احترم حياد القناة الآن فلن يقوم مثل ذلك العمل.
ولذا، كرر دي لسبس أنه لا يجب استخدام قناة السويس كقاعدة للعمليات الحربية أو تحويلها إلى ميدان حرب، وبين دي لسبس في احتجاجه هذا، أن عرابي باشا نفسه «الذي أعلن عليه الإنجليز الحرب» قد احترم بالفعل حياد القناة، فلم يحشد قوات في منطقتها، ولم يمس حرية المرور في القناة نفسها، وأنه سائر في هذه الخطة طالما لم تستخدم القناة قوة معادية للقيام بأعمالها الحربية.
ولم يرق احتجاج دي لسبس هذا الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة، فهؤلاء الأعضاء لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام حجج دي لسبس التي برر بها موقفه من ضرورة احترام إنجلترا لحياد القناة ، فأعلنوا أنهم لا يستطيعون الثقة في نيات عرابي باشا، ولا في احترامه لحياد القناة، وأنه قد اتصل بهم أن عرابي باشا ينوي الإضرار بالتجارة الإنجليزية، بوقف حركة المرور في القناة ومهاجمة السفن البريطانية فيها، وكذلك لا يمكن الاعتماد على وعوده فيما يختص بالمستقبل.
وبينوا كذلك أن دخول قوات بريطانيا البحرية في القناة ليس إلا لدرء ذلك الخطر، وأن من الخير القيام بذلك الإجراء الآن، لا الانتظار حتى يتفاقم الخطر وتعطل القناة، وأضاف الأعضاء الإنجليز إلى ذلك أن حكومتهم قد اضطرت اضطرارا للقيام بهذه التدابير، وأنها قد قامت بها باسم الخديو وباسم حكومته الشرعية ضد الجيش الثائر، وأن غرض إنجلترا هو حماية الأمن والنظام في مصر وحماية السلطة الشرعية في البلاد، وأن خطة الحكومة الإنجليزية التي اتخذتها هي في صالح القناة لا اعتداء على حيادها.
ولكن مثل ذلك القول لم يقنع مدير شركة القناة ولا الأعضاء الآخرين، وأشار دي لسبس بأن المحافظة على حياد القناة هو في صالح إنجلترا أكثر من أية دولة غيرها.
ولقد عمل موقف دي لسبس وشركة القناة على أن ترسل الحكومة البريطانية إلى حكومة فرنسا تحذرها من كل عمل يقوم به دي لسبس ضد إنزال القوات الإنجليزية، وإلا اضطرت الحكومة الإنجليزية إلى اتخاذ تدابير ضد شركة القناة نفسها.
وفي نفس الوقت كانت إدارة الشركة لا تزال تكافح في سبيل إقناع الإنجليز باحترام هذه القناة. وخاصة بعد أن احتلت قوات هيويت البحرية السويس، فاجتمع مجلس إدارة الشركة، وقرر بأغلبية الآراء القرار الآتي: أنه باتفاق أصحاب مشروع القناة أعلن حياد القناة، وأن هذا الحياد أساس الامتياز الذي منح للشركة، وهذا الامتياز نفسه يحرم القيام بأي عمل حربي في القناة؛ ولذا فالشركة في موقف لا يسمح لها أبدا بالموافقة على أي اعتداء على حياد القناة، الذي يتضمن بلا ريب حرية المرور لكل الشعوب، وعلى هذا لن تستطيع أية حكومة إقناع إدارة الشركة بقبول مسئولية الاعتداء على حقوق كل الشعوب التي تهتم بحرية الملاحة في القناة، ولما كانت صبغة الشركة قبل كل شيء تجارية، فليس لها أن تدخل في اعتبارها المسائل السياسية.
ولكن هذا لم يؤثر في موقف الحكومة الإنجليزية ولم يزحزحها عن رأيها قيد أنملة.
وفي الوقت الذي كانت فيه حكومة لندن تأخذ أهبتها للطوارئ، كانت حكومة إيطاليا تنصح بالتريث والصبر، وحكومة فرنسا تزداد كل يوم وهنا على وهن، ولا تجد من نفسها القوة لتتمشى مع رغباتها ورغبات الحكومة الإنجليزية، ولذا عادت تستفسر من الحكومة الإنجليزية: هل تفهم فرنسا من دعوة الإنجليز لها للاشتراك في حماية قناة السويس الاقتصار على القيام ببعض مناورات حربية بحرية واحتلال بعض النقط على ضفتي القناة، أو القيام بحملة عسكرية داخل البلاد ترمي إلى احتلال مصر جميعها احتلالا عسكريا؟
على أن هذا التردد من جانب الحكومة الفرنسية لم يمنع وزير الخارجية الإنجليزية جرانفل من مواصلة جهوده مع فرنسا بالرغم من رفض المستشار الألماني لفكرة الانتداب، ولذا رأت الحكومة الفرنسية أن تحدد نوع تدخلها - إذا حدث وتدخلت - فهي تفكر في التدخل فيما يختص بحماية قناة السويس والمحافظة على حرية المرور فيها فقط، أما إذا أرادت الحكومة الإنجليزية إرسال حملة بعد ذلك للقضاء على الثورة العرابية واحتلال العاصمة المصرية، فالحكومة الفرنسية غير مستعدة للاشتراك فيها أو التعاون معها، ولكنها لن تقوم من جانبها بإثارة أي معارضة لإنجلترا إذا حاولت تنفيذ برنامجها.
ولهذا أراد وزير الخارجية البريطانية أن يوضح فكرته لفرنسا فيما يختص بالتعاون بين الدولتين، ووضع التفصيلات الخاصة بتوزيع الإشراف على القناة بين الإنجليز والفرنسيين؛ فيشرف الفرنسيون على الجزء الشمالي للقناة، على المنطقة ما بين الإسماعيلية وبورسعيد، ويشرف الإنجليز على بقية أجزاء القناة، ويحتل الفرنسيون بورسعيد والقنطرة، ويحتل الإنجليز الإسماعيلية والسويس. وبهذا يرضى الطرفان ويتعاونان، ويطمئنان تماما فيما يختص بسلامة القناة، وفي هذا الحل تناسى جرانفل تماما حقوق المصريين، أصحاب القناة الأصليين، وحقوق السلطان صاحب السيادة، ونصوص الامتياز الممنوح لشركة القناة، ولم يبين جرانفل في برنامجه هذا هل هذا التعاون وذلك الاحتلال مؤقت أم نهائي.
وكانت حكومة فريسنيه راغبة في التعاون مع الحكومة الإنجليزية في حماية القناة ، ففريسنيه لا يريد ترك إنجلترا تتدخل وحدها وتنفرد بالنفوذ في القناة، ففي جلسة 24 يوليو في البرلمان الفرنسي طلب رئيس الحكومة اعتمادا لحماية القناة وعلى الأكثر لاحتلال الزقازيق لضمان المياه العذبة. وناقش مجلس النواب الفرنسي ذلك الطلب في جلسة 29 يوليو، فبين فريسنيه للمجلس أن ليس لفرنسا نية في التدخل الفعلي، وإنما غايتها حماية القناة، وأن لا دخل للسياسة في ذلك، فكل الدول لها نفس المصالح في حماية القناة، ووضح أن حماية القناة لا تؤدي إلى التدخل الحربي، وأن غاية فرنسا من ذلك هو مشاركة إنجلترا وعدم ظهور فرنسا بمظهر الضعف أمام الشعوب الإسلامية. وأجاب كلمنصو على ذلك بأنه لا يمكن فصل مسألة مصر عن مسألة القناة، وأن حماية القناة لا تكون باحتلال القناة، وإنما باحتلال القاهرة، وهذا هو سر تدخل إنجلترا، ولا يمكن لفرنسا أن تتعقب آثار إنجلترا، وليس من داع لأن تقوم فرنسا بحماية القناة لتحمي ظهر الإنجليز.
ورفض البرلمان الفرنسي طلب الحكومة الفرنسية بأغلبية واضحة، بعد أن ندد المعارضون برأي الحكومة، ورفضوا الموافقة على القيام بأي عمل حربي أو مغامرة خارجية، وانتصرت الفكرة التي تقول: إن على فرنسا أن تحتفظ بكل قواتها في أوروبا لحماية مصالحها المهمة والحيوية، وأن ترفض كل رأي يرمي إلى التوسع الخارجي أو الاستعمار.
وأما من حيث أمر تعاون إيطاليا مع الإنجليز في حماية قناة السويس، وفي إرسال حملة مشتركة إلى داخل البلاد المصرية، فلقد حاول السفير الإنجليزي في رومه إقناع مانشيني وزير الخارجية الإيطالية بوجهة النظر البريطانية، ووضح له فائدة التعاون مع بريطانيا في مسائل البحر الأبيض المتوسط، وخاصة في هذه المسألة بالذات، وبين له في جلاء لا مزيد عليه أن موافقة الباب العالي التي جاءت متأخرة في الاشتراك في مؤتمر الأستانة وعلى إرسال جنوده إلى مصر لن تجعل الحكومة البريطانية تعدل عن خطتها التي استنتها لنفسها، ولن تمنع الحكومة البريطانية من الاستمرار في استعداداتها الحربية، ومن المضي قدما في احتلال المراكز التي تراها في منطقة القناة وفي قمع الثورة العرابية وفي المحافظة على سلطة الخديو.
ولكن محاولات السفير البريطاني في رومه، وجرانفل في لندن مع السفير الإيطالي لم تجد نفعا كبيرا، فلقد كانت إجابة وزير الخارجية الإيطالية مانشيني تنطوي على عدم اقتناعه بوجهة النظر الإنجليزية، فلقد بين في أدب أنه لا يفهم معنى مناقشة مسألة مصر وقناة السويس في مكانين مختلفين في وقت واحد، فمسألة مصر والقناة معروضة الآن، باتفاق كل الدول الكبرى، أمام المؤتمر المنعقد في الأستانة، يتبادل أعضاؤه الآراء في شأنها، ويحاولون أن يجدوا لها علاجا حاسما.
ولذا فمانشيني يفضل العمل الجمعي الذي تشترك فيه كل الدول الكبرى، لا تعاون إنجلترا وإيطاليا وحدهما، وفي الواقع أن مانشيني كان يرى أن الظروف الحاضرة لا تبرر تدخل إيطاليا الحربي في بلاد ناشئة تسعى إلى تحقيق آمالها القومية، وأيده في موقفه بعض أعضاء البرلمان الإيطالي الذين ما فتئوا يؤيدون حق الشعوب في الوحدة والحرية.
وعند ذلك لاحظ السفير الإنجليزي لدى البلاط الإيطالي، وكان مغرما بإلقاء المحاضرات السياسية على الدولة الإيطالية الناشئة بأنه ينبغي ألا تنسى الحكومة الإيطالية ذلك العرض حتى لا تتهم الحكومة البريطانية في المستقبل بأنها اتبعت سياسة خاصة أنانية، كما ذكر أن بريطانيا غير محتاجة إلى معاونة أية دولة في حماية القناة أو القضاء على ثورة الجيش في مصر.
ولم تحتج بريطانيا على موقف إيطاليا هذا، بل اغتبطت له، فالمهم في نظر وزير خارجية إنجلترا أن دولته قد أظهرت رغبتها في مجاملة إيطاليا، ورفض بقوة اقتراح الحكومة الإيطالية إنشاء قوة بوليسية بحرية دولية للإشراف على حرية المرور في قناة السويس دون احتلال لأي جزء من أجزائها.
وواصلت إنجلترا السير في خطتها، فصرحت لقائدها البحري في بورسعيد بأن يحتل من أجزاء القناة ما يراه ضروريا لاتخاذ القناة قاعدة حربية، وقررت إرسال حملة إلى مصر تسير بطريق القناة ثم تستند إلى القناة، وتتكون هذه الحملة من 14794 جنديا بقيادة السير جارنت ولسلي، تنضم إليها قوة آتية من الهند قوامها 4586 جنديا، كما تنضم إليها الحامية البريطانية في الإسكندرية المكونة من 6186 رجلا، ويقوم بوشمب سيمور قائد القوات البحرية بمعاونة هذه الحملة، وأرسلت تعليمات إلى الأسطول بأن يقوم بحماية القناة، وأن تتخذ الحملة الإنجليزية القناة قاعدة لها.
وفي نهاية الأسبوع الأول من شهر أغسطس كانت إنجلترا قد أعلنت للدول أن القناة لا يمكن حمايتها تماما إلا باحتلال بعض النقط على ضفافها، ولا سيما وأنه قد وصل إلى علم الحكومة الإنجليزية أن عرابي باشا يجمع الجنود قريبا من منطقة القناة.
وفي هذه الأثناء كان مستر إدوارد ستاندن في مجلس شركة قناة السويس يجيب على احتجاجات فردنند دي لسبس بضرورة احترام حياد القناة، فبين أن آراء الدول الكبرى مختلفة بالنسبة لهذا الموضوع، وأن فرنسا نفسها إلى وقت قريب كانت قد أعلنت للحكومة الإنجليزية أنها لا تمانع في إنزال جنود إلى بورسعيد، وأن تحتل الجزء الشمالي من القناة، وأن ألمانيا نفسها قد وافقت على فكرة إنزال جنود في منطقة القناة، فقائد السفينة الحربية الألمانية الراسية في مياه بورسعيد قد أنزل بالفعل عددا من بحارته لحماية الرعايا الألمان في هذه المدينة، فهاتان الدولتان اللتان يقول عنهما دي لسبس بأنهما احترمتا حياد القناة، لم تريا في مثل هذا العمل اعتداء على حياد القناة.
على أن هذا الرأي لم يجد قبولا عند مدير الشركة الذي أرسل إلى ممثلي الدول في باريس منشورا يكرر فيه بأن القناة محايدة على أساس امتياز 5 يناير سنة 1856، فالمادة 14 منه تقول: «نعلن نحن وحلفاؤنا - بعد تصديق صاحب الجلالة الإمبراطورية «العثمانية» - بأن القناة البحرية الكبرى من السويس إلى بلوز والموانئ القائمة عليها مفتوحة دائما كممر محايد لكل السفن التجارية دون تمييز أو تفضيل لشخص أو لجنسية إذا دفعت الرسوم التي تقررها شركة القناة العالمية.»
ومادة 15 تقول: «ونتيجة لذلك لا يجوز لشركة القناة العالمية الممنوحة الامتياز تفضيل سفينة أو شركة أو شخص بإعطائهم امتيازات لا تكون لكل السفن أو الأشخاص أو الشركات في نفس الظروف.»
ومن امتياز 22 فبراير سنة 1866 تنص المادة العاشرة على أن من حق الحكومة المصرية أن تحتل الأراضي الواقعة على القناة التي ترى أنها لازمة للدفاع عن البلاد .
شمل المنشور الذي أرسله دي لسبس إلى ممثلي الدول في باريس هذه النقط، وأكد أهمية المحافظة على حياد القناة لكل الدول التي لها تجارة تمر بالقناة، وبين المنشور كذلك أن قائد البحر الإنجليزي لم يأبه لهذا، بل وأعلن أنه سيتخذ كل الوسائل لاحتلال القناة، ووضح المنشور أن المظاهرات الحربية التي يقوم بها قواد البحر الإنجليز من شأنها إثارة الأهلين، وبهذا تدخل القناة في منطقة الحرب.
ويرى دي لسبس في ذلك المنشور أن الحل الوحيد لمسألة القناة يتركز في حماية بحرية تشترك فيها كل الدول دون إنزال جنود على ضفتي القناة أو احتلال لأجزاء منها، وفي مثل هذا الإجراء - إذا اتخذ - محافظة على حياد القناة الذي أقره السلطان صاحب السيادة.
على أن هذا المنشور الجديد لم يثبط من عزيمة إنجلترا، فلقد طلبت الحكومة الإنجليزية من شركة القناة أن تفضل مرور السفن الحربية البريطانية على السفن الأخرى، وبينت أن إنجلترا ستلجأ حتما إلى القوة لتنفيذ ذلك، إذا رفضت شركة القناة الموافقة على ذلك الطلب، وأعادت تحذيرها للحكومة الفرنسية بشأن العراقيل التي يبثها دي لسبس أمام إنجلترا.
وأرسل جرانفل في 14 أغسطس إلى الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة شركة القناة يطلب منهم أن يقوموا بتفسير أعمال بريطانيا الحربية في القناة لمجلس إدارة الشركة على النحو الآتي:
لقد أصبح من الضروري أن تعمل إنجلترا متعاونة مع الخديو والسلطان، وذلك بإنزال قوات على ضفاف القناة، وفقا لمواد 9، 10، 11 من امتياز 22 فبراير سنة 1866 الخاص بالقناة، والذي صدق عليه السلطان في 19 مارس من هذه السنة 1866 احتفظ والي مصر لنفسه بحقوق تنفيذية في القناة وكل متعلقاتها، ووفقا لهذا الحق سمح والي مصر الحالي لقائد القوات البحرية البريطانية في بورسعيد باحتلال الأماكن الواقعة على القناة التي يراها ضرورية لحماية المرور في القناة وحماية المدن والسكان في منطقتها، والقضاء على كل قوة لا تعترف بسلطته، واستتبع هذا احتلال قوات إنجلترا البحرية لمدينة السويس التي كانت مهددة بالتدمير «وكانت إنجلترا في ذلك الوقت ترى أن هذه المدينة تقع خارج منطقة القناة»، ثم احتلال مدينة الإسماعيلية لحمايةالقناة وما حولها، ولإرجاع النظام إلى مصر، ونظرا لوجود القوات المعادية لإنجلترا قرب القناة، فالحكومة البريطانية إذن مضطرة إلى تركيز عدد كبير من القوات في هذه المنطقة.
وطلبت الحكومة البريطانية أيضا أن تقوم الشركة بتقديم كل التسهيلات الممكنة لمرور ناقلات الجنود، وأن تقدمها على كل السفن الأخرى، وكذلك طلبت الحكومة البريطانية من الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة أن يحذروا الشركة عواقب الوقوف أمام طلبات إنجلترا وتجاهل أوامر الخديو صاحب الحق الشرعي في البلاد.
هكذا بررت الحكومة الإنجليزية مسلكها بإزاء القناة، ولجأت إلى التهديد باستخدام القوة إذا وقفت أمامها شركة القناة.
ولم يكن أمام شركة القناة إلا أن تلتجئ إلى الحكومة الفرنسية، ولكن الحكومة الفرنسية كانت نفسها - كما رأينا - ميالة إلى التدخل مع إنجلترا لحماية القناة، لولا معارضة البرلمان الفرنسي لها، فهي من ناحية المبدأ لا تستطيع أن تنتقد مسلك إنجلترا في هذه المسألة بالذات ولا أن تؤيد شركة القناة، وبعد ذلك فالحكومة الفرنسية في مركز ضعيف لا تحسد عليه، ليست لها حرية التصرف في الأمور الخارجية والأمور التي تستلزم استخدام القوة، أما الدول الأخرى، فما كانت شركة القناة تستطيع أن تتقدم إليها طالبة المعونة أو التأييد، فهذه الدول ليست لها مصالح مهمة في القناة أو مصر تدعوها للتدخل لنجدة الشركة، فهي إذن ليست حريصة على عرقلة إنجلترا، وأما الدولة العثمانية صاحبة السيادة، فهي أضعف من أن تتحدى الحكومة البريطانية، وأما حكومة الثورة وعلى رأسها عرابي باشا، فلم تتخذ أية إجراءات لحماية القناة أو لمنع العدوان الإنجليزي على شرقي مصر، بل تركت منطقة القناة بغير دفاع.
وانتهز الإنجليز هذه الفرصة فاحتلت قواتهم البحرية منطقة القناة جميعها، وأوقفوا حركة المرور في القناة، واستطاعت الحملة الإنجليزية بقيادة سير جارنت ولسلي أن تعبر القناة آمنة مطمئنة وأن تستند إلى القناة كقاعدتها الأساسية في غزو مصر.
وفي هذه الأثناء كان مؤتمر الأستانة مستمرا في جلساته، ثم أنهى هذه الجلسات بعد أن وافق على تعاون الإنجليز والأتراك في حل مسألة مصر، واستمرت المناقشات بين الإنجليز والأتراك على نوع وحدود التعاون بينهما، واشترط الباب العالي ألا يتعدى الجنود الإنجليز حدود مدينة الإسكندرية! وألا يلبثوا في الإسكندرية أكثر من ثلاثة شهور، وتقدمت الحكومة الإنجليزية من جانبها باقتراحات هي في الواقع أوامر بألا تزيد القوة العثمانية على خمسة آلاف رجل، وألا تتحرك في مصر إلا بموافقة قائد القوات الإنجليزية.
واستمرت المفاوضات تتعثر حينا وتتقدم حينا آخر، ثم انقطعت فجأة بمهاجمة الإنجليز للقناة وزحفهم على شرقي مصر ووقوع موقعة التل الكبير ودخول الإنجليز القاهرة واحتلالهم لمصر.
الفصل الخامس
إنجلترا وتحديد مركز القناة (1883-1888)
احتلت إنجلترا مصر والقناة في خريف سنة 1882، ولكن مركزها ظل مزعزعا، فلم تكن الدول تعترف لها بمركز شرعي في هذه البلاد، ففرنسا غير راضية، إذ أصبح مركز الإنجليز متفوقا في مصر، لم يعد يخالجها أي شك في ذلك، وحكومة فرنسا حزينة إذ لم تستطع أن تشترك مع الإنجليز في التدخل الحربي وحماية القناة على الأقل، وإيطاليا غير راضية عن عمل الإنجليز المنفرد، فلقد كانت تود لو اشتركت كل الدول الكبرى في مسألة تأمين الملاحة في القناة، وكل من ألمانيا والنمسا والمجر وروسيا لم يوافق على انتداب إنجلترا لهذه المهمة، مهمة حماية قناة السويس وإقرار الأمور في مصر، ويفضل العمل الجمعي الدولي، أو على الأقل كانت هذه الدول ترى تدخل الباب العالي إلى جانب إنجلترا، فالباب العالي هو صاحب السيادة على مصر من الناحية القانونية لا تتناطح دولتان في ذلك، والشعب المصري صاحب مصر والقناة لم يؤخذ رأيه، ولم تكن إنجلترا لتأبه لرأيه، بل دخلت البلاد قسرا ووضعت جيش الاحتلال رقيبا على تصرفاته وحياته، ولكنه بالرغم من ذلك لم يقبل الاحتلال في يوم من الأيام، وأصبح يتحين الفرص للتخلص من ربقته.
حقيقة أن الشعب المصري قمع بالقوة، وحقيقة أن الدول الأوربية الكبرى لم تثر اعتراضا قويا على تدخل الإنجليز المنفرد، وحقيقة أن الباب العالي اقتصر على الاحتجاج اللفظي، ولم يكن في موقف يسمح له بتحدي إنجلترا تحديا جديا، ولكن مركز إنجلترا كان بالرغم من ذلك ضعيفا ، وأحست إنجلترا نفسها بذلك الضعف، واختلفت فيها الآراء على مصير مصر، ففريق من الرأي العام البريطاني كان يرى ضم مصر إلى الممتلكات البريطانية، وفريق يرى بسط الحماية عليها، وفريق ثالث يرى فرض حماية مستورة أو مقنعة، ورابع يرى إعلان حيدتها، وخامس يرى الجلاء عنها بعد استقرار سلطة الخديو.
ولكن الحكومة الإنجليزية رأت أن تتبع نصيحة المستشار الألماني بسمرك، وكانت له في ذلك الوقت زعامة سياسية في أوروبا، وهذه النصيحة هي أن تستمر إنجلترا في الاحتلال حينا من الزمن مع ترك السيادة التركية كما هي.
ولم تقتصر الحكومة البريطانية على ذلك، بل أعلنت من حين لآخر حسب الظروف إرضاء للرأي العام الأوربي أنها لا تنوي البقاء مدى الدهر في مصر، وأنها ستغادر هذه البلاد حين ترى أن النظام والأمن قد استقر فيها نهائيا.
هذا ما أعلنته الحكومة البريطانية للرأي العام العالمي، ولكنها في قرارة نفسها لم تكن تفكر في الجلاء عن مصر إلا حين لا يتعارض هذا الجلاء مع مصالحها الخاصة، ومتى سيكون ذلك؟ لم تكن الحكومة الإنجليزية تريد أن تفكر في هذه المسألة.
ولو أن الحكومة الإنجليزية قررت ضم مصر نهائيا إلى ممتلكاتها وأرغمت الباب العالي على قبول ذلك، لزالت السيادة العثمانية عن مصر، ولأصبحت القناة بالرغم من أنها تجري في أرض مصر، تابعة لإنجلترا، ولكانت إنجلترا قد بتت في مصيرها، وكذلك لو فرضت إنجلترا الحماية على مصر لأصبحت قناة السويس تحت إشراف إنجلترا العام.
ولكن إنجلترا رأت أن تترك مركز مصر السياسي والدولي كما هو، فظلت القناة مجرى مائيا في أراضي مصرية، ينطبق عليها ما ينطبق على بقية أراضي مصر من حيث السيادة العثمانية، ووجدت الحكومة الإنجليزية من أول الأمر أن تترضى الدول حتى تعترف بالأمر الواقع في مصر. والأمر الواقع في مصر هو سيطرة إنجلترا العسكرية على كل أراضي مصر بما فيها القناة، وجدت الحكومة الإنجليزية أن مصلحة إنجلترا تقتضي المحافظة على المصالح الأوربية في مصر، وأرادت أن تطمئن الدول، وخاصة البحرية منها، على حرية المرور في قناة السويس لكل السفن التجارية والحربية في وقتي السلم والحرب.
فلقد كانت إنجلترا تخشى أن تعتقد الدول الأوربية الأخرى أن إنجلترا بسيطرتها العسكرية في مصر تريد أن تسيطر وحدها على قناة السويس وتستغلها لصالحها الخاص.
فإنجلترا إذن ترى في ذلك الوقت أن مسألة القناة وحرية المرور فيها لكل السفن في كل وقت مسألة دولية تهم الدول جميعا، فالقناة قد أصبحت بعد افتتاحها مجرى عالميا، يربط بين جزئي العالم شرقيه وغربيه، تدير أمورها شركة وإن كانت مصرية فهي عالمية أيضا.
وكانت الحكومة الإنجليزية ترى أنها إذا ضمنت للدول حرية المرور في القناة، وأكدت صفة القناة الدولية، ربما لم تتسائل الدول عن موعد جلاء الإنجليز عن مصر، ولذا فهي من اللحظة الأولى، بعد استقرار سيطرتها بدخول جيوشها القاهرة، تعلن عن رغبتها في الدخول في مفاوضات مع الدول الأوربية لوضع نظام توافق عليه جميع الدول لضمان حرية المرور في القناة.
ولم تكن الحكومة الإنجليزية لترضى أبدا بحياد القناة، فهي تريد أن تفتح القناة دائما لحركة مرور كل السفن الحربية وغيرها في كل أوقات السلم والحرب، ولقد وجدت هذه الفكرة تأييدا من الباب العالي، الذي لم يعترف خلال المدة الباقية من القرن التاسع عشر بالاحتلال البريطاني، كان الباب العالي يعارض فكرة الحيدة أو الحياد بالنسبة للقناة وبالنسبة لمصر أيضا في كل مفاوضاته مع إنجلترا أو مع الدول الأخرى؛ لأن الفكرة تتعارض مع مبدأ سيادته على الأراضي المصرية، ولقد ظهر ذلك بشكل واضح أثناء مفاوضاته مع سير هنري درمندولف الذي أوفدته حكومة سولسبري إلى استامبول للنظر في أمر جلاء القوات الإنجليزية عن مصر 1885-1887 وكذلك في مناقشاته مع الدول لوضع نظام دولي لتأكيد حرية المرور في القناة.
واهتمام إنجلترا بالقناة وحرية المرور لم يكن ناشئا عن رغبتها في إرضاء الدول الأوربية الأخرى فحسب، وإنما وجدت إنجلترا أن أهم واجب تقوم به في مصر بعد احتلالها هو حماية مصالحها الخاصة الاستراتيجية والحربية، هذه المصالح الناشئة من وقوع مصر في ملتقى الطرق العالمية البرية والبحرية.
ولقد ظهرت رغبة إنجلترا في وضع نظام لتأمين حرية المرور في القناة مع الدول الأخرى في منشور وزير الخارجية الإنجليزية جرانفل إلى الدول الأوربية، والمؤرخ في 3 يناير سنة 1883، وفي تقرير لورد دفرن المؤرخ في فبراير سنة 1883.
ولقد قسم منشور جرانفل مسائل مصر إلى قسمين: مسائل تتعلق بالدول الأخرى، وضروري فيها موافقة الدول الأوربية الكبرى، ومسائل تختص بأمور مصر الداخلية، فمن المسائل الأولى مسألة قناة السويس، فيقول المنشور: كان من نتائج الحوادث القريبة توجيه انتباه خاص إلى قناة السويس؛ أولا: للخطر الذي كان مهددا لها في الفترة الأولى لنجاح الثورة، وثانيا: نتيجة لاحتلال القوات البريطانية لها باسم الخديو واتخاذها قاعدة للعمليات الحربية لمصلحة سموه وتأييدا لسلطته، وثالثا للموقف الذي اتخذته شركة قناة السويس في وقت خطير أثناء العمليات الحربية.
وبالنسبة للنقطتين الأوليين، تعتقد حكومة جلالة الملكة أن حرية الملاحة في كل الأوقات وعدم عرقلتها أو إتلافها بأعمال الحرب مسألة مهمة لكل الشعوب.
وإن من المعترف به أن الإجراءات التي اتخذتها «حكومة جلالة الملكة» لحماية الملاحة واستعمال القناة باسم الحاكم المحلي لغرض استرجاع سلطته، ليس بأي حال اعتداء على ذلك المبدأ العام.
ولتوضيح مركز القناة في المستقبل، ولاتخاذ التدابير ضد الأخطار الممكنة؛ فترى حكومة جلالة الملكة أنه لا بد من الوصول إلى اتفاقية بين الدول الكبرى، تدعى الدول الأخرى للموافقة عليها على أساس أن: (1)
تكون القناة حرة لمرور كل السفن في كل الظروف. (2)
وفي وقت الحرب يحدد الوقت الذي تبقى فيه السفن الحربية في القناة، ويجب ألا ينزل فيها جنود أو عتاد حربي. (3)
لا تقوم أعمال عدوانية في القناة أو في مداخلها أو أي مكان في المياه المصرية، ولا يستثنى من ذلك تركيا إذا كانت أحد المتحاربين. (4)
ولا يطبق هذان الشرطان على الإجراءات التي تتخذها مصر للدفاع عن القناة. (5)
وإذا حدث أي تلف بالقناة من سفن إحدى الدول، فتكلف هذه الدول بدفع نفقات الإصلاح. (6)
تأخذ مصر كل التدابير في حدود قواتها لتأييد الشروط التي وضعت لانتقال سفن المتحاربين في وقت الحرب. (7)
لا تقام تحصينات على القناة أو في منطقتها. (8)
لا يوضع في الاتفاق أي شرط يؤثر على حقوق حكومة مصر أكثر مما ذكر.
وقامت المفاوضات بين إنجلترا وفرنسا بشأن القناة في 29 نوفمبر سنة 1884، وفي أوائل سنة 1885 (21 يناير) فيها وافقت الحكومة الإنجليزية على اقتراح الوزير الفرنسي جيل فري بشأن تنظيم مركز القناة في معاهدة، وتكوين لجنة تمثل فيها الدول الكبرى، وكان الوزير الإنجليزي جرانفل يفضل قيام المفاوضات بين العواصم الأوربية المختلفة، ولكنه وافق أخيرا على الرأي الفرنسي.
واقترح الوزير الفرنسي أن تكون باريس مكان الاجتماع اعترافا بفضل فردنند دي لسبس على الأقل، واعترض الجانب الإنجليزي بأن المفاوضات بدأت في لندن، ولا داعي لتغيير العاصمة الإنجليزية، وأخيرا وافق على الرأي الفرنسي.
ووافقت الدولتان على الإعلان الآتي وهو: من حيث إن الدول الكبرى متفقة على الاعتراف بضرورة المفاوضة؛ لوضع نظام نهائي لضمان حرية استخدام كل الدول لقناة السويس في كل الأوقات، فقد اتفقت الحكومات السبع على تكوين لجنة مكونة من مندوبين تعينهم الحكومات ويجتمعون في باريس في 10 مارس، على أن يتخذوا أساسا لمفاوضتهم منشور لورد جرانفل المؤرخ 3 يناير سنة 1883.
ولقد اتخذت الدول السبع الكبرى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا والنمسا والمجر تصريح لورد جرانفل أساسا لاتفاقية وقعها مندوبو هذه الدول ومعهم مندوب تركيا في مارس سنة 1885 لعقد مؤتمر مبدئي في باريس يتكون من ممثلي هذه الدول ومعهم مندوب من لدن خديو مصر، «وانضم إليهم بعد ذلك مندوبو بعض الدول الأخرى مثل إسبانيا وهولندا» لوضع أساس اتفاقية دولية بشأن قناة السويس، هذه الاتفاقية تدرسها الحكومات فيما بعد، وتعدل فيها إذا أرادت، أو وجدت ذلك التعديل ضروريا باتفاقها جميعا فيما بينها.
ولقد جعلت إنجلترا هذه الاتفاقية المبدئية الخاصة بالقناة أساسا للنص الخاص بالقناة في اتفاقية سير هنري درمندولف مع الباب العالي في سنة 1887، الخاصة بجلاء الإنجليز عن مصر بشروط معينة ورجوعهم إليها إذا قام خطر داخلي أو خارجي يهدد سلام مصر وأمنها، وعلى أي حال لم تصل هذه الاتفاقية الأخيرة إلى نتيجة؛ لأن السلطان رفض التصديق عليها.
ولقد اجتمعت اللجنة في 30 مارس سنة 1885 ومثل إنجلترا سير جوليان بونسفوت وسير ريفرز ولسن، وافتتح اجتماع اللجنة الوزير الفرنسي جيل فري الذي أعلن أن قناة السويس فكرة عبقرية «وأنها قبل كل شيء عالمية وأوربية وإنسانية»، وأنه لتأكيد هذه الفكرة الدولية للقناة ستفتتح هذه اللجنة أعمالها، وظهر في مناقشات هذه اللجنة النزاع الشديد بين فرنسا وإنجلترا، واستغرقت أعمال اللجنة ست عشرة جلسة، وبعد أن انتهت اللجنة من مناقشاتها، تقاعدت إنجلترا عن السير في إنهاء الموضوع، فاضطرت فرنسا إلى تهديد إنجلترا بأنها لن تسمح أبدا بسيطرة الإنجليز على مصر والقناة.
واضطرت وزارة سولسبري إلى متابعة السير في المشروع وأبدت كثيرا من الاعتراضات، ولكن الدولتين وصلتا في آخر الأمر إلى توحيد وجهات النظر، وأرسلتا في 25 يونيو سنة 1885 بمشروعهما للدول الأخرى ولتركيا للتصديق عليه.
ويلاحظ في الاتفاقية النهائية الخاصة بالقناة أن إنجلترا نفذت فكرتها فيما يختص بحرية المرور، فكان أول شيء اتفق عليه مندوبو الدول جميعا، وهو حرية المرور في القناة لسفن جميع الدول التجارية والحربية وقتي السلم والحرب، كذلك أكدت إنجلترا حقوق الحكومة المصرية في الدفاع عن القناة؛ فهي جزء من الأراضي المصرية.
أكدت إنجلترا حقوق الحكومة المصرية لما وجدت من محاولات مندوب الدولة العثمانية تسجيل حقوق العثمانيين ونفوذ السلطان العثماني.
وبالرغم من أن هذه الاتفاقية قد قررت مبدأ المساواة بين الدول وأكدته، كما أقرت عدم انفراد أية دولة بنفوذ متفوق في منطقة القناة، إلا أن إنجلترا بحكم احتلالها العسكري للبلاد ومركزها الممتاز فيها، قد أصبح لها بالفعل من الناحية العملية نفوذ متفوق في القناة.
فإصرار إنجلترا على أن يوكل أمر تنفيذ الاتفاقية إلى الحكومة المصرية قد جعل بطريقة غير مباشرة أمر تنفيذها إلى الحكومة الإنجليزية، فالباب العالي لم تكن له سلطة فعلية، فلن تلتجئ إليه الحكومة المصرية، وإذا لم تلتجئ إليه الحكومة المصرية فلن يلتجئ هو بدوره إلى الدول؛ لأن إنجلترا لن تلجئ الحكومة المصرية إلى مثل هذا الموقف أبدا.
وكذلك في حالة الدفاع عن مصر - كما سنرى من نصوص هذه الاتفاقية - استثنيت الحكومة المصرية من بعض شروط هذه الاتفاقية، فلها وحدها الحق في وضع الجيوش والسفن الحربية في منطقة القناة، ولها وحدها حق تفتيش السفن المشتبه فيها، ولما كانت الحكومة الإنجليزية تشرف بالفعل على الحكومة المصرية وعلى الجيش المصري معا، فهي التي قامت بتحديد عدد الجيش وعينت ضباطه وقواده من الإنجليز، كانت هي التي تتمتع بهذا الحق من الناحية العملية، طالما ظل نظام الاحتلال موجودا.
ومع ذلك فقد احتفظت إنجلترا لنفسها بحق انفردت به، وهو أن تنظيم موقف القناة بصفة مستديمة لا يمكن أن ينفذ بشكل يعرقل حركات الجيوش البريطانية في مصر، فإنجلترا ادعت لنفسها بحق الإشراف على أمور مصر، وهي لا تستطيع القيام بهذا الواجب إذا لم تكن لجنودها حرية التصرف.
وهذا التحفظ بقي ما بقي الاحتلال إلى سنة 1904، إلى أن عقدت إنجلترا اتفاقيتها مع فرنسا، اتفاقية لانزدون كامبون المشهورة.
أصبح لإنجلترا إذن من الناحية الفعلية نفوذ كبير في القناة، وكانت الدول المحاربة تتصل بها حين تريد إرسال سفنها الحربية للمرور من القناة؛ ولذا فلا عجب أن طلبت فرنسا في أثناء مفاوضاتها مع إنجلترا في سنة 1904 رفع هذا التحفظ وأجيبت إلى ذلك.
ولما رأت الدول أن إنجلترا تؤكد دائما بأن ليس من السهل فصل مسألة مصر عن مسألة القناة، وأنه نتيجة للاحتلال سيكون لها بالفعل مركز خاص، هذا جعل مندوبي الدول لا يوافقون على أن تنص الاتفاقية على امتيازات خاصة لإنجلترا على أساس أنها محتلة لمصر أو لها مصالح حقيقية في القناة - كما تدعي - أكثر من الدول الأخرى، كما نصوا على عدم جواز إقامة تحصينات على القناة أو بجوارها أو احتلال نقط حربية في منطقتها أو الأماكن المشرفة عليها، وكذلك سجلوا عدم جواز القيام بأية أعمال حربية أو استعدادات للحرب في منطقتها أو في المياه الإقليمية لمداخلها، وشمل هذا التحريم الباب العالي ولو أنه صاحب السيادة.
وتتكون هذه الاتفاقية التي وصلت إليها الدول من سبع عشرة مادة، وأمضيت في استامبول في 29 أكتوبر سنة 1888، وقعتها بريطانيا وألمانيا والنمسا والمجر وإسبانيا وفرنسا وهولندا وروسيا وإيطاليا وتركيا .
وهذا هو نص هذه الاتفاقية:
المادة الأولى:
تكون قناة السويس حرة دائما ومفتوحة في وقتي السلم والحرب لكل سفينة تجارية أو حربية دون تمييز لجنسيتها، وعلى هذا تتفق الدول السامية المتعاقدة على ألا تعوق حرية استخدام القناة في وقت السلم والحرب.
ولا تخضع القناة أبدا لمزاولة حق الحصار.
المادة الثانية:
ولما كانت الدول المتعاقدة تعترف بأن القناة البحرية لا تستغني أبدا عن القناة العذبة، فهي تسجل كل التزامات سمو الخديو أمام شركة قناة السويس العالمية فيما يختص بالقناة العذبة. وقد نص على هذه الالتزامات في الاتفاقية المؤرخة 18 مارس سنة 1863 ...
وتتعهد الدول المتعاقدة بعدم المساس بوجود الترعة وفروعها، ولا تعطيل قيامها بوظيفتها.
المادة الثالثة:
وتتعهد الدول المتعاقدة باحترام جميع منشآت ومباني وأشغال القناة البحرية والقناة العذبة.
المادة الرابعة:
ولما كانت القناة البحرية ستظل مفتوحة وقت الحرب كممر حر حتى لسفن المتحاربين الحربية، وفقا لنصوص مادة 1 من هذه المعاهدة، فإن الدول المتعاقدة متفقة على أنه لا يحق القيام بعمل حربي أو عمل عدائي أو أي عمل من شأنه عرقلة حرية الملاحة في القناة أو في الموانئ التي تشرف على مداخلها أو في مدى ثلاثة أميال بحرية من مداخلها؛ حتى ولو كانت الإمبراطورية العثمانية إحدى الدول المتحاربة.
ولا يجوز لسفن المتحاربين التزود في القناة ولا في موانيها إلا في حالة الضرورة القصوى، وللحد الضروري جدا، ويكون مرور هذه السفن في أقصر وقت ممكن وفقا للوائح المعمول بها.
ولا يجوز لهذه السفن أن تبقى في بورسعيد أو السويس أكثر من أربع وعشرين ساعة إلا في حالة الضرورة القصوى، وعليها أن ترحل في أول فرصة مستطاعة.
ويجب أن تمر فترة أربع وعشرين ساعة بين إبحار سفينتين متعاديتين.
المادة الخامسة:
وفي وقت الحرب، على سفن المتحاربين ألا تنزل أو تأخذ جنودا أو مواد حربية في القناة وفي موانيها.
ولكن في حالة حدوث عطل في القناة يجوز لها أن تأخذ أو تنزل فصائل جنود في موانيها لا يتجاوز كل منها ألف رجل، ومعهم ما يلزمهم من عتاد حربي .
المادة السادسة:
تخضع الغنائم لنفس القواعد التي تخضع لها سفن المتحاربين الحربية.
المادة السابعة:
لا تحتفظ الدول لنفسها بسفن حربية في مياه القناة، ومع ذلك، فيجوز أن تضع سفنا في مدخلي القناة لا يتجاوز عددها اثنتين لكل دولة، ولا يكون هذا الحق لسفن المتحاربين.
المادة الثامنة:
ويقوم معتمدو الدول الموقعة على هذه المعاهدة بمراقبة التنفيذ، ففي حالة حدوث خطر يهدد سلامة حرية المرور في القناة يجتمع هؤلاء المعتمدون بناء على طلب ثلاثة منهم، ويرأس الاجتماع عميد الهيئة السياسية، وهم الذين ينبئون الحكومة الخديوية بالخطر الذي رأوه حتى تستطيع اتخاذ التدابير لحماية القناة وحماية حرية استخدامها، وعليهم أن يجتمعوا مرة واحدة في السنة لمراقبة تنفيذ المعاهدة.
وهذه الاجتماعات الأخيرة تكون تحت رياسة مندوب خاص لهذا الغرض تعينه حكومة الإمبراطورية العثمانية، ويجوز لمندوب الخديو أن يحضر هذا الاجتماع، ويرأسه إذا تغيب المندوب العثماني.
المادة التاسعة:
وعلى الحكومة المصرية في حدود السلطات التي تخولها إياها الفرمانات، وفي الظروف التي تعينها هذه المعاهدة، أن تتخذ التدابير لتنفيذ هذه المعاهدة المذكورة.
وفي حالة ما إذا لم يكن لدى الحكومة المصرية الوسائل اللازمة، عليها أن تطلب من الحكومة العثمانية التي تتخذ الإجراءات اللازمة لإجابة ذلك الطلب، وعليها أن تحيط الدول الموقعة لإعلان لندن المؤرخ 17 مارس سنة 1885 علما وأن تعمل معهم، إذا ما استدعت الضرورة ذلك.
ولا تقف مواد 4، 5، 7، 8 في سبيل الإجراءات التي تتخذ في هذا الشأن بحكم هذه المعاهدة.
المادة العاشرة:
وكذلك لا تقف مواد 4، 5، 7، 8 في سبيل الإجراءات التي يتخذها صاحب الجلالة السلطان وسمو الخديو باسم صاحب الجلالة الإمبراطورية في حدود الفرمانات الممنوحة بواسطة قواته للدفاع عن مصر وصيانة النظام العام، وفي حالة ما إذا وجد صاحب الإمبراطورية السلطان أو صاحب العظمة الخديو ضرورة الانتفاع بالاستثناءات التي تقررها هذه المادة، على أن تنبئ الحكومة العثمانية الدول الموقعة لإعلان لندن.
وكذلك لا تقف المواد الأربع المذكورة في سبيل الإجراءات التي تتخذها الحكومة العثمانية الإمبراطورية لتدافع بواسطة قواتها عن ممتلكاتها الواقعة على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر.
المادة الحادية عشرة:
وإن الإجراءات التي تتخذ وفقا للحالات المبينة في مواد 9، 10 لهذه المعاهدة لا يجب أن تقف في سبيل حرية استخدام القناة.
ولا يجوز كذلك إنشاء تحصينات دائمة بحيث يتناقض ذلك مع نصوص مادة 8.
المادة الثانية عشرة:
وإن الدول المتعاقدة في تطبيقها لمبدأ المساواة بالنسبة لحرية استخدام القناة، ذلك المبدأ الذي هو أساس من أسس هذه المعاهدة، توافق على ألا تحاول واحدة منها أن تأخذ لنفسها بالنسبة للقناة أية امتيازات ... كذلك تحتفظ لتركيا كالدولة المالكة بكل الحقوق.
المادة الثالثة عشرة:
وباستثناء الالتزامات التي تقررها مواد هذه المعاهدة لا تمس حقوق السيادة التي يملكها صاحب الجلالة الإمبراطورية السلطان، ولا حقوق وامتيازات سمو الخديو التي تمنحه إياها الفرمانات.
المادة الرابعة عشرة:
وإن الدول المتعاهدة توافق على أن الالتزامات الناتجة من هذه المعاهدة لا تحد بمدة بقاء امتياز الشركة العالمية لقناة السويس.
المادة الخامسة عشرة:
لا تتعارض شروط هذه المعاهدة مع الإجراءات الصحية المطبقة في مصر.
المادة السادسة عشرة:
تتعهد الدول الموقعة بدعوة الدول الأخرى للموافقة على هذه المعاهدة.
المادة السابعة عشرة:
تختص بالتصديق على هذه المعاهدة.
الفصل السادس
إنجلترا والقناة (1888-1935)
لقد أمضت إنجلترا اتفاقية سنة 1888 الخاصة بالقناة كما أمضتها بقية الدول، ولكنا وجدنا أن إنجلترا تمتعت من الناحية الفعلية بحكم احتلالها العسكري وإشرافها على الحكومة المصرية بمركز ممتاز فيما يختص بقناة السويس، ثم ذلك التحفظ الذي وضعته كان معناه انفرادها بحقوق ليست للدول الأخرى.
واستمر الموقف على ذلك إلى أن وجد كل من إنجلترا وفرنسا تسوية المسائل المعلقة بينهما، فلقد كان النزاع الذي اشتد أواره بينهما في غير صالحهما، فلقد حمي النزاع بين الدولتين بخصوص مسألة مصر إلى درجة كادت الحرب أن تقع بينهما في أزمة فاشودة سنة 1898.
وجدت فرنسا أثناء هذه الأزمة العنيفة أنه لا يمكنها الاعتماد على التحالف الروسي، ولا يمكنها مناضلة إنجلترا، فلقد ثبت لدى الحكومة الفرنسية أن البحرية الإنجليزية في البحر المتوسط متفوقة تفوقا تاما على البحرية الفرنسية.
ووجدت إنجلترا أن من مصلحتها إصلاح علاقاتها بفرنسا لتأمين مركزها في مصر وقناة السويس نهائيا، فلقد كانت فرنسا وحليفتها الروسيا هما الدولتان الوحيدتان اللتان ناوأتا بكل شدة استمرار الاحتلال البريطاني في مصر وسيطرة البريطانيين على قناة السويس، والأعضاء الفرنسيون في مجلس إدارة شركة القناة هم الذين أثاروا ما استطاعوا من عقبات في وجه العمليات الحربية البريطانية في سنة 1882، وأما بقية الدول فلم تثر معارضة حقيقية؛ ولذا حاول الإنجليز تسوية علاقاتهم مع فرنسا نهائيا، إذ ما قيمة مصر وقناة السويس من الناحية الاستراتيجية، إذا استطاع الفرنسيون بمعاونة حلف خارجي قطع الطريق البحرية في الجزء الغربي للبحر الأبيض المتوسط، فهم مسيطرون على تونس والجزائر ونفوذهم كبير في مراكش.
ولو حدث ذلك واستمر مدة لتزعزع مركز إنجلترا في البحر المتوسط، ولساءت حالتها التجارية، ولذلك أصبحت إنجلترا تعتقد أن مستقبل المواصلات الإمبراطورية كلها متعلق إلى حد كبير بالشاطئ الأفريقي الشمالي، ورأت أن تطمئن إلى أن الدولة التي سيصير لها النفوذ في مراكش دولة صديقة لها، وخاصة وأن قوة ألمانيا البحرية قد أخذت تنمو بسرعة كبيرة، وهذا من شأنه حجز جانب كبير من الأسطول البريطاني في المحيط الأطلنطي وبحر الشمال.
فلو حدث واتفقت ألمانيا وحليفتها إيطاليا مع فرنسا، لكانت الكارثة على إنجلترا وعلى مركزها في البحر الأبيض المتوسط والعالم، ولقد حدث أن اتفقت فرنسا وألمانيا في سنة 1885 فتزعزع مركز إنجلترا في مصر، وأخذت تفكر في الجلاء، واضطرت إلى أن تسلم بمطالب الألمان والفرنسيين فيما يختص بالمستعمرات وراء البحار، واضطرت إلى أن تسوي المسألة المالية في مصر تسوية ترضي فرنسا، فإذا تكرر نفس الاتفاق في سنة 1898 أو سنة 1900، وكانت فرنسا تفكر جديا في الانضمام إلى المعسكر الألماني، فماذا يكون مركز إنجلترا في مصر وقناة السويس وبقية أجزاء العالم؟
فلكي تطمئن إنجلترا تماما إلى مركزها في مصر وإشرافها على قناة السويس وقواعدها في جبل طارق ومالطة، لا بد من الوصول إلى اتفاق تام مع فرنسا وتسوية كل المسائل المتنازع عليها بينهما، وخاصة مسألة مصر والقناة، وتم ذلك في الاتفاقية «لانزدون كامبون» في ربيع سنة 1904.
وبهذه الاتفاقية زالت المعارضة الحقيقية للاحتلال الإنجليزي لمصر، وضمنت إنجلترا نهائيا وإلى حين تفوق مركزها على ضفاف النيل والقناة، وبذلك لم تعد في حاجة إلى التحفظ الذي ألحقته باتفاقية سنة 1888.
فنصت الاتفاقية الجديدة في المادة السادسة على زوال ذلك التحفظ، وأعلنت الدولتان تمسكهما بحرية المرور في القناة وبشروط معاهدة سنة 1888.
وبهذه الاتفاقية بين إنجلترا وفرنسا زالت كذلك معارضة الروسيا للاحتلال الإنجليزي لمصر، وستنضم الروسيا إلى الوفاق الفرنسي الإنجليزي بعد ثلاث سنوات من هذه الاتفاقية، بقيت الدول الكبرى مثل ألمانيا والنمسا والمجر وإيطاليا، فإلي قيام الحرب الكبرى الأولى لم تكن لهذه الدول مصالح مباشرة ومهمة تدعوها إلى معارضة الاحتلال معارضة جدية أو مناقشة مركز إنجلترا الممتاز في القناة.
ولكن هناك مسألة تستوقف النظر بالنسبة للقناة، وهي محاولة ألمانيا إنشاء طريق آخر للمواصلات بين الشرق والغرب، وهو طريق ب. ب. ب. (برلين، بيزنطة، بغداد). أخذت ألمانيا تستغل مركزها الممتاز في الدولة العثمانية من بعد سنة 1900 لإنشاء سكة حديدية تخترق الأناضول والجزيرة والعراق إلى بغداد، ومنها تكمل السكة الحديدية إلى البصرة على مدخل الخليج الفارسي، وبذلك هيئ لألمانيا إمكان تحويل جانب كبير من تجارة الشرق عن طريق قناة السويس إلى الطريق الجديدة.
وأخذ الألمان في تنفيذ مشروعهم، ففي سنة 1903 استطاعت ألمانيا أن تأخذ امتياز سكة حديد بغداد، وكان الألمان يرون في ذلك الوقت أنه يمكن إلحاق الضرر الجسيم بإنجلترا في نقطة واحدة هي مصر، وإن فقدان إنجلترا لمصر ليس معناه انتهاء إشرافها على قناة السويس والطريق إلى الهند، ولكن معناه أيضا ضياع ممتلكاتها في أواسط وشرق أفريقيا، اعتبر الألمان قناة السويس شريانا حيويا من شرايين الإمبراطورية، فأي عطب يلحق به يصيب إنجلترا بخسارة جسيمة.
وعلى أي حال لم تلحظ الحكومة البريطانية ذلك الخطر الجديد من أول الأمر، بل وساهمت في تمويل المشروع الألماني، ولكنها حين تنبهت لخطر المشروع أسرعت بالسيطرة على الخليج الفارسي، وعقدت حلفا مع روسيا لتشل حركة الألمان والأتراك معا، ثم قامت الحرب العالمية الكبرى الأولى، فلم يكمل تنفيذ المشروع كما كان يبغي الألمان ، وظلت طريق قناة السويس بغير منافس، إذ إنه بعد انتهاء هذه الحرب سيطرت إنجلترا على العراق سيطرة كاملة من الناحية السياسية لمدة، ثم عقدت معه معاهدة تحالف تضمن عدم انضمامه إلى جانب أعدائها، ومع ذلك فلم تعمل إنجلترا على إحياء طريق الخليج الفارسي - العراق - البحر الأبيض؛ بحيث ينافس طريق قناة السويس.
وقبل قيام الحرب الكبرى الأولى، قامت حربان؛ الحرب الأولى بين روسيا واليابان، وكانت إنجلترا صديقة لليابان وحليفة لها، ويهمها بطبيعة الحال ألا تخرج الروسيا من هذه الحرب منتصرة، وكان على إنجلترا كما تنص اتفاقية سنة 1888 أن توافق على مرور الأسطول الروسي في القناة إلى الشرق الأقصى، وترددت الحكومة الإنجليزية في أول الأمر، ولكنها لم تحاول منعه من المرور، فمر ليلقى حتفه في المياه اليابانية.
وفي المرة الثانية كانت الحرب بين الدولة العثمانية وإيطاليا في سنة 1911، بسبب مسألة طرابلس التي كانت إيطاليا ترمي إلى الاستيلاء عليها، والتي كانت جزءا من ممتلكات الدولة العثمانية.
وطرابلس مجاورة لمصر من الناحية الغربية، ومصر من ناحية القانون الدولي لا زالت تحت السيادة العثمانية، ويحق لإيطاليا أن تهاجمها وتعتدي على قناة السويس ما دامت في حالة حرب مع الدولة العثمانية، كما هاجمت جزر الدوديكانيز التابعة للدولة العثمانية أيضا.
كان من الممكن حدوث هذا، لو لم تقف إنجلترا في مصر موقف الحياد التام بين المتحاربين، والواقع أن إنجلترا كانت قد وافقت منذ صيف سنة 1878 على ألا تثير معارضة إذا ذهب الإيطاليون إلى طرابلس، قبلت إنجلترا هذه الفكرة حين قررت احتلال قبرص، ولذلك طلبت إنجلترا من الحكومة المصرية ألا تساعد فريقا من المتحاربين على الفريق الآخر، بالرغم من أن الرأي العام المصري كان يود لو استطاع مساعدة الطرابلسيين في محنتهم الشديدة، وفعلا تم لإنجلترا ما أرادت، ولذا حين طلبت الحكومة العثمانية - بعد أن فرض الإيطاليون بالقوة الحصار البحري عليها - مرور الجنود العثمانية في مصر، لم توافق إنجلترا، وكذلك لما طلبت الحكومة العثمانية من حكومة مصر إرسال فرقة من جيشها لمساعدة الأتراك في طرابلس، احتج المعتمد البريطاني هربرت كتشنر على ذلك، وبين أنه إذا أرسلت مصر جزءا من جيشها إلى طرابلس، فستجد إنجلترا نفسها حينئذ مضطرة إلى زيادة عدد جنودها في مصر، الأمر الذي لا تقبله تركيا راضية، وذكر كتشنر الدولة العثمانية أنها كانت لا توافق أبدا على تعزيز إنجلترا لجيوشها في مصر.
وعلى ذلك مرت الحرب الطرابلسية دون أن تقوم إيطاليا باعتداء على مصر أو القناة.
وقبل قيام الحرب الطرابلسية أثارت شركة قاة السويس في سنة 1909 موضوع مد الامتياز الممنوح لشركة القناة، ورأت الحكومة البريطانية من جانبها ألا تتدخل في هذا الموضوع، ولذا حين أثيرت هذه المسألة في البرلمان الإنجليزي في نوفمبر سنة 1909 لم يرد جراي وزير الخارجية البريطانية أن يدلي برأي في الموضوع، واقتصر على أن قال: إن الأمر معروض على مصر لإبداء رأيها فيه. ولكن يظهر أن المعتمد البريطاني في مصر سير إلدن جورست كان أكثر حماسة من حكومته لمد الامتياز، فلقد اعتقد أن مد الامتياز يهم حاضر المصريين ومستقبلهم، ولكن حكومته لم تشجعه على تأييد ذلك المشروع تأييدا عمليا، وعرض المشروع على مصر في 9 فبراير سنة 1910 فرفضته.
فلم تتخذ الحكومة البريطانية موقفا معينا، بل بالعكس فإنها لم تحزن لرفض مصر له، إذ لما أثير ذلك الموضوع في مجلس العموم البريطاني، ذكر بعض النواب الإنجليز أن مستقبل القناة يهم إنجلترا كما يهم مصر، وسأل بعض النواب الآخرين عن التدابير التي اتخذتها الحكومة البريطانية لحماية مصالح البريطانيين المالية والتجارية في قناة السويس بعد أن رفضت مصر مشروع المد، أجاب لورد جراي بأن هذا أمر يتعلق بالحكومة المصرية وبشركة القناة، وأن بريطانيا لا يجب أن تؤيد المد قبل أن تستشير مصالحها الخاصة، فيجب أن تعرف أولا رأي الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة، وتعرف رأي الخزانة البريطانية ورأي وزارة التجارة.
ويظهر أن أصحاب السفن في بريطانيا لم يكونوا يهتمون كثيرا بمسألة مد الامتياز الممنوح لشركة القناة، وكذلك الحكومة البريطانية، وحين قامت الحرب الكبري الأولى، وانضمت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا والدول الوسطى الأوربية، أعلنت الحكومة البريطانية في أواخر سنة 1914 زوال السيادة التركية وقيام الحماية البريطانية، وأصبح بذلك إشرافها تاما على القناة بالرغم من أن هذا الإعلان جاء من جانب واحد لم توافق عليه بطبيعة الحال تركيا ولا أصدقاؤها، ولا مصر.
وراعت إنجلترا مصالح البريطانيين، هم وحلفاؤهم قبل كل شيء، ولم يعد لمعاهدة سنة 1888 خلال أزمة الحرب الكبرى الأولى وجود حقيقي، فلم ينفذ من قراراتها إلا ما كان في صالح الحلفاء، فلم تراع إنجلترا فيها حرية المرور، وقبضت على السفن المعادية في مياهها بحجة أن هذه السفن تنوي القيام بأعمال عدوانية في القناة أو تعمل على عرقلة حرية الملاحة فيها.
وقررت الحكومة البريطانية كذلك اتخاذ القناة خط دفاع من الناحية الشرقية، فتحولت بذلك القناة إلى منطقة عسكرية وموضع عمليات حربية، ومنع مرور السفن المعادية فيها، ووضع نظام خاص للقناة يكفل مصالح الحلفاء، قسمت القناة إلى ثلاثة أجزاء لتنظيم الدفاع عنها، وجعل مركز القوات المدافعة في الإسماعيلية، ووضعت في القناة سفن حربية بريطانية وفرنسية لتساهم في الدفاع، ووضعت شركة القناة ما لديها من سفن ومعدات وأدوات ومهندسين وعمال في خدمة الدفاع، وعاونت الحكومة المصرية بكل ما تستطيع من قوة وموارد، وقامت باتخاذ الاحتياطات لمنع أي تلف يلحق بالقناة، وقامت قوات الهجانة بحراسة شواطئ القناة.
ولقد قام الأتراك والألمان بقيادة جمال باشا بمهاجمة القناة، ونشبت بالفعل معارك بينهم وبين الإنجليز والفرنسيين انتهت بانهزام الأتراك وانسحابهم من منطقة القناة، وكان يظن أن الأتراك سيعودون إلى الهجوم على القناة، إذا خف الضغط عليهم، بعد أن فشل الحلفاء فشلا تاما في الاستيلاء على الدردنيل، على أن الأتراك لم يقوموا بذلك الهجوم، ومع ذلك ظلت القناة مركز العمليات الحربية في شرقي مصر، وظلت كذلك إلى أن عين الجنرال أللنبي في يونيو سنة 1917 وتقدم الإنجليز إلى العريش وقاموا هم بالهجوم، وطهروا شبه جزيرة سينا، فحينئذ انتهى الخطر التركي على القناة.
وحين انتهت الحرب نصت مادة 152 في معاهدة فرساي على تحويل سلطة الأتراك في حماية القناة إلى إنجلترا، وأكدت نصوص معاهدة سنة 1888، وعادت إلى السريان من جديد .
خرجت بريطانيا من هذه الحرب قوية المركز مهيبة الجانب في الشرق الأدنى جميعه، فلقد سيطرت على كل المناطق المشرفة على القناة والمحيطة بها، واعترفت بحمايتها على مصر الدول المنتصرة والدول المنهزمة على السواء، وانتدبت لفلسطين، وشرق الأردن.
وفي تصريح 28 فبراير سنة 1922 أعلنت إنجلترا من جانبها انتهاء الحماية البريطانية على مصر، واعترفت باستقلال مصر مقيدا بالتحفظات الأربعة، ويهمنا في هذا المكان التحفظ الخاص بالمواصلات البريطانية، وكانت الحكومة الإنجليزية على اختلاف ألوانها ترى أن القناة هي الحلقة المهمة في هذه المواصلات الإمبراطورية، فكأن إنجلترا في هذا التحفظ قد احتفظت لنفسها بحق حماية قناة السويس وحرية المرور فيها، والدفاع عنها، إذا قام عليها اعتداء من أية ناحية، على أنه يجب ألا ننسى هنا أن إنجلترا كانت تربط مسألة القناة دائما بمسألة مصر، ففي ذلك الوقت كانت إنجلترا تعتقد أن مصر كلها بما فيها قناة السويس حلقة في خطوط المواصلات الإمبراطورية يجب على إنجلترا حمايتها والدفاع عنها ضد كل اعتداء، ولذلك احتفظت لنفسها بحق الدفاع عن مصر.
وعلى هذا الأساس بررت إنجلترا بقاء الاحتلال في كل جهات مصر التي تراها لازمة للدفاع ولحماية المواصلات البريطانية بين الشرق والغرب.
ولذا كان تاريخ مصر السياسي من بعد سنة 1922 هو تاريخ جهاد مصر للتخلص من القيود التي فرضها تصريح 28 فبراير، الواحد تلو الآخر.
فمصر ظلت متمسكة بفكرتها ومطلبها العادل، وهو وجوب جلاء الإنجليز عن كل أراضي مصر. وإنجلترا من ناحيتها متمسكة بما تراه حقوقا لها، ومنها الحق الذي تدعيه لنفسها من ضمان حرية مرور سفنها التجارية والحربية في كل أوقات السلم والحرب لحماية مصالحها في الشرقين الأوسط والأقصى، ولم تكن على استعداد لتترك حراسة هذه الطريق التي تعتبرها حيوية لها لغيرها.
وظل تصريح 28 فبراير مدة هو الذي يحدد علاقات بريطانيا بمصر بالرغم من أن الجانب المصري لم يعترف به، وجرت مفاوضات في العهود المختلفة للوصول إلى حل للمسألة المصرية يرضي الطرفين.
وكانت أهم هذه المحادثات أو المفاوضات ما قامت بين سعد زغلول باشا ومستر رمزي مكدونالد ، فاقترح الجانب المصري فيما يختص بالموضوع الذي نبحثه أن تتنازل إنجلترا عن حماية قناة السويس لعصبة الأمم، وأعلن رئيس الوزارة البريطانية أنه لا يستطيع قبول هذه الفكرة، وأكد أهمية قناة السويس للمواصلات البريطانية الإمبراطورية، وذكر أنه لا تستطيع حكومة بريطانية إعطاء هذا الحق لغيرها حتى ولو كان حليفا لها، ويظهر أن إنجلترا وإن كانت قد اشتركت في بناء نظام عصبة الأمم إلا أنها لم تكن تؤمن تماما بقدرتها على حماية مصالحها.
وفي المفاوضات التي جرت بين سير أوستن تشمبرلن وزير الخارجية البريطانية وثروت باشا رئيس مجلس الوزراء في سنة 1927 وانتهت إلى وضع مشروع معاهدة، لم تذكر مسألة القناة كمسألة منفصلة عن المسألة المصرية، وإنما ذكرت خطوط المواصلات البريطانية كأنها تشمل الأراضي المصرية جميعا، فيذكر ذلك المشروع: «يسمح جلالة ملك مصر لجلالة ملك بريطانيا ضمانا لحماية خطوط المواصلات الإمبراطورية البريطانية، وانتظارا لعقد اتفاقية في تاريخ قريب، بأن تكون له القوات اللازمة لذلك الغرض، ووجود هذه القوات ليس معناه احتلالا ولا يمس حقوق سيادة مصر، وبعد مرور عشر سنوات ينظر الطرفان المتعاقدان في ضوء تجاربهما مسألة الأماكن التي توضع فيها هذه القوات، فإذا لم يصلا إلى اتفاق يعرض الأمر على عصبة الأمم، فإن حكم مجلس عصبة الأمم في غير صالح مصر، يعاد النظر فيه بناء على طلب الحكومة المصرية بعد انقضاء خمس سنوات من قرار العصبة.»
وفي الملحقات المتصلة بذلك المشروع تحرم الحكومة المصرية الطيران الأجنبي على منطقة القناة، ولا ينطبق هذا التحريم بطبيعة الحال على بريطانيا.
ورجع ثروت باشا إلى مصر ومعه الحد الأقصى لما تستطيع الحكومة البريطانية أن توافق عليه، فرفضت مصر ذلك المشروع.
وحين ذهب محمد محمود باشا رئيس مجلس الوزراء إلى لندن في سنة 1929 لغرض تعديل نظام الامتيازات ولقبول مصر في عصبة الأمم، قامت محادثات بينه وبين الإنجليز تطورت إلى مفاوضات، ولم يتردد رئيس الوزارة المصرية في انتهاز هذه الفرصة لوضع أساس لتسوية بين إنجلترا ومصر، وبدأت المناقشة بينه وبين وزير الخارجية البريطانية في ذلك الوقت مستر آرثر هندرسون في المسائل الحربية التي فشل من أجلها مشروع سنة 1927.
ووضع لذلك نص يختص بمنطقة القناة وهو: «يسمح صاحب الجلالة ملك مصر لصاحب الجلالة ملك بريطانيا تسهيلا وضمانا لحماية خطوط مواصلات الإمبراطورية البريطانية بأن يضع في المنطقة شرقي التل الكبير القوات اللازمة لهذا الغرض.» وهذا تقدم على مادة 7 من مشروع ثروت باشا أوستن تشمبرلن نوفمبر 1927، فلقد ترك ذلك المشروع لبريطانيا حق وضع قواتها في القاهرة أو الإسكندرية أو أي مكان تختاره، وذلك في السنوات العشر الأولى التالية لتنفيذ المعاهدة، وبعد مرور العشر سنوات يثار موضوع تحديد أمكنة القوات البريطانية ويعرض الأمر على عصبة الأمم إذا لم يستطع الطرفان الوصول إلى اتفاق.
ولذا ففكرة هندرسون - في مشروع معاهدة هندرسون-محمد محمود باشا - هي تحديد أمكنة القوات البريطانية بمنطقة قريبة من القناة، وبعيدة في نفس الوقت عن القاهرة والإسكندرية؛ أي بعيدة عن أنظار الشعب المصري، وبذلك انتهت الفكرة القديمة التي تمسكت بها بريطانيا مدة بأن مصر كلها حلقة في سلسلة المواصلات البريطانية إلى الهند والشرق الأقصى.
وأكدت الفكرة الجديدة التي تقول بأن الغرض من بقاء القوات البريطانية في مصر إنما هو حماية قناة السويس، كما حددت أماكن هذه القوات لا كما تختار الحكومة البريطانية، ولكن في أماكن خاصة تتفق عليها الدولتان.
ولذلك نص في مشروع هذه المعاهدة على ما يأتي: «لضمان حماية قناة السويس كوسيلة أساسية للمواصلات بين أجزاء الإمبراطورية البريطانية، يسمح جلالة ملك مصر لجلالة ملك إنجلترا بأن يضع في الأراضي المصرية في جهات اتفق عليها إلى شرقي خط 32 شرقا القوات التي يراها جلالة ملك بريطانيا لازمة لهذا الغرض، ووجود هذه القوات لا يعني احتلالا ولا يمس حقوق مصر في السيادة.»
ففي هذا المشروع - مشروع 13 أغسطس سنة 1929 - أكدت إنجلترا رسميا أهمية قناة السويس لمواصلاتها الإمبراطورية، وأعطت لنفسها حق الدفاع عنها، ولذا قررت أن تعسكر جنودها في منطقتها، ولقد أعلن مستر هندرسون في خطاب له في البرلمان الإنجليزي في 23 ديسمبر 1929 أن هذه المفاوضات هي امتداد لمفاوضات سنة 1927، واشترط مستر هندرسون أن يعرض ذلك المشروع على الشعب المصري، ووافق محمد محمود باشا على ذلك.
ثم جاءت وزارة الوفد إلى الحكم في أول يناير سنة 1930، لتستمر في المفاوضات مع وزارة العمال، ووصل النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء، ومعه وزير خارجيته واصف غالي باشا إلى لندن في 26 مارس سنة 1930 في جو صفاء وود بين الحكومتين المصرية والبريطانية، وبدأت المفاوضات في 31 مارس.
وتناقش الطرفان طويلا في مسألة الدفاع عن قناة السويس، واقترح الجانب المصري وضع كل القوات البريطانية على الحافة الشرقية للقناة في بور فؤاد أو القنطرة، ولم يقبل المفاوضون الإنجليز وعلى رأسهم هندرسون ذلك الاقتراح.
ثم وافق الجانب المصري على تركيز القوات الإنجليزية بقرب الإسماعيلية، وتقصير أجل بقائها هناك من خمسة وعشرين عاما إلى عشرين عاما، ولقد استمرت المفاوضات إلى 5 مايو، وكاد يصل الطرفان إلى مشروع اتفاق ومعه ملحقات، ولكن هذا المشروع فشل نهائيا بسبب الاختلاف على مسألة السودان.
اشترط مشروع هذه الاتفاقية إنشاء تحالف بين الطرفين تأكيدا لصداقتهما وتفاهمهما الودي وعلاقتهما الطيبة، وفيما يختص بموضوع القناة نصت المادة التاسعة من هذا المشروع على ما يلي: نظرا لأن قناة السويس التي هي جزء لا يتجزأ من مصر، هي طريق عالمية، ووسيلة مهمة للمواصلات بين الأجزاء المختلفة للإمبراطورية البريطانية، فإلي الوقت الذي يتفق فيه الطرفان المتعاقدان على أن الجيش المصري أصبح في مركز يستطيع فيه بموارده حماية حرية وسلامة الملاحة في القناة، فإن جلالة ملك مصر يسمح لجلالة ملك بريطانيا بأن يضع قريبا من الإسماعيلية في المنطقة المحددة بالمذكرة الملحقة قوات لا يزيد عددها عن العدد المتفق عليه، وهدفها هو التعاون مع القوات المصرية في حماية القناة، ولنفس الغرض ينقل مركز القوات الجوية الملكية البريطانية من أبو قير إلى بور فؤاد، ووجود هذه القوات لا يعني احتلالا ولا يمس حقوق مصر في السيادة.
ومن المفهوم أنه في نهاية مدة العشرين سنة المبينة في مادة 14، إذا حدث خلاف بين الطرفين المتعاقدين على مسألة عدم لزوم بقاء القوات البريطانية؛ لأن الجيش المصري أصبح في حالة تمكنه بموارده من حماية حرية الملاحة في القناة، فيعرض هذا الخلاف على عصبة الأمم.
ومع ذلك فبعد انتهاء عشر سنوات من تنفيذ المعاهدة يصح أن تبدأ بموافقتهما المفاوضات لإجراء أي تعديل في المعاهدة.
يلاحظ في هذا المشروع أن إنجلترا اعترفت لأول مرة رسميا بأن القناة جزء لا يتجزأ من مصر، واعترفت بأنها طريق عالمية، وأنها وسيلة مهمة للمواصلات البريطانية بين أجزاء الإمبراطورية، كما اعترفت بأن الجيش المصري له الحق الأول في الدفاع عن القناة، ولكن نظرا لحالته الراهنة فتتعاون معه القوات الريطانية، وحددت أماكنها في الإسماعيلية، وهذا بلا شك تقدم على مشروع سنة 1928 من هذه الناحية.
ولقد انقطعت المفاوضات بين وزارة العمال ووزارة الوفد في 5 مايو، وظلت العلاقة بين الدولتين علاقة الضعيف بالقوي، وكانت الحكومة البريطانية مستعدة لأن تعيد الكرة في استعمال القوة كلما تحدى المصريون السياسة البريطانية، وكان وجود جيش الاحتلال رمزا لاستذلال المصريين وقمعهم، فكانت العلاقات بين الفريقين بصفة عامة علاقة عداء والجو بينهما مسموما.
استخدمت بريطانيا القوة في مارس سنة 1919 لقمع الثورة، ولجأت إلى استخدام القوة والتهديد عقب مقتل السير لي ستاك في 1924، فأرسلت إلى مصر بقوات برية وبحرية جديدة وفرضت شروطا عنيفة، وفي 30 مايو سنة 1927 أرسلت من مالطة إلى مصر ثلاث بوارج حربية لتأييد رأي إنجلترا في مسائل خاصة بتنظيم الجيش المصري، وبعد ذلك بسنة تقريبا ضغطت إنجلترا على حكومة القاهرة، وجاءت خمس سفن حربية بريطانية في 30 أبريل سنة 1928 لتأييد الإنذار النهائي للحكومة البريطانية، ولما قامت بعض الاضطرابات في يوليه سنة 1930 أرسلت إنجلترا سفنا حربية إلى الإسكندرية وبورسعيد والسويس، ثم جاءت سنة 1935 وأذن الله لذلك الجو أن يتغير.
الفصل السابع
موقف إنجلترا إزاء القناة من بعد 1935
تغير الجو السياسي الذي اعتادته إنجلترا طوال الخمسة عشر عاما التي تلت الحرب الكبرى الأولى.
فالظروف الدولية لم تعد مواتية لإنجلترا كما كانت في القديم، وهددت إنجلترا في قوتها البحرية وفي مركزها في البحر الأبيض المتوسط، فظهرت قوة إيطاليا الموسولينية جارفة، وأيدتها ألمانيا الهتلرية، وقبعت الروسيا في دورها تنظم شئونها الداخلية وتنتظر الفرصة لتنال من الرأسمالية الأوربية.
وأخذت النظم الدولية التي كانت إنجلترا قد ركنت إليها بعض الشيء في الانهيار، فعصبة الأمم لم يعد لها احترام كبير بعد أن نفضت الولايات المتحدة الأمريكية يديها منها ومن الأمور الأوربية، ونمت قوة اليابان في شرقي آسيا، وهددت تفوق إنجلترا ونفوذها في الصين وفي جنوب شرقي آسيا، وأصبحت الهند في ثورة دائمة على الحكم البريطاني مطالبة بالاستقلال، ونادت الشعوب المهضومة بحقها في تقرير مصيرها وثابرت في كفاحها، فانتهى عهد التهديد باستخدام القوة بالنسبة لإنجلترا، ووجدت أن مصلحتها تقتضي النظر إلى مصالح الشعوب بجانب الاهتمام بالمصالح الإنجليزية، وكانت إنجلترا قبل ذلك تنظر إلى مصالحها وحدها وتضعها فوق كل اعتبار.
وأهم العوامل التي كان لها الأثر الأكبر في توجيه سياسة إنجلترا نحو مصر موقف إيطاليا الفاشستية من أثيوبيا، فتبينت كل من إنجلترا ومصر ضرورة الوصول إلى تسوية الأمور المتنازع عليها بينهما ووضع علاقتهما على أساس جديد.
أما من حيث مصر فلقد تركت الأزمة الحبشية فيها أثرا بليغا، فلقد كانت ميول مصر وعواطفها إلى جانب الأحباش الذين كانوا يناضلون عن حريتهم، وكان على مصر أن تقرر موقفها في هذا النزاع المحتوم بين جارتيها، فإيطاليا جارة لمصر من الناحية الغربية، والحبشة جارتها من ناحية السودان، والطريق التي تصل بين الجارتين تمر في أراضي مصر، وهي قناة السويس.
وجدت مصر نفسها في مركز محفوف بالخطر، من ناحية حدودها الغربية ومن ناحية الحدود الجنوبية الشرقية، وزاد الموقف ارتباكا أن موقف مصر بالنسبة لبريطانيا كان غير واضح وغير محدود.
فالموقف الدولي الجديد، والخطر المحدق بحدود مصر، بعث موضوع العلاقات المصرية البريطانية من جديد، وازداد الخطر على مصر وعلى مركز بريطانيا في الشرق الأدنى، بعد تفكير عصبة الأمم في فرض عقوبات على إيطاليا.
ولم تقف إيطاليا جامدة، ولم تقتصر مساعيها على تنمية نفوذها وقوتها في أثيوبيا، بل طلبت أن يعمل لمركزها في البحر الأبيض ومصر وقناة السويس حساب آخر، فلقد عزرت حامياتها في ليبيا، ووصل الأسطول الإيطالي في القوة إلى مركز مساو للأسطول البريطاني في البحر الأبيض المتوسط، إذ وصلت حمولته إلى 35٪ من مجموع حمولة الأسطول البريطاني كله، وكان الأسطول الإيطالي أحدث في نشأته، تعزره قوة جوية تجعل مركز الأسطول البريطاني وقواعده في مالطة والإسكندرية والقناة في خطر شديد، إذا قامت حرب بين بريطانيا، وكانت هذه الحرب محتملة الوقوع، لا سيما وأن إنجلترا لم تكن واثقة تماما من تأييد فرنسا البحري لها إذا تحرجت الأمور بينها وبين إيطاليا، وتخشى في نفس الوقت أن تنتهز اليابان هذه الفرصة لتسطو على ممتلكات إنجلترا في الشرق الأقصى، وتقضي على ما لإنجلترا من نفوذ في هذا الجزء من العالم.
ولقد كان اتجاه الرأي العام المصري مساعدا للحكومة المصرية في مسايرتها لسياسة إنجلترا بإزاء إيطاليا، فلقد كانت مصر الدولة الوحيدة خارج عصبة الأمم التي عملت على تنفيذ العقوبات التي فرضتها عصبة الأمم على إيطاليا، وكان احتجاج إيطاليا الشديد على تنفيذ مصر لهذه العقوبات، من العوامل التي عادت فأشعرت مصر بالخطر الإيطالي الداهم، لا سيما وأنه اقترح في بعض الأوساط السياسية أن يكون ضمن العقوبات إغلاق السويس في وجه السفن والمعدات الإيطالية.
وكان الإيطاليون مستعدين لاعتداء جديد إذا تحدت دولة مركزهم الجديد في شرق إفريقية، ورأى المصريون أنه أفضل لهم أن يصلوا إلى اتفاق مع إنجلترا، هذا خير لهم من الوقوع فريسة لغزو إيطالي محتمل الوقوع.
وشعرت إنجلترا من ناحيتها، بالرغم من وجود قوات الاحتلال، بضعف مركزها في مصر، فمركزها كان قائما على القوة والتهديد باستخدام القوة، هذا في الوقت الذي كانت فيه إنجلترا - برلمانها وصحفها، وحكومتها في الظاهر - تعيب على إيطاليا الالتجاء إلى القوة كوسيلة لفض منازعاتها مع الشعوب الأخرى ولقمع حرياتها.
وكانت الدعاية الإيطالية ضد إنجلترا قائمة على قدم وساق تحض مصر على التقرب من إيطاليا، وتندد بسياسة إنجلترا الإمبراطورية في مصر، وتطالب بنصيب في إدارة شركة قناة السويس، وظنت إيطاليا أن مطلبها الأخير ليس فيه إساءة للمصريين وإنما فيه كيد لفرنسا التي كان لها نصيب الأسد في إدارة القناة، فكانت إيطاليا تخشى دائما أن تغلق القناة في وجه سفنها وفي طريق مواصلاتها الإمبراطورية، وكما طالبت إيطاليا بنصيب في إدارة القناة طالبت بتخفيض الرسوم التي تفرضها الشركة على حركة المرور في القناة.
فالأزمة البريطانية الإيطالية في خريف سنة 1935 وجدت إنجلترا لا تزال لها الحرية المطلقة في استخدام الموانئ والأراضي المصرية بما فيها القناة بحريا وبريا وجويا، ولقد أثار تركيز القوات البريطانية في مصر لدى المصريين الفكرة القائلة بأن إنجلترا قد حولت مصر إلى معسكر معاد لإيطاليا، وهذا من شأنه أن يبرر اعتداء الدول المعادية للإنجليز على مصر.
ولذا فالأزمة الإيطالية الحبشية أثارت مسألة إعادة النظر في العلاقات المصرية البريطانية التي ظلت متوترة منذ صيف سنة 1882، ووجدت إنجلترا نفسها مضطرة إلى تعزيز قواتها في مصر لمقابلة الخطر الإيطالي.
ولكن الشعب المصري لم يكن يرضى عن ذلك الموقف الجديد، فالسكوت على ذلك قد يؤدي إلى سابقة خطيرة يستند عليها الإنجليز في المستقبل، وقد يؤدي في نفس الوقت إلى اعتداء إيطاليا على مصر، ثم فيه ما فيه من استهتار الإنجليز بالشعور الوطني في البلاد، لا سيما بعد أن أعلن مستر رنسيمان في خطاب انتخابي له في 18 أكتوبر سنة 1935 أن إنجلترا قد جعلت قاعدتها البحرية المهمة في الإسكندرية بدلا من مالطة.
ظهرت الحاجة في مصر لتوضيح علاقة البلاد بإنجلترا، ظهر في الخطب التي ألقاها زعماء الأحزاب المختلفة في البلاد أن مركز إنجلترا في مصر سيجلب على مصر ضررا وبيلا، دون أن تستفيد منه البلاد أقل فائدة، وطالب الرأي العام بتكوين جبهة متحدة، واضطرت إنجلترا في الواقع أن تبين سياستها نحو مصر، وفي خطابين ألقاهما سير سميول هور في 9 نوفمبر، و5 ديسمبر سنة 1935 أعلن فيهما أن إنجلترا لم تسع إلى استغلال الموقف الحاضر لخدمة مصالحها على حساب المصالح المصرية، وأن بريطانيا تعطف على الأماني المصرية.
ولكن الخطابين لم يجدا قبولا في مصر لموقف الحكومة الإنجليزية بإزاء دستور سنة 1923 بأنه غير مناسب، ولإعلان سميول هور بأن الوقت لم يحن بعد للمفاوضات الفعلية لتحديد علاقة إنجلترا بمصر.
فثارت في مصر احتجاجات عنيفة؛ لأن معنى التصريح البريطاني أولا : أن إنجلترا لا زالت مصرة على التدخل في الأمور الداخلية للبلاد، وثانيا: أن مسألة حيوية لمصر، هي مسألة حياة أو موت لها تضعها إنجلترا في المرتبة الثانية بعد العلاقات الإيطالية الإنجليزية، وتذكر المصريون رفض إنجلترا لمناقشة المسألة المصرية مع وفد مصر في سنة 1919.
ولكن في سنة 1919 كان مركز إنجلترا أقوى بكثير من مركزها في سنة 1935، فلقد خرجت إنجلترا من الحرب العالمية الأولى منتصرة تعنو لها الوجوه، بينما في سنة 1935 كانت إنجلترا مهددة بحرب لا تعرف منتهاها.
وعلى أي حال، دعا موقف إنجلترا هذا إلى تآلف الجهود في مصر وتكوين جبهة متحدة، عند ذلك، بينت إنجلترا أنها لا تمانع في رجوع دستور سنة 1923، وعاد الدستور، وجاءت حكومة الوفد. وكانت الحكومة المصرية الجديدة تريد أن تقيد بريطانيا بما وصل إليه اتفاق سنة 1930، وخاصة الاتفاق على المسائل الحربية، وأن تتركز المفاوضات الجديدة في المسائل التي اختلفت عليها، وهي مسألة السودان.
ولكن مستر إيدن وزير الخارجية البريطانية الجديد عندما وافق على فتح باب المفاوضات، صمم على أن تنظر المسائل الحربية من جديد، هذه المسائل التي كان قد اتفق عليها، فجاء هذا التصميم من الجانب الإنجليزي صدمة جديدة لمصر، ولقد برر الإنجليز ذلك الموقف على أساس أن مشروع سنة 1930 لم تصبح له قوة المعاهدة، وأن الموقف الاستراتيجي العالمي في سنة 1936 قد تغير كثيرا عن الموقف في سنة 1930، فالإيطاليون يهددون ليبيا والقناة، وعززت قواتهم في غربي مصر في ليبيا، وعلى جانب حدود مصر والسودان من ناحية الحبشة، وهذا الموقف الجديد لم يكن يتكهن به الساسة الإنجليز أو المصريون في سنة 1930.
ولكن الصدمة الكبرى كانت عندما قدم سير مايلز لامبسون المعتمد البريطاني في مصر موافقة مستر إيدن على فتح باب المفاوضات، إذ بين المعتمد البريطاني بأنه إذا فشلت المفاوضات هذه المرة، فإن بريطانيا ستعيد النظر في موقفها بإزاء مصر، فكان هذا تهديدا صريحا لمصر، وكان المصريون يؤملون قبل وصول ذلك التهديد بأنه إذا فرض ولم تصل المفاوضات إلى نتيجة، فتعود الحالة في مصر إلى ما كانت عليه قبل الدخول في المفاوضات.
وعلى أي حال وافق الطرفان على بدء المفاوضات، وضمت إنجلترا إلى جانب معتمدها في مصر الفنيين من كبار رجال الحرب والبحرية والطيران، وتكون الجانب المصري من زعماء مصر جميعا.
وبدأت المفاوضات في جو من التشاؤم، ولكنها نجحت، والفضل في ذلك يرجع إلى موسوليني بطريقة غير مباشرة، فلقد زادت مطامع إيطاليا، وزادت مطالبها في البحر الأبيض المتوسط، فأثارت مخاوف المصريين والإنجليز معا.
وعندما افتتحت المفاوضات بدئ بالأمور الحربية وهي التي تهمنا في هذه الدراسة لاتصالها بمسألة قناة السويس، واصطدمت آراء الفريقين، ولم يستطيعا الاتفاق في أول الأمر، ورأى سير مايلز أن يسافر إلى لندن ليتصل بحكومته، وأنقذت هذه الزيارة الموقف حينذاك، ولقد بينت صحيفة «التيمز» في 10 يونيو - بتلخيص: أن السبب في تعثر المفاوضات هو غلو الهيئات العسكرية البريطانية في طلباتها، وأوضحت سخف الفكرة التي تقول بضرورة تنفيذ مطالب إنجلترا كاملة، مائة في المائة، ضد عواطف وشعور شعب ناهض اعترفت إنجلترا ذاتها باستقلاله منذ أربعة عشر عاما، وأن أية معاهدة أريد نجاحها فيجب أن تعمل هذه المعاهدة على احترام شعور المصريين القومي، ويجب أن تقوم حرية التفاوض لا على قوة الإملاء، وإنما على الثقة المتبادلة بين الجانبين، فلا تكون عن طريق إرغام الجانب الآخر المفاوض على التنازل عن حقوقه، وأن على الحكومة البريطانية ألا تصغي لآراء العسكريين فحسب، ولكنها تشاورهم وتراعي في نفس الوقت أهمية المسائل السياسية بجانب الاعتبارات الحربية.
ولقد أيد هذا المقال وجهة نظر سير مايلز في لندن، وحين عاد بدأت المفاوضات من جديد، وفي 22 يوليه وصل الفريقان إلى اتفاق على المسائل العسكرية.
ويرى الكتاب الإنجليز أن سبب غلو الهيئات العسكرية البريطانية في مطالبها هو تغير وسائل الحرب ومداها، فقاعدة مالطة أصبحت محاطة بقوات إيطاليا في صقلية وليبيا، وكذلك ضؤل مركز قاعدة عدن بجانب إفريقية الشرقية الإيطالية، فكان أن احتج العسكريون الإنجليز على قصر مركز القوات التي كانت مشرفة على كل مصر، على قناة السويس فقط.
فكان إذن على الجانبين المتفاوضين - كما وجدا - الاحتفاظ بقوات الإنجليز في مصر في جهة غير ظاهرة؛ حتى لا يقف وجودها في سبيل نمو علاقات طيبة بين مصر وإنجلترا، واتفق على أن يزاد عدد هذه القوات قليلا عن مشروع سنة 1930، وكان الخبراء العسكريون الإنجليز يريدون أن يزيد عددها كثيرا. كذلك ووفق على أن تقصر هذه القوات في وقت السلم على قناة السويس فقط، وجعلت مدة بقائها في القناة عشرين عاما من وقت تنفيذ المعاهدة.
وعند انتهاء هذه المدة تستطيع الحكومة المصرية أن تطلب إعادة النظر في أمر بقاء القوات الإنجليزية في القناة.
ونظير المسائل الثلاث السابقة، وافق الجانب المصري على ثلاث مسائل، وهي أن يكون جو مصر كلها مباحا للقوات البريطانية الجوية، ويسمح للبحرية البريطانية باستخدام ميناء الإسكندرية لمدة ثماني سنوات من إمضاء المعاهدة، والمسألة الثالثة: السماح للجيش البريطاني في وقت الحرب باستخدام كل أراضي مصر ومياهها ومطاراتها، وسهلت للقوات البريطانية كل وسائل التنقل بين أجزاء مصر، وذلك بأن أخذت الحكومة المصرية على عاتقها إنشاء وإصلاح طرق وسكك حديدية معينة، كذلك أعطيت الحكومة البريطانية الحق في إرسال بعثات من الضباط الإنجليز «في ثياب مدنية» إلى الصحراء الغربية لمسائل تكتيكية.
ولقد وضح مستر إيدن في حديث له في مجلس العموم البريطاني 24 نوفمبر سنة 1936 السبب الذي دعا حكومة إنجلترا إلى التنازل عن احتلال القاهرة والإسكندرية والاقتصار على منطقة قناة السويس، هو أن قوات إنجلترا أصبحت ميكانيكية، وبعد إنشاء الطرق المعبدة والسكك الحديدية التي تنص عليها المعاهدة، تستطيع الفرق الإنجليزية الانتقال خلال مصر بسرعة عظيمة وقت الخطر، ثم من ناحية ثانية سمح لقوات إنجلترا الجوية بالطيران في جو مصر جميعه، وقت الحاجة، وأعطيت لقوات مصر الجوية نفس الحقوق في بريطانيا.
ولقد ظنت إنجلترا أن رحيل الجنود الإنجليز من القاهرة والإسكندرية بعد مرور ثماني سنوات إلى منطقة القناة فيه إرضاء لشعور المصريين الذين كانوا يسوءهم دائما أن يروا القوات البريطانية معسكرة في عاصمتهم وفي أكبر ميناء لهم، وخيل لبعض الكتاب الإنجليز أن وجود قوات أجنبية في بلاد دولة أخرى لا يحمل معه فكرة عدم وجود المساواة بين الفريقين، لا سيما بعد اتفاق الطرفين على ذلك.
وهذا هو نص الجزء الخاص بقناة السويس من هذه المعاهدة:
مادة 8: بما أن قناة السويس التي هي جزء لا يتجزأ من مصر، هي طريق عالمية للمواصلات، ووسيلة للمواصلات أساسية بين الأجزاء المختلفة للإمبراطورية البريطانية، فإنه إلى حين الوقت الذي يتفق فيه الطرفان المتعاقدان الساميان على أن الجيش المصري أصبح في موقف يستطيع فيه بموارده حماية القناة، وحرية الملاحة فيها، يخول صاحب الجلالة ملك مصر لصاحب الجلالة ملك إنجلترا وضع قواته في الأراضي المصرية في منطقة القناة، في المنطقة التي يحددها الملحق لهذه المعاهدة، وذلك لضمان التعاون مع القوات المصرية في الدفاع عن القناة، ووجود هذه القوات لا يكون له معنى الاحتلال ولا المساس بحقوق السيادة في مصر.
ومن المفهوم أنه في نهاية العشرين سنة المذكورة في مادة 16 إذا لم يتفق الطرفان المتعاقدان الساميان على أن وجود القوات البريطانية أصبح غير ضروري، نظرا لأن الجيش المصري أصبح قادرا بموارده على حماية القناة وسلامة الملاحة فيها، فإن هذا النزاع يعرض على مجلس عصبة الأمم ليحكم فيه على أساس مواد ميثاق العصبة المعمول به في ذلك الوقت الذي أمضيت فيه هذه المعاهدة، أو على شخص أو هيئة ليحكم فيه بالطريق التي يرتضيها الطرفان المتعاقدان الساميان.
وملحق مادة 8 حدد عدد القوات البريطانية المسلحة البرية بعشرة آلاف جندي، والجوية بأربعمائة. وهذه الأعداد لا يدخل فيها المدنيون والكتاب والصناع والعمال.
وحددت الأماكن التي توضع فيها القوات البرية والجوية وما يلزمها من ثكنات وتسهيلات الإقامة، وتقوم الحكومة المصرية بإنشاء الثكنات وتسهيلات الإقامة على حسابها الخاص، كما تقوم بإنشاء وصيانة الطرق من الإسماعيلية إلى الإسكندرية، ومن الإسماعيلية إلى القاهرة، ومن بورسعيد إلى الإسماعيلية إلى السويس، ومن البحيرة المرة إلى طريق السويس القاهرة، ووضعت مقايسات خاصة لهذه الطرق وشروط لتعبيدها، كما وافقت الحكومة على تسهيل النقل بالسكة الحديدية لمقابلة الظروف الجديدة وحاجات جيش حديث، كما وافقت على عمل تسهيلات في بورسعيد والسويس للمواد والعتاد الحربي اللازم للقوات البريطانية.
وأما المادة 16 فتنص على ما يأتي: «وفي أي وقت بعد انتهاء عشرين سنة على تنفيذ هذه المعاهدة، يدخل الطرفان الساميان المتعاقدان، بناء على طلب أحدهما، في مفاوضات لإعادة النظر في شروط الاتفاق، وفي حالة عدم استطاعتهما الوصول إلى اتفاق، يعرض الخلاف على مجلس عصبة الأمم للقرار فيه، طبقا لأحكام الميثاق الموجودة وقت إمضاء هذه المعاهدة أو إلى شخص أو هيئة يرتضيها الطرفان، ومن المفهوم أن أي تعديل لهذه المعاهدة يجب أن ينص على استمرار التحالف بين الطرفين الساميين المتعاقدين.
ويجوز للطرفين بالاتفاق بينهما، الدخول في مفاوضات عقب انتهاء عشر سنوات من هذه المعاهدة للنظر في تعديلها.»
وأمضيت المعاهدة في 26 أغسطس 1936 في دار وزارة الخارجية بلندن.
أمضى هذه المعاهدة من الجانب المصري: مصطفى النحاس باشا، أحمد ماهر باشا، محمد محمود باشا، إسماعيل صدقي باشا، عبد الفتاح يحيى باشا، واصف غالي باشا، عثمان محرم باشا، النقراشي باشا، حمدي سيف النصر باشا، حلمي عيسى باشا، حافظ عفيفي باشا.
ومن الجانب الإنجليزي أنتوني إيدن، رمزي مكدونالد، جون سيمون، هاليفاكس، ميلز لامبسون.
وقبل إمضاء هذه المعاهدة، كانت إيطاليا قد طالبت بمطالب في القناة، سبق أن ذكرت، وهي: أن تمثل إيطاليا في شركة القناة، وأن تخفض الرسوم، وأن تؤكد دولية القناة، ولقد دخلت إنجلترا وإيطاليا في مفاوضات لتسوية المسائل المعلقة بينهما والخاصة بالقناة، ووصل الفريقان إلى اتفاق في أبريل سنة 1938، سجل فيه احترام الطرفين لمعاهدة سنة 1888، واعترفت الحكومة المصرية بهذه الاتفاقية بين الدولتين؛ لأن هذه الاتفاقية تقوي مركز الدولة المصرية في القناة.
وحين قامت الحرب الكبرى العالمية الثانية، اصطلت قناة السويس بنارها، فبالرغم من أن البحر الأبيض المتوسط قد أغلق إلى حد كبير أمام الملاحة بين الشرق والغرب، وخاصة بعد استيلاء الألمان على بلاد اليونان وكريت وإمطارهم مالطة نارا حامية، إلا أن القناة رأت جانبا لا يستهان به من نشاط الألمان وحلفائهم، فهاجمها الألمان بطائراتهم، وحاولوا إتلافها وتعطيل الملاحة فيها، ولكنها لم تتعرض لغزو بري أو بحري كما تعرضت أجزاء مصر الغربية.
وعلى العموم فلقد انتهزت مصر هذه الفرصة لإثبات حقوقها عمليا في القناة، فقامت بحماية القناة، والدفاع عنها من الناحية الجوية، ولكن إنجلترا استفادت استفادة تامة هي وحلفاؤها بطبيعة الحال من معاهدة سنة 1936، وخاصة بعد أن اعتدي جويا على القناة، فأغلقت القناة أمام سفن الأعداء، وحين سقطت باريس في يد الألمان أشرف الإنجليز على إدارة القناة. •••
وبعد انتهاء الحرب وجدت الحكومة المصرية أن المعاهدة استنفذت أغراضها، وأنها أصبحت حجر عثرة في سبيل السلام العالمي، فميثاق الأمم المتحدة فيه ضمان لحقوق الشعوب المحبة للسلام، وإن وجود القوات البريطانية في منطقة القناة أصبح لا مبرر له، فمصر هي التي دافعت عن القناة من الناحية الجوية إبان حرب سنة 1939، وكذلك أخذ الجيش المصري في النمو والقوة والتسلح، وقطع في سبيل ذلك شوطا بعيدا، وإن وجود قوات أجنبية في بلاد دولة صديقة بغير رضاها أصبح لا يتفق أبدا والمواثيق التي أعلنها الحلفاء في أكثر من موقف.
لقد اعترفت الحكومة البريطانية نفسها بضرورة تحديد العلاقات بين الدولتين من جديد وفقا للظروف العالمية التي جدت بعد الحرب، وخاصة بعد أن اعترفت الحكومة البريطانية نفسها بأن مصر أبلت في هذه الحرب ضد أعداء إنجلترا بلاء حسنا، إذ تعرضت أراضيها للغزو ووضعت جميع مرافقها ومواصلاتها وموانيها لخدمة الحلفاء.
قبلت الحكومة البريطانية بالفعل مبدأ الجلاء عن مصر وقناة السويس، على أساس وضع العلاقات بين البلدين على أساس مطمئن للجانبين في وقت السلم وحين نشوب الحرب أو التهديد بها، وظهرت فكرة الدفاع المشترك.
وفي مشروع صدقي باشا ومستر أرنست بيفن وافقت بريطانيا على أن يتم الجلاء عن القاهرة والإسكندرية في سنة 1947، وعن قناة السويس في سنة 1949، ولقد قسمت الحكومة البريطانية مشروع الاتفاق إلى أجزاء: الجزء الأول خاص بمعاهدة جديدة، والثاني خاص بالجلاء، والثالث بالسودان، ونبه مستر بيفن إلى أنه يصح التصديق على الجزأين الأولين في حالة حدوث خلاف على الجزء الثالث، وعندئذ يترك هذا الجزء للوصول إلى تسوية له فيما بعد عن طريق المفاوضات أيضا، ولكن العقبة الكأداء في نجاح المشروع لم تكن مسألة السودان فحسب ، بل أيضا مسألة الدفاع المشترك أو التعاون المتبادل.
لقد وجدت مصر في ذلك الدفاع المشترك بالشكل الذي رسمته بريطانيا ارتباطا لا تجني منه مصر سوى الغرم، ويقيدها بقيود تضيق من حريتها، لقد بنت مصر آمالا كبيرة على وزارة العمال، وظنت أن بلاءها في الحرب العالمية الماضية، وما تفوه به ساسة إنجلترا وزعماؤها إبان الحرب من ضرورة احترام حقوق الشعوب في الحياة والكرامة والاستقلال، وما نعوه على الألمان من احتلال لبلاد الشعوب التي لا تدانيهم في القوة، كل هذا أوجد عند كثير من المصريين بعض الأمل في انتهاء عهد القوة والإرهاب والتهديد، وبزوغ فجر عهد جديد فيه تحترم حقوق الشعوب ومطالبها العادلة، وخاصة بعد إنشاء نظام هيئة الأمم المتحدة ووضع ميثاق له يتفق وكرامة الأمم.
ولكن هذه الآمال لم تعمر طويلا بعد الحرب، فلقد أظهرت وزارة العمال، بالرغم من أنها اعترفت بتضحيات مصر الجسيمة وبلائها خلال الحرب الماضية، وبالرغم من أنها وافقت على فتح باب المفاوضات للنظر في تعديل المعاهدة، وبالرغم من أنها أعلنت أنها لا تتمسك باستعمارية القرن التاسع عشر، إلا أنها لم تنحرف عن سياسة إنجلترا الخارجية التقليدية في القرن العشرين فيما يختص بالشرق الأدنى وقناة السويس والبحر المتوسط، وإن كانت تجارب الحرب الماضية قد أثبتت بشكل لا يقبل الشك أن قيمة قناة السويس كحلقة مهمة في المواصلات بين الشرق والغرب، وخاصة بين بريطانيا وإمبراطوريتها الشرقية، تكاد تنعدم إذا كانت الدولة التي تسيطر على وسط البحر المتوسط، في إيطاليا أو تونس، دولة معادية لإنجلترا، لا سيما بعد التطور الهائل الذي شمل وسائل الحرب وخططها، وبعد أن أصبحت القوة البحرية أساسية في الحرب لا تقل أهمية عن القوة البرية أو الجوية، فأهمية قناة السويس قائمة على أن البحر المتوسط مفتوح للمواصلات العالمية، فإذا استطاعت دولة أو دول تطل على البحر المتوسط معادية لإنجلترا إغلاقه، تضاءلت قيمة قناة السويس، وتضاءلت الحركة خلالها، ومع ذلك فأية قوة جوية معادية من قاعدة قريبة تستطيع تعطيل حركة المرور في القناة وعرقلة الملاحة فيها.
فهمت حكومة العمال في أول الأمر هذه الحقيقة، فهي إذن لم تتمسك ببقاء جنود الاحتلال في قناة السويس، ولم يكن هناك من داع جوهري بعد أن تضاءلت المصالح والإمبراطورية الإنجليزية الشرقية باستقلال الهند والباكستان ودخولهما ضمن نظام الكومنولث، ولكن أرنست بيفن أراد نظير ذلك أن يربط مصر بتحالف أو تعاون مشترك في وقتي السلم والحرب يخدم سياسة إنجلترا العامة في الشرق الأدنى أو الأوسط - كما أصبح يطلق عليه - فينص مشروع صدقي باشا- مستر بيفن في المادة 2 على: أن الطرفين المتعاقدين الساميين متفقان على أنه في حالة اعتداء مسلح على مصر أو في حالة دخول المملكة المتحدة في حرب نتيجة لاعتداء مسلح على بلاد جارة - ملاصقة - لمصر، يتخذان متعاونين ومتشاورين الإجراءات التي يريانها لازمة إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير الضرورية لإعادة السلام. وتنص مادة 3 على أنه: لضمان التعاون المتبادل والمساعدة بين الطرفين المتعاقدين الساميين، ولإيجاد التنسيق في الإجراءات التي تتخذ للدفاع المتبادل، يتفق الطرفان المتعاقدان على إنشاء لجنة للدفاع مشتركة تتكون من الهيئات الحربية للدولتين يساعدها من ترى الدولتان تعيينه، واللجنة استشارية، وظيفتها ... دراسة مشاكل الدفاع المتبادل للطرفين ... في البر والبحر والجو، وخاصة ما يستلزمه ذلك التعاون والخطوات اللازمة لقوى الطرفين ... المسلحة لمقاومة الاعتداء بنجاح.
فكأن إنجلترا في هذا المشروع استعاضت عن احتلال قناة السويس والدفاع عنها برأي جديد هو التعاون المشترك، وهذا - بلا ريب - تطور في وجهة النظر الإنجليزية، وإن كانت هذه الفكرة الجديدة لم تستمر طويلا، إذ - كما سنجد - عادت بريطانيا في سنة 1950 فأعلنت أن سياستها هي تأكيد روابط التحالف بينها وبين مصر كدولتين متساويتين لهما مصالح مشتركة ... وأن حكومة المملكة المتحدة تقترح على ذلك سحب كل قواتها البحرية والجوية من الأراضي المصرية، وأن تسوى بالمفاوضات مراحل وتاريخ ذلك الجلاء والتنظيمات التي من شأنها تسهيل التعاون بين الدولتين في حالة الحرب أو التهديد بالحرب.
فكأن الحكومة البريطانية - كما قال رئيس الحكومة المصرية في ليك سكسس - قد جعلت الجلاء عن مصر مشروطا، وقدمت على هذا الأساس مشروعا لمعاهدة تحالف ومشروعا لمعاهدة حربية يشتملان تقريبا على الشروط الحربية البغيضة التي كانت تنطوي عليها معاهدة سنة 1936، وتبع هذا اقتراحات من كل من الجانبين، إلى أن سافر صدقي باشا إلى لندن ليتصل بمستر بيفن وزير الخارجية البريطانية، ووصل الطرفان إلى مشروع لاتفاق، ظهر فيه فيما بعد اختلاف وجهات النظر، وذلك بعد أن رجع صدقي باشا إلى مصر.
ولم يستطع الطرفان - المصري والإنجليزي كما نص خطاب رئيس الحكومة المصرية - الوصول إلى نتيجة حاسمة فيما اختلفا عليه؛ ولذا لم يبق أمام مصر إلا أن تتقدم لمجلس الأمن، تؤكد قيمة القناة الاستراتيجية وأهميتها للملاحة الدولية، ولم يكن الرأي العام المصري بمستعد أن يقبل هذا الرأي أو أن يستبدل بالدفاع المشترك كما أرادته إنجلترا الجلاء عن القناة.
فهذا كان من أسباب فشل مشروع صدقي-بيفن، وفشل المفاوضات التي تلته، بل وقطعها، فأعلن رئيس الحكومة النقراشي باشا في أواخر يناير سنة 1947 أن معاهدة سنة 1936 غير قائمة، وأعلن مستر بيفن من جانبه في مجلس العموم تمسكه بأحكام معاهدة سنة 1936، واشتدت الأزمة من جديد، وأصبح لا معدى لمصر من التقدم إلى مجلس الأمن، وهو الهيئة الدولية القائمة المعترف بها.
لذلك لم تجد الحكومة المصرية بدا من أن تتقدم في 8 نوفمبر سنة 1947 بشكوى إلى مجلس الأمن، معلنة أن وجود قوات أجنبية في وقت السلم في مصر التي اشتركت في هيئة الأمم المتحدة، وبغير رضا المصريين، فيه استهتار بوجودها كدولة مستقلة، وفيه اعتداء على كرامتها، وجرح لشعورها، وتناقض صريح مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة وقرارها الذي صدر في 14 ديسمبر سنة 1946، بل إن وجود الجنود الإنجليز في القناة ومنطقتها يحمل في طياته خطرا كبيرا على السلام العالمي، ويتعارض مع نمو مصر كدولة مستقلة، ووجود هؤلاء المحتلين لم يجعل المفاوضات حرة في الماضي، ولن يجعلها حرة في المستقبل، وأعلنت الحكومة المصرية أن معاهدة سنة 1936 لم تعد تربط مصر، لتعارضها مع ميثاق أعم وأوسع هو ميثاق هيئة الأمم المتحدة؛ ولذلك تطالب مصر بالجلاء التام للقوات البريطانية عن مصر وعن السودان أيضا.
وذهب النقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية إذ ذاك إلى ليك سكسس، وفي خطاب طويل وصف العلاقات المصرية الإنجليزية من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أعلن ثقته التامة في عدالة ميثاق هيئة الأمم والمبادئ التي تضمنها ميثاق الأطلنطي، أبان أن مسألة النزاع بين مصر وبريطانيا لم تعد مسألة محلية تمس دولتين فحسب، بل هي مسألة ذات خطر كبير تمس السلام في كل الشرق الأوسط، وأن مصر قد تريثت وطال تريثها، انتظرت إلى انتهاء الحرب العالمية الأخيرة لتناقش بريطانيا في أمر علاقاتهما، والرأي العام المصري مجمع على جلاء الإنجليز عن كل المناطق التي يحتلونها، ولهذا لم تجد الحكومة المصرية بدا من أن تتقدم بمطالب الشعب المصري إلى الحكومة الإنجليزية مبينة أن معاهدة سنة 1936 قد عقدت في ظروف دولية خاصة تختلف تماما عن الظروف الحاضرة، وأن موادها وضعت لمعالجة مسائل خاصة مؤقتة، ولكن إنجلترا أصرت في أول الأمر على بقاء قواعدها الحربية في مصر، ولكنها عادت تطلب إنصافها بأن يحكم هذا المجلس بجلاء الإنجليز مباشرة عن مصر؛ عن قناة السويس والسودان بغير شروط، فمعاهدة سنة 1936 لم تقم في جو من الحرية يكفل للجانب المصري حقوقه، فلقد عقدت وجنود الاحتلال قائمون في مصر، عقدت تحت التهديد، بأنه إذا لم تسفر المفاوضات عن نتيجة فستتخذ إنجلترا لنفسها موقفا جديدا.
وبعد ذلك، فهذه المعاهدة متعارضة مع المعاهدة الدولية التي عقدت في سنة 1888 الخاصة بقناة السويس، والتي نصت على أن القناة مفتوحة لكل السفن وقتي السلم والحرب، وأن الدفاع عنها موكول للحكومة المصرية، فبريطانيا قد نقضت هذه المعاهدة الدولية، إذ أعطت لنفسها في معاهدة 1936 من الناحية الفعلية حماية القناة.
وبعد ذلك، فمعاهدة 1936 متناقضة مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة، فهي تنص على تحالف أبدي، في الوقت الذي ليست فيه لبريطانيا حدود مع مصر ولا روابط مشتركة، فكل ما تريده بريطانيا هو أن تربط مصر بعجلة الاستعمار البريطاني، وهذا في ذاته يخالف كل المخالفة مبدأ المساواة الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة، فالميثاق قد نص على احترام مبدأ المساواة في حقوق السيادة لكل الشعوب المشتركة في هيئة الأمم؛ ولذا فلن تستطيع مصر أبدا قبول وجود قوات أجنبية في بلادها بغير رضاها، وخاصة في وقت يسود فيه السلم، وإن مصر التي قبلت الدخول في نظام فيه التعاون الجماعي لمستعدة لتحمل نصيبها من المسئولية.
كانت هذه حجج الجانب المصري، وأما الجانب البريطاني الذي كان يمثله في مجلس الأمن سير ألكسندر كادوجان، فلقد ذكر أن المعاهدة موجودة ولم تنته بعد، ولذا فقوات إنجلترا باقية في قناة السويس.
وأن الحكومة البريطانية قد وافقت في مشروع صدقي باشا-بيفن على أن يتم الجلاء عن مصر وقناة السويس في أول سبتمبر سنة 1949، وأن الإنجليز قد نفذوا ما وعدوا به إذ انسحبوا من القاهرة والإسكندرية في 31 مارس سنة 1947، ولكن المشروع الذي ووفق عليه في أول أكتوبر سنة 1946 رفضته مصر، ولو أن مصر وافقت على بروتوكول الجلاء ومعاهدة التعاون المتبادل لتم جلاء القوات الإنجليزية في الموعد المضروب، ولكن المشروع كله رفض لعدم الاتفاق على مسألة السودان، ولذا فالبنسبة لمسألة الجلاء عن القناة ليس لمصر قضية تقدمها لمجلس الأمن.
وأضاف سير ألكسندر كادوجان بأنه لما رفضت مصر ذلك المشروع ظلت معاهدة سنة 1936 باقية، وتبقى إلى سنة 1956، وشرع مندوب إنجلترا يدلي بوجهة نظر الحكومة الإنجليزية بأن معاهدة سنة 1936 معاهدة قانونية.
ثم أخذ بعد ذلك يدلل على أن وجود القوات البريطانية في القناة لا يتنافى وميثاق هيئة الأمم المتحدة، فطالما وجود هذه القوات قد نصت عليه المعاهدة، هذا يجعله غير متناقض مع الميثاق، ثم عرج على مسألة الرضا والاختيار في إمضاء المعاهدة، وذكر أنه منذ سنة 1922 ومصر ترفض بالفعل مشاريع معاهدات مع إنجلترا، فهل كان ممثلو مصر في سنة 1936 - كما يقول - أقل حرية من النحاس باشا في 1930 أو ثروت باشا في 1927 أو محمد محمود باشا في 1929؟ ثم ذكر أن هذه المعاهدة عرضت على البرلمان المصري ووافق عليها بأغلبية 203 إلى 11 صوتا، واستشهد ببعض تصريحات لرجال السياسة المصريين في ذلك الوقت مؤيدة لهذه المعاهدة، واستمر يعدد فيما رآه محاسن لهذه المعاهدة.
وذكر سير ألكسندر كادوجان أن وجود القوات الإنجليزية في القناة بمعاهدة لا ينقص من حقوق مصر في السيادة، دلل على ذلك بضرب أمثلة لمعاهدات من هذا النوع، تنص على وضع قوات أجنبية في بلاد دولة محالفة؛ ففي اتفاقية 1941 - كما يقول - تتمتع الولايات المتحدة بوضع قوات في جملة قواعد على أرض بريطانيا ... والاتحاد السوفييتي بمعاهدة أغسطس 1945 مع الصين أصبح له الحق في استخدام ثغر بورت آرثر لقواته الحربية والبحرية والجوية لمدة ثلاثين عاما ...
وقال في آخر خطابه أنه لا يهم بعد ما ذكر أن يرضى الشعب المصري الآن أو لا يرضى عن وجود الإنجليز في القناة.
وصرح الجانب المصري عن دهشته لهذه النغمة المتكررة التي تبرر استعمارية القرن التاسع عشر، والتي ظن أنها انتهت نهائيا بالقضاء على الفاشية والنازية، أخذ الجانب المصري يردد مساوئ الاحتلال البريطاني في مصر مستعرضا تاريخ الحكم الإنجليزي في وادي النيل منذ سنة 1882، وذكر مجلس الأمن بأن مسألة معاهدة سنة 1936 ليست مسألة قانونية فحسب، «فمهمتكم - يخاطب أعضاء مجلس الأمن - ليست الحكم في حقوق الطرفين المتخاصمين القانونية، إن مهمتكم الأولى هي المحافظة على السلام والأمن، هي إيجاد الظروف التي تنمو فيها العلاقات الودية والسلمية بين الشعوب ... وكثيرا ما أدت المعاهدات الفاسدة إلى اضطراب السلام.»
ثم استعرض الجانب المصري معاهدة سنة 1936 نصا نصا، وبين أن قيمة أي تحالف ليس في الشروط التي تكتب أو النصوص التي تسطر، وإنما في روح الصداقة الذي يربط بين الشعوب ... فهو بلا شك خير وأبقى.
قارع الجانب المصري بريطانيا الحجة، ووضح وجهة نظره في مسألة السودان، وأبان أن نظام عصبة الأمم الذي نصت المعاهدة على الاحتكام إليه في حالة الاختلاف قد زال من الوجود، وأن مصر قد لجأت الآن إلى الهيئة الدولية الموجودة، وهي هيئة الأمم المتحدة، ترجو الإنصاف وتحقيق مطالبها.
ولكن احتكام مصر إلى مجلس الأمن لم يؤد إلى نتيجة في تحقيق المطالب المصرية والجلاء عن قناة السويس والسودان، على أن مصر بالرغم من ذلك أسمعت العالم أجمع شكواها، وأفصحت حكومتها رسميا على مشهد من جميع الدول عن رأيها في العلاقات المصرية الإنجليزية. •••
وظلت الأزمة السياسية بين مصر وإنجلترا مستحكمة، تتقدم خطوة وتتأخر خطوات، وفي الوقت الذي كانت فيه مصر تزداد إيمانا بقضيتها، وبعدالة حقوقها، استمر الإنجليز مشرفين على القناة محتلين لها لا يتزحزحون عنها، ثم شغلت مصر فترة من الوقت بالدفاع عن فلسطين وحقوق العرب؛ حتى إذا وقعت الهدنة، عادت مسألة تحديد العلاقات المصرية الإنجليزية إلى الظهور مرة ثانية تستلزم حلا حاسما.
فعادت الحكومة المصرية إلى الاتصال من جديد بالحكومة الإنجليزية، وأرادت وزارة الوفد منذ توليها في أول سنة 1950 العمل على تصفية الجو بينها وبين بريطانيا وفي الشرق الأوسط، وتقدمت إلى الحكومة البريطانية مبينة أن مطالبها هي «جلاء القوات البريطانية جلاء ناجزا، وصيانة وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري»، وعلى أساس تحقيق هذين المطلبين تستطيع مصر تأدية واجبها في سبيل السلام العالمي.
وفي أوائل صيف سنة 1950 رحب مستر أرنست بيفن بفتح باب المفاوضات، واقترح أن يجرى أولا بين رئيس أركان حرب الإمبراطورية فيلد مارشال سير وليام سليم وبين الحكومة المصرية بحث صريح رسمي للنواحي العسكرية للمسألة التي تواجهنا في الشرق الأوسط، وأضاف إلى أن ثمة نواحي أخرى لهذه المسألة غير النواحي العسكرية، ورأى أن تسير هذه المباحثات بأقل ما يمكن من العلانية.
وأسرعت الحكومة المصرية إلى إجابة الحكومة البريطانية إلى رأيها على أساس الموافقة على مبدأي جلاء القوات البريطانية، ووحدة مصر والسودان، كما بينت رغبتها في الاتصال بالسفير البريطاني الجديد لدى وصوله.
وجاء المارشال سليم إلى مصر، وكان الوقت صيفا 5 يونيو 1950، واتصل بولاة الأمور في مصر، وبين لهم في جلاء أولا: أنه لا يمكن فصل المسألة السياسية عن العسكرية، وأكد وجود الخطر الروسي الداهم وأنه لا يمكن لدولة واحدة مقاومته، وأن الحل الوحيد هو تكتل الدول ذات المصلحة في مقاومته من الوجهتين العسكرية والصناعية، والتنازل عن بعض سيادتها وتقاليدها الماضية، وقد تنازلت إنجلترا نفسها وغيرها عن بعض السيادة وقبلت وجود قوات أجنبية في بلادها. وتركت الولايات المتحدة سياسة العزلة القديمة، واشتركت اشتراكا فعليا في الدفاع عن العالم الغربي.
وأضاف المارشال سليم بأنه إذا نشبت الحرب فستكون مصر موضعا من مواضع اهتمام السوفييت ... هي والشرق الأوسط ... وقد تقولون: إن وجود القوات البريطانية في مصر يجتذب الروس إليها لطردهم منها، ولكن ما يبتغون هو مصر، فأنتم بلد ذات ثروة وموارد وكل من يريد أن يملك الشرق الأوسط يجب أن يملك مصر، فمصر مفتاح الشرق الأوسط، ومضى قائلا:
ولا يتسنى لمصر أن تقف بمنجاة ببقائها على الحياد؛ إذ لا تستطيع الحياد إلا إحدى دولتين؛ إما قوية وليست مصر هذه الدولة، أو صغيرة لا مطمع فيها ...
وإذا لم تستطع مصر الحياد، ففي نظره ليس أمامها إلا الدفاع، والدفاع يستلزم حلفاء، وبريطانيا هي الحليف، والدفاع يستلزم الحرب، والحرب تستلزم الإسراع بالإعداد لها، ثم انتقل المارشال سليم إلى هدف بريطانيا الحقيقي وهو: «إننا نريد الوصول إلى اتفاق عسكري معكم وسيكون اتفاقا دفاعيا محضا.» وذكر أن بريطانيا لا تريد في هذا التحالف أن تقف موقف «المعلم» بل موقف «الشريك»، وأنه يتطلع إلى نظام للدفاع يظهر بجلاء أن وجود الجيوش البريطانية في قناة السويس ليس له معنى الاحتلال بأية حال، ولكنه يرمي إلى الدفاع لمواجهة الموقف الدولي، وأن السلطات العسكرية المصرية تستطيع أن تجد نظاما لمصلحة بلدينا المشتركة.
ووجد رئيس الوزارة المصرية رفعة النحاس باشا أن يبين عن رأي الحكومة المصرية، فيقول بأن الشعب المصري «لا يمكن أبدا أن يركن لوعود جديدة أو يقبل نظريات مستحدثة ترمي في النهاية إلى بقاء قوات أجنبية في مصر تحت أي اسم أو بأية صفة.» «... ولقد وقفت إلى جانبكم ووجهت الشعب إلى أن يبذل لكم معاونة مادية ومعنوية في الحرب الأخيرة، ولم أفعل ذلك طبقا لمعاهدة 1936 فحسب، وإنما فعلته إيمانا بقضية الحرية ... ولا أستطيع قطع الصلة بين الماضي والحاضر، فإن الماضي ماثل أمامنا لا يمكن تجاهله أو نسيانه، ويتلخص في الاحتلال الطويل والوعود التي لم تتحقق، إن ثقة الشعب المصري قد ضعفت في وعودكم ونظرياتكم، وكذلك الدول الكبرى المسيطرة على العالم، لماذا نقف إلى جانبكم ونعرض أنفسنا للقتل، وأراضينا للخراب، ونفقد مواردنا ومرافقنا إذا لم نكن نعرف يقينا أن مطالبنا ستحقق في هذه المرة الثالثة ...» «يجب أن نبحث عن طريقة أخرى في تعاون من نوع جديد يحقق الجلاء عن قناة السويس ويكفل المصالح المشتركة، وأحب أن تعرف أنه ليس في العالم قوة تستطيع إقناع الشعب المصري بأن مصر ستكون مقصودة لذاتها بالهجوم أو بالاعتداء، فإنما يسبب ذلك وجود جيش أجنبي في بلادنا هو الذي يوجه إليه العدوان الروسي. وطالب رئيس الحكومة بمعاونة إنجلترا مخلصة في تسليح الجيش المصري، فالجيش المصري سيتمتع بروح معنوية عالية كلما شعر باستقلاله، إن جلاءكم عن أرض الوطن سيزيد من قوة هذه الروح ويجعل الجيش يتفانى في خدمة قضية السلام المشترك.»
وختم كلامه بهذه العبارة: «لماذا تبقون قواتكم في القناة وليس في فلسطين أو غزة، مع أن هذه القوات الثقيلة منها والخفيفة يمكن أن تصل إلينا في مدى أسبوع، وتكون عندنا وقت الحرب؟»
وعندئذ دافع المارشال سليم عن الفكرة التي تقول بأن وجود الجيوش لا يحمل معنى الاحتلال، وإنما هو نظام دفاع مشترك فحسب قائم على المساواة، وأنه لا يستطيع أن يوصي حكومته بالجلاء التام عن القناة، وأن إنجلترا تتقدم في أفكارها بشأن الدفاع؛ ولذا فهي لا تقبل الآن ما قبلته في مشروع صدقي-بيفن من الجلاء التام عن الأراضي المصرية وقناة السويس.
ولذلك اضطر رفعة النحاس باشا أن يدلي للجانب الإنجليزي في 6 يونيو 1950 ببيان شامل عن مطالب مصر، وعن أهمية الجلاء عن قناة السويس، فهو كما قال: (أ)
حق مصر الطبيعي ... (ب)
وعود بريطانيا بالجلاء قد جاوزت الستين وعدا كان آخرها ما قبلته الحكومة البريطانية في مشروع بيفن-صدقي ... ولا يصح الادعاء بتغير الظروف عما كانت عليه في سنة 1946، فالظروف الدولية لم تتغير منذ انتهاء الحرب، فإن توقع الخطر الروسي قائم منذ ذلك الحين. (ج)
أحكام الميثاق وقرارات هيئة الأمم المتحدة. (د)
تقدم الفنون العسكرية والأسلحة يجعل الاحتفاظ بهذا العدد المحدود في منطقة القنال عديم الجدوى من الناحية العسكرية. (ه )
من الميسور أن تستبدل مصر قوات مصرية أكثر عددا بهذا العدد المحدود، مصر تستطيع سد هذا الفراغ بقواتها الوطنية. (و)
ومن مصلحة إنجلترا كسب ثقة الشعب المصري. (ز)
بأن القول بأن حالة التهديد بالحرب في الوقت الحاضر يبرر الاحتفاظ بقوات بريطانية في قناة السويس معناه تأييد الاحتلال؛ لأن هذا الخطر لا يرجى له زوال، وسيكون من الميسور دائما التعلل بوجود خطر الحرب. (ح)
أن الدول المجاورة لروسيا نفسها مثل تركيا وإيران والمعرضة لخطر الغزو المباشر لا توجد فيها قوات احتلال أجنبية.
وتملك بريطانيا كثيرا من القواعد الجوية والاستراتيجية في البلاد المحيطة بمصر، مثل مالطة وقبرص وبرقة والأردن، التي يسهل إرسال القوات منها إلى مصر زمن الحرب.
وأما المقارنة بين مصر والمملكة المتحدة - كما يقول بيان رئيس الوزارء - بالنسبة لوجود قوات أجنبية في بريطانيا فالجواب: (1) أن لا نزاع في أن وجود تلك القوات لا ينطوي على أي مساس بالسيادة البريطانية نظرا لأن الدولتين على قدم المساواة. (2) هذا الموقف طارئ ومؤقت، أما في مصر فيعتبر امتدادا لاحتلال ظل ستين عاما. (3) لو أن إنجلترا طالبت أمريكا بإجلاء قواتها عن أراضيها لفعلت ذلك فورا. (4) تباين نظرة كل من الشعبين المصري والبريطاني إلى وجود تلك القوات الأجنبية في أراضيه ...
وترى مصر أن الأمر ينبغي أن يعالج على الوجه الآتي: (أ)
جلاء القوات البريطانية عن مصر «قناة السويس» جلاء ناجزا. (ب)
لما كانت مصر شديدة العناية بتقوية جيشها وتزويده بأحدث الأسلحة والعتاد، وإتمام التجهيزات المدنية والعسكرية اللازمة، ووسائل المواصلات، كل ذلك يقتضي أن تبادر بريطانيا ببذل معونتها لإجابة مطالب مصر في هذا السبيل. (ج)
عند قيام حالة تهدد الأمن في الشرق الأوسط فإن الحكومتين تتبادلان الرأي فيما يتصل بالموقف. (د)
إذا وقع اعتداء مسلح على مصر أو إذا دخلت بريطانيا الحرب كنتيجة لوقوع اعتداء مسلح على إحدى الدول المتاخمة لمصر، فإن مصر تتعاون عسكريا في داخل حدودها وفي نطاق إمكانيتها مع بريطانيا العظمى للدفاع عن مصر، وتفصيلات هذا التعاون يجري الاتفاق عليها فيما بعد.
وفي مثل هذه الأحوال إذا تبين أنه من الضروري استقدام قوات بريطانية إلى الأراضي المصرية، فإنها سوف تلقي جميع التسهيلات اللازمة لاستقبالها، والتي يمكن الاتفاق عليها مقدما، ومن المقرر أنه بمجرد انتهاء العمليات الحربية فإن القوات البريطانية تغادر الأراضي المصرية.
وأن الحكومة المصرية مستعدة لبحث أي مقترحات من الجانب البريطاني طالما أن أساسها الجلاء الناجز عن الأراضي المصرية.
ولكن ذلك البيان الذي حاول فيه رئيس الوزارة المصرية التوفيق بين وجهتي نظر مصر وإنجلترا لم يلق القبول عند المارشال سليم الذي أصر على ضرورة وجود القوات البريطانية وقت السلم؛ لأن دول الدومنيون لا تقبل إرسال قوات لمساعدة مصر إذا لم تكن قوات بريطانيا في مصر في القناة بالفعل.
وبعد شهر تقريبا، في يوليو من نفس هذه السنة، حاول السفير البريطاني نفس المحاولة مع وزير الخارجية المصرية، فبين أن ليس من مصلحة مصر إزالة المنشآت والقوات البريطانية من قناة السويس، ثم محاولة إعادتها بعد ذلك على أساس جديد فهذا ليس عمليا، وقال: «إن من الضروري على أية حال - للدفاع - وجود قاعدة عسكرية لتكون في حالة تسمح باستخدامها في وقت قصير، وأن يكون بها فنيون وموظفون إداريون، وأغلب القوات في منطقة قناة السويس الآن من الفنيين.»
وردد وزير الخارجية المصرية بيان رئيس الحكومة السابق ذكره، فبين أن مصر مصممة على الدفاع عن نفسها، وهي توافق على عقد محالفة دفاعية مع بريطانيا بشرط الجلاء الناجز الكامل، وأن تكون هذه المعاهدة معاهدة الند للند على قدم المساواة، وأجاب على استشهاد الجانب الإنجليزي في مقابلات أخرى بمسألة كوريا الجنوبية واكتساح الشيوعيين لها، الأمر الذي ما كان يحدث لو أنه كان بكوريا الجنوبية قوات أمريكية من قبل، فأجاب وزير الخارجية بأن البون شاسع بين المسألتين، فمثلا روسيا ليست ملاصقة لمصر، ورجا من الفيلد مارشال سليم الذي أثار هذه الفكرة ألا ينظر إلى الموقف على ضوء الحقائق العسكرية البحتة وحدها، وأن ينظر إلى الحالة النفسية للشعب المصري أيضا، فمصر المتحررة من قوات الاحتلال تكون حليفا أقوى وأخلص.
ولكن الجانب البريطاني أصر على ضرورة توفر قاعدة تكون معدة لاستقبال جميع النجدات في الحال وإقامتها، وهذه القاعدة هي قناة السويس.
وبين في أغسطس سنة 1950 بأنه لا يمكن إنشاء هذه القاعدة في غزة إلا إذا عقد صلح بين مصر وإسرائيل، ثم إن غزة بعد ذلك ليست مكانا صالحا فليس فيه مواصلات أو موانئ أو قوة عاملة؛ فإذن لا بد من بقاء القاعدة الحالية في القناة؛ لأن مصر لا تستطيع من وجهة النظر الفنية أن تقوم بصيانة القاعدة دون مساعدتنا، ولا بد من بقاء الدفاع المشترك.
والسبب الأساسي في تمسك بريطانيا بوجهة نظرها هذه، كما يقول السفير البريطاني في 24 أغسطس 1950: «هو موقع مصر الجغرافي، وامتلاكها لقناة السويس، وهي حلقة مواصلات حيوية تهتم بها جميع الدول البحرية ... ونحن لا نطلب منكم أن تسلمونا منطقة القنال، ولكنا نطلب أن نشترك معكم في الدفاع عن منطقة القنال، وأهم جزء في الدفاع هنا هو الدفاع الجوي، ويجب على مصر أن توافق على أن يكون لها دفاع جوي مشترك إذ إنها لا تستطيع أن تدافع عن منطقة القناة بمفردها.»
وهذا التمسك من الجانب البريطاني دعا وزير الخارجية المصرية صلاح الدين باشا إلى القول - في مقابلة 14 أغسطس مع السفير البريطاني: «إن مصر تعتبر بحق أن وجود قوات لكم في أرضها، مهما كانت صفتها، مخل بسيادتها، فلها كل الحق في أن ترفض هذا الاحتلال ... مهما تكن أهمية قناة السويس الاستراتيجية بالنسبة لكم ... على أن قناة السويس لم تعد لها هذه الأهمية السابقة من الوجهة العسكرية، ودليل ذلك أن أكثر حركة النقل إلى الشرق الأقصى كانت في أثناء الحرب العالمية الأخيرة تمر من رأس الرجاء الصالح، فضلا عن إمكان تعطيل الملاحة في القنال وقتا طويلا إذا ألقيت عليه قنبلة من القنابل الذرية؛ ومن هذا يمكن أن يقال: إن مصر نفسها هي مطلبكم الحقيقي لا قنال السويس.»
وفي مقابلة 24 أغسطس 1950، ردد السفير البريطاني مرة أخرى وجهة النظر الإنجليزية، فقال: «ليست بريطانيا أو مصر حرة التصرف، فكلانا يواجه مستقبلا نقاتل فيه من أجل حياتنا ، ولا يمكننا أن نؤمل في الحياة منعزلين، إن مصر تواجه الآن حيرة شديدة، فهي تريد من جهة أن تدافع عن نفسها، وأن تحقق من جهة أخرى مطالبها القومية، وهذان الغرضان لا يمكن بلوغهما في آن واحد، ويجب على الحكومة المصرية أن تقبل هذه الحقيقة القاسية، وهي أن الجلاء الكامل الناجز عن قناة السويس لا يتفق مع الدفاع عن البلاد، ويجب أن نجد وسيلة للتوفيق بين مطالب الدفاع العاجلة وبين كرامة مصر القومية ...»
ولكن وزير الخارجية المصرية لم يقتنع بهذه الفكرة، ولم يزد إلا استمساكا بوجهة النظر التي عبرت عنها الحكومة المصرية.
وحين زار وزير الخارجية المصرية مستر بيفن في لندن، لم يجد إلا نفس الرأي السابق، فيقول مستر بيفن في 4 ديسمبر 1950: إنه يشعر بأنها تكون مسئولية بالغة الخطر إذا تركت معاهدة 1936 دون إعداد تدبير فعال ليحل محلها ... وأن العبارة المصرية المعادة عن الجلاء ووحدة مصر والسودان لا تنهض أساسا عمليا يمكن البناء عليه. وأشار إلى الموقف الدولي الذي يهدد بالخطر، وأنه لا داعي للإشارة إلى مناقشات 1946 بين مصر وإنجلترا.
ولم يقدم السفير البريطاني مقترحات فعلية من حكومته إلا في يوم 11 أبريل 1951، وذلك لحل مسألة الدفاع، موضحا في نفس الوقت السخط الحقيقي الذي أثاره في بريطانيا استمرار القيود على ناقلات البترول التي تمر بقناة السويس.
ونص هذه المقترحات هو: إن حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة على استعداد لأن تستأنف المفاوضات لتعديل معاهدة التحالف المعقودة سنة 1936.
تعلم حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة بالصعوبات الكبيرة التي تواجه الحكومة المصرية في هذه المسألة، على أنها لا تستطيع بالنظر إلى التزاماتها نحو حلفائها الآخرين في شمال الأطلنطي وفي الشرق الأوسط أن تقبل تبعة اتخاذ أية تدبيرات تضر بمقدرتها على المساهمة في الدفاع عن هذه المنطقة بنجاح ضد أي معتد، ومثل هذا الدفاع لن يكون ممكنا إلا إذا استمرت القاعدة المصرية في المستقبل في أداء وظيفتها بحيث تكون معدة فورا وقت الحرب، وإلا إذا كان الدفاع الجوي عن مصر مكفولا.
فلهذه الظروف تقترح حكومة المملكة المتحدة أن تعدل معاهدة التحالف المعقودة في سنة 1936 بحيث تنص على ما يأتي: (أ)
انسحاب الجنود البريطانيين من مصر - قناة السويس - على مراحل، ويبدأ هذا الانسحاب بعد انقضاء سنة على اتفاق بتعديل المعاهدة وينتهي في 1956. (ب)
تحويل القاعدة إلى المدنيين تدريجيا، ويقترح أن يتم ذلك لغاية سنة 1956، بإحلال الموظفين المدنيين الضروريين محل الموظفين العسكريين المنسحبين، ويعهد بالقاعدة بعد ذلك إلى القوات المسلحة المصرية للمحافظة عليها، على أن تدار وفقا للسياسة العسكرية البريطانية تحت الإشراف الإداري العام لمجلس إشراف إنجليزي-مصري. (ج)
إنشاء نظام إنجليزي-مصري طويل الأجل للدفاع الجوي. (د)
تختص بتعهد بريطانيا بإمداد الجيش المصري بالأسلحة. (ه)
وفي حالة الحرب أو خطر الحرب الداهم أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها، توافق مصر على عودة القوات البريطانية لمدة الخطر، وعلى أن تمنحها والقوات الحليفة لبريطانيا جميع التسهيلات والمساعدات بما في ذلك استعمال الموانئ والمطارات ووسائل المواصلات المصرية.
وأضاف السفير البريطاني أن إنجلترا لا تستطيع أن تقبل إقرار الرأي القائل بأن مسألة السودان لا يمكن فصلها عن مسألة الدفاع.
ولكن الحكومة المصرية لم تقف عند الرفض، فوضعت اقتراحات من ناحيتها قدمتها للسفير البريطاني في 24 أبريل 1951 تحدد نهائيا وجهة نظرها في حل الموقف، ويبدأ رد الحكومة المصرية بالتعبير عن أسف مصر البالغ وخيبة الأمل المؤلمة، وبعد أن يرفض الرد المصري هذه المقترحات جملة وتفصيلا يتقدم بالمقترحات الآتية: (1)
الشروع في إجلاء القوات البريطانية عن مصر - قناة السويس - بمجرد عقد الاتفاق مباشرة، وضرورة إتمام هذا الجلاء برا وبحرا في مدة لا تتجاوز سنة. (2)
تسليم القاعدة إلى القوات المصرية المسلحة بمجرد إتمام الجلاء. (3)
إعطاء أولوية خاصة لتزويد الجيش المصري بالأسلحة والمعدات اللازمة في أقرب وقت باعتبار مصر قائمة في منطقة استراتيجية. (4)
وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري. (5)
خاص بالسودان. (6)
عقد اتفاق بين الطرفين يمكن بمقتضاه عودة القوات البريطانية إلى الجهات التي يتفق بين الحكومتين على ضرورة عودتها إليها، للمعاونة في الدفاع عن مصر في حالة ما إذا وقع عليها اعتداء مسلح، أو في حالة اشتباك المملكة المتحدة في حرب كنتيجة لاعتداء مسلح على البلاد العربية المتاخمة لمصر. (7)
إذا عادت القوات البريطانية إلى مصر وفقا للبند السابق، فيتعين الشروع في إجلائها عنها بمجرد انتهاء العمليات الحربية، على أن يتم الجلاء برا وبحرا وجوا في أجل أقصاه ثلاثة أشهر. (8)
إلغاء معاهدة 26 أغسطس 1936 وجميع ملحقاتها، وكذلك اتفاقي سنة 1899 بمجرد سريان الاتفاق الجديد.
تمهلت الحكومة البريطانية في الرد، وأطالت التمهل، والواقع أنه لم يكن لديها شيء جديد في ذلك الوقت تقدمه، وكثرت الأقاويل والشائعات، فقيل حينا: إن المشكلة الرئيسية في نظرها هي اهتمامها بالمحافظة على التزاماتها قبل دول الكومنولث وحلف الأطلنطي، فهي لا تستطيع البت في مسألة مثل الجلاء عن قناة السويس دون معرفة رأي شركائها هؤلاء ودون استشارتهم وموافقتهم، وهي لذلك تنتظر حتى يضع وزراء الدفاع في الكومنولث تقاريرهم، وكان الغرض من اجتماعهم في لندن هو دراسة إنشاء نظام للأمن في منطقة شرق البحر المتوسط بدلا من إقامة نظام دفاعي بين دول الشرق الأوسط، ولقد وجد ذلك المؤتمر أن اشتراك الولايات المتحدة مع إنجلترا متعاونة مع الدول العربية ضروري في إقامة سد أمام التوسع الشيوعي الذي كان يخشى خطره عقب قيام النزاع الإيراني الإنجليزي على مسألة البترول، لقد اتجهت الآراء أخيرا في ذلك الاجتماع على اقتراح إنشاء هيئة للدفاع عن الشرق الأوسط من إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا ومن يريد من دول الكومنولث.
ولم تكن إنجلترا تثق قليلا أو كثيرا في ميثاق الضمان الجماعي وحده، ذلك الميثاق الذي عقدته الدول العربية باستثناء شرق الأردن، هذا الميثاق الذي ينص على وجوب التعاون المتبادل بين أعضائه وإنشاء مجلس عسكري دائم.
وكانت الحكومة الإنجليزية العمالية مضطرة أن تحسب حسابا كبيرا لذلك الفريق من الرأي العام الإنجليزي الذي كان يطالب بالتمسك بالبقاء في القناة، ويرى أن تركها يضير المصالح البريطانية ضررا بليغا، فبعض الصحف مثل صحيفة الديلي إكسبرس ترى أن الجلاء عن القناة لا يكون إلا خيانة للمصالح البريطانية الحيوية، وما قيمة أي وعد يقدمه المصريون بالسماح للبريطانيين بالعودة؟ وحمل المحافظون في البرلمان البريطاني حملة عنيفة على السياسة المتراخية لوزارة العمال بإزاء مصر، وكان المحافظون قوة لا يستهان بها ويحسب حسابها، وأضيفت إلى آراء المحافظين آراء العسكريين، وكان هؤلاء أشد الناس تمسكا بالبقاء في قاعدة قناة السويس، ويرون أن إنجلترا أقدر من غيرها على حماية هذه القاعدة وصيانتها، ويجب ألا تترك تلك المهمة لغيرها كلية، وأنه لا مانع عندهم من إشراك مصر إذا أرادت مشاركة بريطانيا في أمر الصيانة والدفاع عن هذه القاعدة، لهذا كله لم تر حكومة العمال إجابة مصر إلى مطلبها في الجلاء عن قناة السويس، وهي وإن كانت قد اتخذت هذه الخطة، إلا أنها آثرت الصمت، وفضلت الانتظار.
ولكن ذلك الموقف لم يرق الحكومة المصرية التي ملت الانتظار ونفد صبرها، ورأت أن لا مناص من أن ترسل مذكرة قوية اللهجة إلى السفارة البريطانية في 6 يوليو سنة 1951 تذكرها بأن الحكومة الملكية المصرية تجد نفسها مضطرة لأن توجه التفات حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة إلى تعذر الاستمرار إلى غير حد في المحادثات الجارية بين الطرفين منذ شهر يوليو سنة 1950، وأن إنجلترا لن تخسر شيئا من هذه المطاولة، وأن الحكومة الملكية المصرية قد أصبح من المستحيل عليها وعلى الرأي العام المصري قبول استمرار هذه الحالة فترة أخرى.
وفي نفس اليوم الذي قدمت فيه هذه المذكرة اجتمع السير رالف ستيفنسون السفير البريطاني بصلاح الدين باشا، وأخذ السفير البريطاني يبين قيمة التعاون في مشروع دفاع مشترك، وأن على الحكومة المصرية أولا أن تدرك أنها أمام واحد من أمرين: (1)
التعاون في مشروع دفاع واف قد يجنب مصر الغزو كلية. (2)
أن تتعرض مصر لغزوين: أحدهما ... لاحتلال البلاد، والآخر لطرد المعتدين.
والتعاون في مشروع دفاع أكثر فائدة لمصر، فضلا عن أن ميثاق الأمم المتحدة يبيح الاتفاقات الإقليمية، وأن إنجلترا تحاول عقد اتفاق لضمان الأمن الإقليمي، واعتذر عن تأخير رد الحكومة البريطانية بأنه ناشئ من مشاغلها الكثيرة.
وأمام هذا وجد وزير الخارجية المصرية نفسه مضطرا لأن يلاحظ بأن مشاغل إنجلترا لن تنتهي، وأبان بأن المطالب المصرية مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر، وهي مسألة مع ذلك تهم السلم العالمي، وأن الحكومة المصرية مضطرة بعد قليل إلى الإدلاء ببيان عن هذه المفاوضات للبرلمان.
وأن حكومة مصر تعتقد أن السياسة التي تتبعها بريطانيا في مصر والسودان منافية لميثاق الأمم المتحدة في نصه وروحه، فهي منافية لمبدأ المساواة في السيادة، ولمبدأ استقلال الدول الأعضاء وسيادتهم، وللمبدأ الذي يقضي بوجوب امتناع كل دولة عن المساس باستقلال غيرها من الدول الأعضاء أو بوحدة أراضيها، كما أنها تنافي قرار هيئة الأمم المتحدة بوجوب جلاء القوات الأجنبية عن أراضي الدولة المحتلة بغير رضاها، وأما المحالفات الإقليمية فهي في نظر الحكومة المصرية يجب أن تعقد بالرضى والاختيار، وأن مصر شعبا وحكومة لا ترغب في أي محالفة على أساس احتلال أراضيها والعبث بوحدتها.
ولقد توترت العلاقات بين إنجلترا ومصر من ناحية أخرى في صيف سنة 1951 نتيجة لإصرار مصر على عدم مرور السفن الناقلة للبترول خلال القناة إلى إسرائيل، وخاصة بعد حادث السفينة البريطانية إمباير روش، فاحتجت إنجلترا، وأعلنت أنها ستشكو مصر إلى مجلس الأمن، وأرسلت أربعة مدمرات إلى البحر الأحمر، وطالب بعض الأعضاء في البرلمان البريطاني الحكومة الإنجليزية بضرورة إرسال سفن حربية لحراسة السفن البريطانية أثناء مرورها بالقناة حتى لا تتعرض لها مصر، ورفضت الحكومة البريطانية اتباع رأي المحافظين بحماية ناقلات البترول؛ حتى لا تشجع المصريين على المطالبة بتأميم القناة، ولكنها التجأت إلى مجلس الأمن، وأمام هذا الموقف أعلن وزير الخارجية المصرية للسفير الأمريكي بأن النزاع على الملاحة في قناة السويس يمكن فضه بالوسائل الدبلوماسية، وأن إثارته في مجلس الأمن ستحدث قطيعة بين الدول الغربية.
لم تكن إذن مسألة الملاحة في القناة من العوامل للتقريب بين إنجلترا ومصر، وربما كان لها أثرها السيئ على العلاقات المصرية الإنجليزية.
وبينما الأمور سائرة في بطء شديد، ومصر تنتظر إجابة مرضية من بريطانيا على المقترحات التي قدمتها، إذ بوزير الخارجية البريطانية يعلن في مجلس العموم البريطاني في 30 يوليو 1951 تمسك الحكومة البريطانية بوجهة نظرها وبالدفاع المشترك بحجة الضرورات الدولية .
بسط مستر موريسون في بيانه سياسة الحكومة البريطانية تجاه الشرق الأوسط ومصر، وبين بوضوح لا مزيد عليه أن بريطانيا في هذه الظروف العالمية الحالية غير مستعدة لقبول وجهة النظر المصرية فيما يختص بجلاء القوات البريطانية عن قناة السويس، وفيما يختص بالدفاع عن مصر وعن الشرق الأوسط، وكان هذا الخطاب في الواقع ردا حاسما على المقترحات المصرية، وتبريرا لموقف إنجلترا إزاء هذه المقترحات.
يقول مستر موريسون:
فاليوم أصبحت كل الأمم أعضاء في مجموعة واحدة، ولا يمكن دعم مصالح أية دولة على حساب الحاجات والحقوق المشروعة لبقية الدول.
والصداقة القويمة والتعاون الوثيق بين مصر وبريطانيا يعدان من أحجار الزاوية في استقرار أمور الشرق الأوسط وسلامته، وقد حاولنا أن نقدر مركز مصر، ولكننا لم نجد استجابة لما أبديناه من صبر وإدراك، ولا نزال نواجه تصميما لا يلين على مطالب ليست لها أية علاقة بحقائق الموقف العالمي في الوقت الحاضر.
ووجود القوات البريطانية في مصر لم يعد مشكلة لا تعني إلا بريطانيا ومصر وحدهما، فنحن دولة تحمل بالنيابة عن دول الكومنولث وحلفاء الغرب مسئولية كبرى.
ومصر مفتاح الشرق الأوسط، وإنه لسراب خادع أن تتظاهر مصر بأنها تستطيع الوقوف جانبا في أي نزاع دولي.
فمصر تحتل جسرا هاما بين قارتين، وتسيطر على المواصلات البحرية بين العالمين الشرقي والغربي، وهي هدف هام جدا لأية دولة تعتدي على المشرق والحوض الشرقي للبحر المتوسط.
ومصير مصر وبريطانيا وحضارتيهما مرتبط برباط وثيق، وليس من الواقعية في شيء أن تدعي مصر أن في استطاعتها النجاة من الخطر برفض التحالف مع بريطانيا وعدم الاشتراك في النظام الدفاعي عن المنطقة.
وفوق ذلك ليس في استطاعة مصر أن تقف وحدها لتدافع عن أرضها، ومثلها في ذلك مثل بريطانيا ذاتها، وإني لواثق تمام الثقة من أنه إذا اضطر العالم الحر إلى خوض غمار الحرب، فإن الشعب المصري سيقف إلى جانبه كما وقف في الماضي يقاوم العدوان.
وأهم خلاف بين مصر وبريطانيا هو عدم الاتفاق على التدابير اللازمة لمواجهة أي طارئ من هذا القبيل، وبدون استعدادات واسعة النطاق في وقت السلام ستتعقد قضيتنا قبل أن تبدأ المعركة.
ومهمتنا إقناع مصر بمواجهة تلك الحقيقة التي لا مفر منها، وبالأخطار التي تترتب على إهمال هذه الاستعدادات، ومن فوق هذا المنبر أدعو مصر إلى المساهمة بنصيبها وعلى قدم المساواة في الجهود المشتركة لتأمين سلام العالم، نريد أن ننظم علاقاتنا على أساس جديد كل الجدة، ولكن إذا رفضت مصر تلك الدعوة، فلن نسمح للموقف الذي ينشأ عن هذا الرفض بعرقلة جهودنا للوفاء بالتزاماتنا الدولية.
ومع ذلك لن نيئس من إقناع مصر بالمساهمة معنا من تلقاء نفسها حتى تسهل مهمتنا.
وقرع مصر في آخر خطابه: «فمصر بموقعها الجغرافي الفريد يجب أن تضرب مثلا على السلوك الدولي بدلا من الإساءة إلى المعاهدات الدولية واتفاقية الملاحة.»
وختم حديثه بضرورة حماية مصالح بريطانيا المشروعة في الشرق الأوسط.
ولقد وجدت نغمة موريسون ترديدا في بعض الصحف الإنجليزية، فتقول صحيفة «الأبزرفر» (عن الأهرام 20 أغسطس): أوضح هربرت موريسون أنه بينما ترغب بريطانيا في الوصول إلى اتفاق مع مصر بشأن هذه القاعدة، ستحافظ بريطانيا على تلك القاعدة وتتمسك بها في فترة التوتر الراهنة رضيت مصر أو لم ترض ... وهذه ضرورة مؤلمة، ولكن يجب ألا يعمينا النزاع مع مصر عن حاجتنا إلى الارتباط معها برباط الصداقة والود، ويجب علينا أن نواصل مساعينا لجعل مصر تشترك في حلف عام يضم دول الشرق الأوسط حتى تبدو القواعد الموجودة على أرضها جزءا من نطاقها الدفاعي، وأغلب الظن أن يكتب لهذه السياسة النجاح إذا كان واضحا أننا نزمع بتأييد الأمريكيين التمسك بمنطقة القناة، وأن الاحتجاجات مهما كانت لن تبدل هذا القرار أو تغير منه شيئا ...
وأما من ناحية الجانب المصري، فلقد وجد وزير الخارجية المصرية ضرورة الرد على تصريح موريسون الذي أحدث رجة كبيرة في مصر، ففي 6 أغسطس في البرلمان المصري تحدث عن الاحتلال وآثاره السيئة، وأبان عن تواكل إنجلترا وتخاذلها في أمر تسليح الجيش المصري، ورد على فكرة موريسون بوجود خطر الحرب ماثلا، فقال: «ومتى خلص العالم من خطر الحرب؟! ... وسيكون على الدوام خلاف دولي يلبس ثوب خطر الحرب، ويجوز القول بأنه يهدد السلام، فهل يمكن أن يطالبنا منصف بأن نقبل على سيادتنا واستقلالنا عار الاحتلال أبد الآبدين؟! ...» وأبان عن تمسك مصر بحقوقها ومطالبها، واستمساكها بميثاق هيئة الأمم المتحدة، وأعلن أن مستر موريسون بخطابه هذا قد أوصد باب المفاوضات.
لقد وجدت الحكومة المصرية إذن «عمق الهوة» التي تفصل بين وجهتي نظر الطرفين، وذلك كما يقول بيان رفعة النحاس باشا في 8 أكتوبر: «لإصرار الحكومة البريطانية على سياستها الاستعمارية القديمة، سياسة ادعاء المسئوليات وانتحال التبعات ومقاومة الحقوق الوطنية بشتى الحجج والتعلات.»
اعتبرت الحكومة المصرية تصريح وزير الخارجية البريطانية إغلاقا صريحا لباب المفاوضات بين الدولتين، ولكن مستر موريسون تراجع، وفي خطاب خاص له إلى الحكومة المصرية ذكر أن الباب لا زال مفتوحا، فالحكومة البريطانية تدرس مشروعا جديدا لعلاج وسائل الدفاع، وأجابت الحكومة المصرية بأن جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس ليس كل القضية المصرية، وإنما هو جزء منها، وأن القضية المصرية كل لا يتجزأ، واكتفت الوزارة البريطانية بالصمت، فلم تستطع أن تعين موعدا محدودا لإرسال مقترحاتها الجديدة.
وهكذا كانت الحكومة البريطانية تؤجل في ردودها، وإذا خرجت عن الصمت لا تعطي رأيا واضحا نهائيا، وتحاول كسب الوقت، فالانتظار لا يضيرها ولا يضعف مركزها، ويظهر أن الحكومة البريطانية لم توجه إلى علاقاتها مع مصر ما يلزمها من عناية ودراسة تتفق ونمو الوعي القومي المصري، وخضعت لآراء العسكريين ورجال الحرب، فلم تحاول فهم وجهة النظر المصرية.
والواقع أن موريسون الذي تولى وزارة الخارجية البريطانية بعد موت إرنست بيفن كان حديث عهد بأمور السياسة الخارجية، وليست لديه خبرة عملية في ذلك الميدان، وليس له العزم لتنفيذ ما يرى، فهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وسرعان ما تراكمت عليه المشاكل من كل جانب، وتجمعت المصاعب أمامه بشكل خطر، فازداد الموقف الدولي تعقدا بالنسبة لإنجلترا، لقد كان موقف الحكومة العمالية صعبا في البرلمان، فلقد أصر المحافظون على إثارة المشاكل أمامها، وهاجموا سياستها نحو مصر، وأعلنوا عن خشيتهم من أن تضيع وزارة العمال الامتيازات التي حصلت عليها بريطانيا بمقتضى معاهدة سنة 1936، ونعوا عليها سياسة التهدئة التي تتبعها.
وليت الأمر اقتصر على هذا الحد، فلقد ازدادت حالة المالية البريطانية سوءا أمام حركة التسابق إلى التسلح، واختلفت إنجلترا مع الولايات المتحدة بشأن مسألة التسلح ومسألة الاعتراف بالصين الشيوعية والحرب الكورية، ثم انقسم حزب العمال على نفسه، فريق يرى الاستمرار في سياسة التسلح مهما كلف إنجلترا الأمر، وفريق يرى ألا تكلف إنجلترا نفسها في هذا الميدان ما لا تطيق، فحذر أنيورين بيفان، أحد الوزراء المنشقين، بريطانيا من السير في ركاب فوضى الرأسمالية الأمريكية، وتوقع انتشار البطالة وازدياد التضخم في بريطانيا، واختلفت إنجلترا أيضا مع دول غرب أوروبا على مسألة الاشتراك في الجيش الأوربي.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ تعقدت العلاقات الإيرانية الإنجليزية بشأن البترول الإيراني وتأميمه، وقائم نزاع خطير بين الدولتين ذهب بالعلاقات الطيبة بينهما، واضطر الإنجليز آسفين إلى الانسحاب من عبادان، بعد أن رفضت الولايات المتحدة تقديم أي تأييد سياسي لهم.
فكانت هذه أول ضربة سياسية قاسية تلقاها الإنجليز بعد الحرب الكبرى الثانية، أخذ نفوذ الإنجليز في الشرق الأوسط بعدها في التضاؤل والضعف، ولم يعد لسياسة إنجلترا الخارجية ولا لاسمها نفس الاحترام الذي كان لها من قبل منذ ربع قرن من الزمان.
ورأت الحكومة المصرية في أوائل أكتوبر سنة 1951 أن الوقت قد آن لإلغاء معاهدة سنة 1936. فلقد فصل رئيس الحكومة في ذلك الوقت في بيانه في 8 أكتوبر في البرلمان الأسباب التي دعت الحكومة المصرية إلى اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة (انظر الملحقات).
لم تعد مصر تعترف بمركز الإنجليز في قناة السويس، ولكن الحكومة البريطانية أعلنت أن المعاهدة لا تشتمل على حق الإلغاء من جانب واحد، وأنها ألغيت بالفعل من جانب واحد هو الجانب المصري بغير موافقة الجانب الإنجليزي، وأنها لا تستطيع أن تقر مصر على هذه الخطوة، ففي نظرها إقدام الحكومة المصرية على إلغاء المعاهدة عمل غير شرعي يتنافى مع ميثاق هيئة الأمم الذي نصت مقدمته على احترام الالتزامات الناشئة من المعاهدات والارتباطات الدولية الأخرى ؛ ولذا فهي وإن كانت لا تزال راغبة في المفاوضات، إلا أنها أثناء ذلك ستظل متمسكة بهذه المعاهدة التي تبرر استمرار الإنجليز في احتلال قناة السويس إلى سنة 1956.
ولكنه بالرغم من إعلان إنجلترا تمسكها بمعاهدة 1936، يظهر أن الحكومة الإنجليزية لم تكن مؤمنة تماما بقوة حجتها، بعد أن أقرت هي قبل ذلك بخمسة أعوام مبدأ الجلاء التام عن مصر والقناة، ثم هي لا تستطيع أن تفصل نهائيا في مسألة مصر والشرق الأوسط بمفردها، فلقد انتهى الوقت الذي كان فيه لإنجلترا سياسة مستقلة في هذه المنطقة من العالم؛ ولذا أسرعت إلى حلفائها من الأمريكيين والفرنسيين، بل والأتراك تطلب منهم التأييد لسياستها والنجدة لحل المشكلة المصرية، فتقدمت هي وحلفاؤها بمشروع الدول الأربع. (انظر الملحقات.)
وينص ذلك المشروع على إنشاء قيادة متحالفة للشرق الأوسط، تشترك فيه الدول التي تريد وتستطيع الدفاع عن الشرق الأوسط، وتشترك مصر في هذه القيادة المتحالفة على أساس المساواة.
وعندئذ توافق إنجلترا على سحب القوات البريطانية التي لا تخصص للقيادة المتحالفة، وتقدم مصر في أراضيها التسهيلات الاستراتيجية والدفاعية، ويدخل في هذا في حالة الحرب استخدام الموانئ والمطارات والمواصلات المصرية، كما تكون مصر مقر القيادة العليا للمحالفة، وتسلم القاعدة البريطانية في قناة السويس بصفة رسمية إلى مصر، ولكنها تصبح قاعدة مشتركة للدول المشتركة في التحالف، ويكون لمصر نصيب في إدارتها وقتي الحرب والسلم.
وبني ذلك المشروع على أساس أن الدفاع عن الشرق الأوسط ضد العدوان الخارجي أمر حيوي للعالم الحر؛ أي: المعسكر الغربي، ولن يكون هذا الدفاع عمليا إلا بالتعاون مع الدول التي يهمها الأمر.
ولقد وجدت الحكومة المصرية أن ترفض هذه المقترحات.
ملحقات
مفكرة للحكومة المصرية إلى السفارة البريطانية في 6 يوليو سنة 1951 (1)
ترجو الحكومة الملكية المصرية أن تكون حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة قد فرغت من دراسة المقترحات المصرية المضادة الخاصة بالجلاء، وهي المقترحات التي سلم وزير الخارجية المصرية مفكرة بها إلى السفير البريطاني في 24 أبريل الماضي، ولا شك أن المدة التي انقضت منذ ذلك التاريخ كانت كافية لإتمام هذه الدراسة وإبداء الرأي في المقترحات المضادة المشار إليها. (2)
والحكومة الملكية المصرية تجد نفسها مضطرة لأن توجه التفات حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة إلى تعذر الاستمرار إلى غير حد في المحادثات الجارية بين الطرفين منذ شهر يوليو سنة 1950 ...
وواضح أن حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة لا تخسر شيئا من هذه المطاولة، أما الحكومة الملكية المصرية فقد أصبح من المستحيل عليها وعلى الرأي العام المصري قبول استمرار هذه الحالة فترة أخرى.
فقد بذلت الحكومة الملكية المصرية كل ما في طاقتها للتوفيق بين حقوق مصر والمصالح التي تدعيها بريطانيا العظمى ... (3)
وكذلك لا يسع الحكومة الملكية المصرية أن تفرق بين بعض الحقوق الوطنية وبعضها الآخر، فتقبل الفصل بين مسألة الجلاء ومسألة وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، فالمسألتان في اعتبارها كل لا يتجزأ، ويتحتم حلهما في وقت واحد، وأن يشملهما معا أي اتفاق يعقد بين الطرفين. (4)
شروط خاصة بالسودان.
محضر محادثة
بين وزير الخارجية الدكتور محمد صلاح الدين باشا والسفير البريطاني سير رالف ستيفنسون في 6 يوليو سنة 1951، فيما يختص بالدفاع، وأوردناه هنا لاتصاله بموضوع القناة:
السفير البريطاني :
إن الموقف لم يتحسن على أي صورة فيما يتعلق بالسلام في الشرق الأوسط، ولم يكن من المستطاع أن نقترب أي اقتراب من مطلب الحكومة المصرية الخاص بالجلاء الكامل. ونحن ندرس الآن طريقة علاج مشترك لمسألة الدفاع، وعندما أتلقى تعليمات في هذا الموضوع سأحيطكم علما بها، ولست يائسا من الوصول إلى اتفاق، بيد أن على الحكومة المصرية أولا أن تدرك أنها أمام واحد من أمرين: (1) التعاون في مشروع دفاع واف قد يجنب مصر الغزو كلية. (2) أن تتعرض مصر لغزوين؛ أحدهما من الشمال الشرقي لاحتلال البلاد، والآخر من الغرب تقوم به الدول الغربية لطرد المعتدين، وهذا أمر مؤكد تمام التأكيد، والتعاون في مشروع دفاع مشترك يتيح لكم بالتأكيد فرصة طيبة لتجنب الغزو كما وقع في الحربين الماضيين، وإني على يقين من أنه ليس من المستحيل أن نجد طريقة علاج مشترك لمسألة الدفاع.
وزير الخارجية :
قبل أن أرد على تعليقكم أود أن أسأل بوجه عام: هل ينتظر أن نتلقى الرد قريبا على مقترحاتنا المضادة الخاصة بالجلاء؟
السفير البريطاني :
لست أدري، ولا أستطيع الإجابة على هذا السؤال، بيد أني أعلم أن حكومة جلالة الملك تنظر في المسألة وتحاول العثور على طريقة مشتركة لعلاجها، والحكومة البريطانية كما تعلمون مشغولة في الوقت الحاضر بمسائل أخرى.
وزير الخارجية :
أعرف أن الحكومة البريطانية مشغولة إلى حد كبير بالصعوبات التي تواجهها في إيران، ولكن متاعب الحكومة البريطانية لا تنتهي، وسياستها الخارجية واسعة المدى، فإذا رتبنا على المتاعب التي تصادفها في أرجاء العالم الأخرى تعطيل حل المشاكل المعلقة بيننا وبينها فلن تنتهي، والمسألة المصرية لا تقل أهمية في ذاتها ومن حيث اتصالها بقضية السلام العام عن أية مسألة عالمية أخرى، بل لعلها ترجح الكثير من هذه المسائل، وهذه على الأقل هي نظرتنا نحن إليها، بل هي بالنسبة إلينا مسألة حياة أو موت، وقد كان الشهران اللذان انقضيا منذ سلمناكم المقترحات المضادة كافيين وفوق الكفاية لأن يصلنا منكم ردكم على هذه المقترحات مهما كانت مشاغلكم الأخرى، وأود أن أؤكد لسعادتكم أن الحكومة المصرية كما وضحت في المفكرة التي سلمتها إليكم اليوم لا تستطيع أن تمضي في هذه المحادثات فترة طويلة أخرى، بل إن الظروف البرلمانية نفسها تحدد الأجل الذي يجب أن نعرف فيه ما إذا كان هناك أي أمل للوصول بهذه المحادثات إلى نتيجة موفقة، على أساس من الحق والعدل والمساواة في السيادة واحترام استقلال الشعوب ووحدة أراضيها، أم أنه لا نتيجة لها إلا الفشل؟
إن الدورة البرلمانية الحالية في مصر توشك أن تنتهي، والحكومة مضطرة قبل فض الدورة إلى أن تدلي إلى البرلمان ببيان عن المحادثات؛ إذ من حق ممثلي الأمة أن يعرفوا قبل فض دورتهم هل فشلت المحادثات أم نجحت؟ والنتيجة الطبيعية لفشل المحادثات هي قطعها وتقديم جميع تفصيلاتها إلى البرلمان، وليس لدي ما أضيفه على ما تقدم إلا أن ألاحظ على تعليقكم في شأن الجلاء أنه أفرغ في لغة الحرب والقوة والغزو، مع أننا كأعضاء في هيئة الأمم المتحدة يجب أن نتحدث بلغة السلم والأمن الدولي وإقرار الحق والعدل واحترام سيادة الشعوب ووحدة أراضيها ...
السفير البريطاني :
هل أفهم من هذا أن الحكومة المصرية قد وطدت العزم على أن تدلي ببيان عن هذه المحادثات قبل انتهاء الدورة البرلمانية الحالية؟
وزير الخارجية :
بكل تأكيد.
السفير البريطاني :
لا أظن أن تعليقكم بأن بياني مفرغ في لغة الحرب والقوة تعليق عادل، ولا أظن أن بريطانيا أقل إخلاصا لمبادئ هيئة الأمم عن مصر، وقد نص الميثاق نفسه على الاتفاقات الإقليمية، ونحن نحاول أن نعقد اتفاقات لضمان الأمن الإقليمي.
وزير الخارجية :
نحن نعتبر أن السياسة التي تتبعها بريطانيا في مصر والسودان منافية لميثاق الأمم المتحدة في نصه وروحه؛ فهي منافية لمبدأ المساواة في السيادة، ولمبدأ استقلال الدول الأعضاء وسيادتهم، وللمبدأ الذي يقضي بوجوب امتناع كل دولة عن المساس باستقلال غيرها من الدول الأعضاء أو بوحدة أراضيها، كما أنها تنافي قرار هيئة الأمم المتحدة بوجوب جلاء القوات الأجنبية عن أراضي الدول المحتلة بغير رضاها ... إلخ.
أما عقد محالفات إقليمية فأنا أعترف أن الميثاق يبيحه، ولكن هذه المحالفات يجب أن تعقد بالرضى والاختيار، وغني عن البيان أن مصر شعبا وحكومة لا ترغب في أي محالفة على أساس احتلال أراضيها والعبث بوحدتها.
السفير البريطاني :
هل قرار الحكومة في الإدلاء عن المحادثات ببيان نهائي قد تضطر حكومة جلالة الملك أيضا في هذه الحالة إلى الإدلاء ببيان؟ وأظن أنه قد يكون لهذا أثر سيئ؛ إذ يدلي الجانبان ببيانات علنية يجدان من الصعب التراجع عنها أو مواصلة المفاوضات في المستقبل.
وزير الخارجية :
لا شك أن علاقة البلدين في المستقبل ستتأثر بهذه البيانات العلنية التي يلقيها كل طرف في برلمانه ... الحكومة الحالية أخذت على عاتقها مسئولية استئناف المحادثات معكم وأفسحت لها الوقت الكافي، إذ إننا اعتبرنا مباحثات الفيلد مارشال سليم بداية لهذه المحادثات. تكون محادثاتنا قد استغرقت أكثر من خمسة عشر شهرا ...
ولقد سبق أن ذكرت أن فشل المحادثات سيستتبع حتما قطعها، والمفروض أنها في هذه الحالة ستكون قد فصلت قبل إيضاح الحقائق للبرلمان، وسيقال للبرلمان: إنها فشلت وإنها قطعت ...
بيان رفعة النحاس باشا رئيس الحكومة في 8 أكتوبر سنة 1951 في البرلمان
بشأن مراحل المفاوضات بين مصر وإنجلترا وقرار الحكومة بإلغاء معاهدة سنة 1936 والأسس التي قام عليها هذا الإلغاء.
وفي شهر يناير سنة 1950، أجريت في مصر الانتخابات العامة، فأسفرت عن تولية الحكومة الحاضرة «حكومة الوفد» ... لقد أجمعت الأمة إجماعا لا يشذ عنه أحد من أبنائها على تحرير وادينا مصر وسودانه من كل ما يقيد حريته واستقلاله، ليسترد مجده القديم ويتبوأ المكان الكريم اللائق به في ميدان الحياة العالمية ...
وشرعت الوزارة على الفور في إنجاز ما وعدت به، ورأت أن تكون أولى خطواتها في هذا السبيل محاولة الاتفاق مع الإنجليز، فدخلت معهم في سلسلة طويلة من الاتصالات والمحاولات، لعلهم يقتنعون بالحجة وينزلون على حكم الحق، وتعددت الاتصالات وطالت المحادثات، وتذرعت الوزارة بالحكمة والصبر فلم تتعجل، بل واجهت المشكلات مواجهة واقعية وعالجتها باقتراح الحلول العملية، للتوفيق بين حقوق مصر الوطنية والتي لا يمكن التحول عنها، وبين الملابسات الدولية التي يتعلل بها الإنجليز، ولكن شيئا من ذلك لم يفلح في صرفهم عن عنتهم وإقناعهم بضرورة احترام حقوق مصر، إذا شاءوا حقا أن يحتفظوا بصداقتها، فلم تجد الحكومة - والحالة هذه - بدا من أن تعلن خطاب العرش الذي ألقي في البرلمان المصري يوم 16 نوفمبر 1950 أنه لا مناص من إلغاء معاهدة سنة 1936، وأن الحكومة ماضية دون تردد أو إبطاء في تحقيق الأهداف الوطنية ... وفي طليعة هذه الوسائل إعلان إلغاء معاهدة سنة 1936، وما يتبع ذلك من إعلان إنهاء اتفاقيتي 16 يناير، 10 يوليو سنة 1899 الخاصتين بالحكم الثنائي في السودان.
ثم استمرت المحادثات، وقصد وزير الخارجية المصرية إلى لندن، حيث تباحث مع وزير الخارجية البريطانية طويلا، وانتهت هذه المباحثات في 15 ديسمبر سنة 1950، بأن قرر وزير الخارجية البريطانية أنه عرض على مجلس الوزراء بصفة شخصية محضة مقترحات تتضمن طريقة علاج جديد لمشكلة الدفاع، فكلف المجلس مستشاريه أن يقوموا على الفور ببحث هذه المقترحات، وهو يرجو أن يتمكن من الإفضاء إلى الحكومة المصرية بنتيجة دراسة حكومية بطريقة العلاج المذكورة في أواسط يناير سنة 1951 أو في أسرع وقت مستطاع بعد ذلك التاريخ.
ولكن المقترحات الموعودة لم تصل إلى الحكومة المصرية إلا في 11 أبريل سنة 1951؛ أي: بعد التاريخ المضروب بثلاثة أشهر، وقد جاءت مع ذلك أبعد ما تكون عن تحقيق المطالب الوطنية.
وفي 24 أبريل سنة 1951، ردت الحكومة المصرية برفض هذه المقترحات في جملتها وتفصيلاتها، مقدمة مقترحات مضادة بشأن الجلاء ووحدة مصر السودان.
ووعد الجانب البريطاني بدراسة هذه المقترحات المضادة والرد عليها، ولكن رده لم يصل إلا في 8 يونيو سنة 1951.
ثم استؤنفت المحادثات ودار البحث حول السودان، وبينما هي سائرة تتعثر، ألقى وزير الخارجية بيانه المعروف في مجلس العموم البريطاني يوم الإثنين 20 يوليه سنة 1951، يعلن فيه تمسك الحكومة البريطانية بالاحتلال والدفاع المشترك في وقت السلم، بحجة الضرورات الدولية، ومعارضتها وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري بحجة استطلاع مشيئة السودانيين.
وقد جاء هذا البيان ناطقا بعمق الهوة التي تفصل بين الطرفين، لإصرار الحكومة البريطانية على سياستها الاستعمارية القديمة؛ سياسة ادعاء المسئوليات وانتحال التبعات ومقاومة الحقوق الوطنية بشتى الحجج والتعلات.
وفي 6 أغسطس سنة 1951 رد وزير الخارجية المصرية على هذا البيان، قال فيه: إن وزير الخارجية البريطانية قد أغلق بتصريحاته الأخيرة في مجلس العموم باب المحادثات، ولكن وزير الخارجية البريطانية بعث برسالة شخصية ينفي فيها أنه أغلق باب المحادثات، ويقول: إنه على العكس يبحث على وجه الاستعجال مشروعا جديدا لعلاج مسائل الدفاع، فرددت عليه مبينا الأسباب التي من أجلها اعتبرت الحكومة المصرية أن خطابه في مجلس العموم البريطاني أغلق باب المحادثات، وأضفت أن جلاء القوات البريطانية ليس إلا شطر القضية المصرية، وأن هناك الشطر الآخر وهو وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، وأن الشطرين كل لا يتجزأ ...
أرسل هذا الرد في 26 أغسطس سنة 1951، ولم تصل هذه المقترحات حتى الآن، ولكني تلقيت من وزارة الخارجية البريطانية في 21 سبتمبر 1951 رسالة شخصية أخرى، يقول فيها: إنه لا يستطيع أن يعين على وجه التحديد تاريخا لإرسال مقترحاته ، ولكنه يتوقع أن يكون ذلك في موعد قريب.
وقد كلفت سعادة السفير البريطاني الذي حمل هذه الرسالة أن يبلغ وزير الخارجية البريطانية أن الحكومة المصرية مرتبطة بإعلان خطتها في البرلمان قبل فض دور الانعقاد الحالي في أوائل شهر أكتوبر على أكثر تقدير، فلا معدى - والحالة هذه - من أن تصل المقترحات الجديدة على أساس تحقيق المطالب الوطنية قبل ذلك التاريخ.
هذا هو تاريخ المحادثات حتى الآن، وغني عن البيان أن الجانب البريطاني لا يخسر شيئا من هذا التطويل والتأخير، فالاحتلال قائم في قناة السويس ...
لقد جادل الإنجليز في حق مصر في إلغاء معاهدة 1936، واتفاقيتي سنة 1899، ولكن الأمثلة لا تنقصنا على سوابق إلغاء المعاهدات والاتفاقات الدولية من جانب واحد (وذكر رفعته ثمانية عشر مثلا). •••
هذه أمثلة كثيرة متفاوتة التاريخ والظروف والأسباب على سوابق إلغاء المعاهدات والاتفاقات الدولية من جانب واحد، وقد كان الجانب الآخر بالطبع يجادل في جواز هذا الإلغاء، ولكن الإلغاء مع ذلك تم وأنتج آثاره القانونية في جميع الأحوال، وقد يقال: إن أكثر الدول التي لجأت إلى هذا الإجراء كانت تعتمد على القوة المادية. هذا صحيح، ولكنه أبعد ما يكون عن أن ينطبق على حالتنا؛ فنحن لا نعتمد ... إلا على الحق الواضح والعدالة الناطقة والمبادئ السلمية التي يتضمنها ميثاق الأمم المتحدة ...
أسباب الإلغاء التي أجملها الآن:
أولا:
أن هذه المعاهدة عقدت في ظل الاحتلال البريطاني؛ فلم يكن شرط الاختيار الكامل متوفرا للجانب المصري ... «هذا» رأي وزير الخارجية البريطانية المغفور له مستر بيفن أعلنه بصريح العبارة في مجلس الأمن عندما طرح عليه النزاع الروسي الإيراني، إذ قال بالحرف الواحد: «إن الحكومة البريطانية ليؤسفها أي اتفاق يبدو أنه قد انتزع من الحكومة الإيرانية قسرا على حين تحتل حكومة الاتحاد السوفيتي جزءا من إيران.» كما قال في المناسبة نفسها: «نحن دول قوية، توصف أحيانا بالثلاث الكبار، ولكنا نمثل القوة دون ريب، وللقوة - ولا شك - حسابها في المفاوضات.»
وقد أخذ مجلس الأمن بهذا الرأي، فتضمن قراره فيما تضمن: أن وجود القوات الأجنبية في أرض دولة من الدول يسلبها حرية الاختيار في المفاوضات.
هذا هو حكم مجلس الأمن، وحكم وزير الخارجية البريطانية على الاتفاقات التي تعقد في ظل الاحتلال، وهو الحكم الحق على معاهدة سنة 1936 التي عقدت والاحتلال البريطاني قائم في مصر كلها لا في بعض أجزائها كما كان الحال في إيران.
لا بد لي هنا أن أفصح عما نقصده بضغط الاحتلال، ليس القصد أن أحدا أكرهنا إكراها ماديا على توقيع المعاهدة، ولكننا نقصد حالة الإكراه الأدبي التي كانت تساور نفوسنا، إذ نرى مصر تكاد تختنق تحت ضغط الاحتلال المتغلغل في كل مرافقها العابث بكل مصالحها، والامتيازات الأجنبية الجاثمة على صدرها، فأردنا أن نلتمس لها من هذا الإسار مخرجا يطلقها من عقالها ويكون خطوة أولى تتلوها خطوات أوسع لاستكمال وحدتها واستقلالها.
ثانيا:
تغير الظروف التي عقدت فيها المعاهدة ...
ثالثا:
أنها تتناقض مع اتفاقية قناة السويس ومع ميثاق الأمم المتحدة، وكلاهما أولى منها بالتنفيذ والاحترام، فاتفاقية قناة السويس عقدت قبلها بزمن طويل بين دول متعددة، لتقرير وضع دولي عام هو حيدة القناة وحرية المرور فيها على قدم المساواة التام بين الجميع.
ولذلك حرمت هذه الاتفاقية على الدول الموقعة عليها محاولة الحصول على مزايا إقليمية أو تجارية أو أية مزية أخرى في أي اتفاق دولي يعقد في المستقبل بشأن القناة، كما ناطت بمصر وحدها - وهي الدولة صاحبة الإقليم - حق الدفاع عن حيدة القناة وسلامة المرور فيها، وهذا ما أهدرته معاهدة سنة 1936 إهدارا تاما، إذ ليست هذه المعاهدة إلا مجموعة من الميزات الصارخة لمصلحة بريطانيا وحدها على حساب استقلال مصر وسيادتها، وما كان لبريطانيا بصريح النص في اتفاقية سنة 1888 أن تتنهز فرصة الاحتلال فتحصل لنفسها على هذه المزايا.
أما ميثاق هيئة الأمم المتحدة، «فضروري» وجوب تغليب أحكامه على ما يتناقض معها من أحكام المعاهدات والاتفاقيات الأخرى.
رابعا:
تكرار الإخلال بأحكام المعاهدة من جانب المملكة المتحدة، والواقع أن الإنجليز لا يتمسكون بالمعاهدة إلا فيما يعتمدون عليه لتأييد الاحتلال أو العبث بوحدة مصر والسودان، فهم يتجاوزون عدد القوات التي ترخص المعاهدة بإبقائها في منطقة القناة، ويتجاوزون المناطق المحددة لها، ويأبون الخضوع للإجراءات الصحية والجمركية التي تفرضها القوانين المصرية، ويحاربون تدريب الجيش المصري وتجهيزه بدلا من أن يتعاونوا في إعداده وتقويته وفقا لتعهدهم في المعاهدة ... إن المعاهدة توجب عليهم ألا يتخذوا في علاقاتهم مع البلاد الأجنبية موقفا يتعارض مع المحالفة «يشير رفعته إلى موقف إنجلترا من إسرائيل».
إننا نعمل في حدود حقوقنا ... إن مصر إنما تعمل في حدود حقها القانوني والدولي، إذ تلغي معاهدة سنة 1936 وتنهي العمل بأحكامها ...
ولقد اعتبر هذا البيان مذكرة تفسيرية لمشروع قانون إلغاء المعاهدة.
المقترحات الرباعية «مشروع الدول الأربع» نشر في 15 أكتوبر سنة 1951
يتشرف السفير البريطاني بناء على تعليمات من حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة، بأن يقدم إلى الحكومة المصرية مقترحات لتسوية الخلافات القائمة بين مصر والمملكة المتحدة في مسألة وجود قوات بريطانيا في منطقة قناة السويس، وفي مسألة الدفاع بوجه عام، وبمقتضى هذه المقترحات التي توافق عليها حكومات تركيا وفرنسا والولايات المتحدة موافقة تامة وتؤيدها، فتقام هذه المسائل على أساس هيئة، للدفاع عن الشرق الأوسط، تساهم فيها مصر كشريك مع الدول الأخرى التي يهمها الأمر.
وكانت الحكومة المصرية قد أبلغت بجلاء أن اقتراحات بعيدة المدى لتسوية هذه المسائل كانت على وشك أن تقدم إليها عندما عمدت في 8 أكتوبر إلى تقديم تشريع لإلغاء معاهدة سنة 1936 الإنجليزية المصرية واتفاقيتي سنة 1899 بشأن الحكم الثنائي في السودان.
وعلى الرغم من حيرة حكومة جلالة الملك في إدراك العمل الذي قامت به الحكومة المصرية، ولا يمكنها الاعتراف بشرعيته، إلا أنها قررت بالاتفاق مع حكومات تركيا وفرنسا والولايات المتحدة أن تقدم إلى الحكومة المصرية هذه المقترحات، بأمل أن تعيرها أكبر قسط من العناية الجديدية ولإظهار مبلغ ما أوليت هذه المسائل من دراسة دقيقة ومدى استعداد حكومة جلالة الملك متحدة مع سائر الحكومات التي يهمها الأمر، للسير في سبيل رغبتها لملاقاة آمال مصر الوطنية من جهة، واحتياجات الدفاع عن هذه المنطقة الهامة من جهة أخرى. (1)
أن مصر دولة من دول العالم الحر، وبالتالي فإن الدفاع عنها وعن الشرق الأوسط عموما أمر حيوي لها وللأمم الديمقراطية على السواء. (2)
لا يمكن تأمين الدفاع عن مصر وعن الدول الأخرى في الشرق الأوسط ضد العدوان الخارجي إلا بالتعاون بين جميع الدول التي يهمها الأمر. (3)
لا يمكن ضمان الدفاع عن مصر إلا عن طريق الدفاع الفعال عن منطقة الشرق الأوسط وتنسيقه مع الدفاع عن المناطق المتاخمة. (4)
بناء على ذلك، يبدو من المرغوب فيه إنشاء قيادة متحالفة للشرق الأوسط، تشترك فيها الدول القادرة على الدفاع عن المنطقة والراغبة في المساهمة فيه، وإن المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا مستعدة لأن تشترك مع الدول الأخرى التي يهمها الأمر في إنشاء مثل هذه القيادة، فضلا عن أن أستراليا ونيوزيلندا واتحاد جنوب أفريقيا قد أعربت عن اهتمامها بالدفاع عن هذه المنطقة، ووافقت من حيث المبدأ على الاشتراك في القيادة. (5)
مصر مدعوة للاشتراك كعضو مؤسس في القيادة المتحالفة للشرق الأوسط، على أساس المساواة والمشاركة مع الأعضاء المؤسسين الآخرين. (6)
إذا كانت مصر مستعدة للتعاون الكامل في هيئة القيادة المتحالفة للشرق الأوسط وفقا لأحكام الملحق المرافق، فإن حكومة جلالة الملك تكون من جانبها راغبة في الموافقة على أن تسحب من مصر تلك القوات البريطانية التي لا تخصص للقيادة المتحالفة للشرق الأوسط، باتفاق بين الحكومة المصرية وحكومات الدول المشتركة كذلك، كأعضاء مؤسسين في هيئة القيادة المتحالفة للشرق الأوسط. (7)
وفيما يختص بالقوات المسلحة المزمع وضعها تحت تصرف القيادة المتحالفة للشرق الأوسط، وتقديم التسهيلات الضرورية للدفاع الاستراتيجي إلى هذه القيادة كالقواعد العسكرية والجوية والمواصلات والموانئ ... إلخ، فإنه ينتظر من مصر أن تبذل مساهمتها على قدم المساواة مع الدول الأخرى المشتركة. (8)
وتمشيا مع روح هذه الترتيبات، تدعى مصر لقبول مركز عال من حيث السلطة والمسئولية في القيادة المتحالفة للشرق الأوسط، ولتعيين ضباط مصريين لإدماجهم في هيئة أركان حرب القيادة المتحالفة للشرق الأوسط. (9)
ستقدم إلى مصر التسهيلات لتدريب وإعداد قواتها من قبل الأعضاء المشتركين في القيادة المتحالفة للشرق الأوسط الذين هم في مركز يسمح بتقديمها. (10)
ستضع الدول التي يهمها الأمر فيها بعد ، بالتشاور فيما بينها، النظام التفصيلي للهيئة المتحالفة للدفاع عن الشرق الأوسط، وتحدد علاقاتها بهيئة معاهدة شمال الأطلنطي، ولهذا الغرض يقترح أن يرسل جميع الأعضاء المؤسسين للقيادة المتحالفة للشرق الأوسط ممثلين عسكريين إلى اجتماع يعقد في المستقبل القريب بغرض إعداد مقترحات تفصيلية لعرضها على الحكومات صاحبة الشأن.
ملحق (1)
بالمساهمة مع الدول الأخرى المشتركة التي تساهم بقسط مماثل في الدفاع عن المنطقة: (أ)
توافق مصر على أن تمنح قيادة الشرق الأوسط المقترحة على أرضها تسهيلات للدفاع الاستراتيجي وجميع التسهيلات الأخرى اللازمة لتنظيم الدفاع عن الشرق الأوسط وقت السلم. (ب)
وتتعهد مصر بأن تمنح قوات القيادة المتحالفة للشرق الأوسط جميع التسهيلات والمساعدات الضرورية في حالة الحرب أو التهديد بحرب وشيكة أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها، بما في ذلك استعمال الموانئ والمطارات ووسائل المواصلات. (2)
ويؤمل كذلك أن توافق مصر على أن تكون قيادة القائد الأعلى للحلفاء في أرضها. (3)
تمشيا مع روح هذه الترتيبات يكون مفهوما: (أ)
أن تسلم إلى مصر رسميا القاعدة البريطانية الحالية فيها، على أن يكون مفهوما أنها تصبح في نفس الوقت قاعدة للحلفاء تتبع القيادة المتحالفة في الشرق الأوسط مع اشتراك مصر اشتراكا تاما في إدارتها في وقت السلم وفي وقت الحرب. (ب)
يحدد من وقت لآخر بمعرفة الأمم المشتركة بما فيها مصر عدد القوات المتحالفة للأمم المشتركة التي ترابط في مصر وقت السلم، وذلك تبعا لاطراد نمو القوات التابعة للقيادة المتحالفة في الشرق الأوسط. (4)
ويكون مفهوما كذلك أن تنشأ هيئة للدفاع الدولي تضم قوات مصرية ومتحالفة تحت قيادة ضباط ذي مسئوليات مشتركة نحو الحكومة المصرية والقيادة المتحالفة في الشرق الأوسط، وذلك لحماية مصر وقاعدة الحلفاء.
13 أكتوبر سنة 1951
من أهم المصادر والمراجع
(1) مصر طريق للتجارة بين الشرق والغرب (1)
Charles-Roux, J.: Autour d’Une Route . (2)
Charles-Roux, J.: L’Isthme, et Le Canal de Suez. Paris. 1901. 2 vols . (3)
Ghorbal S. Bey: The Beginnings of the Egyptian Question London 1928 . (4)
Hoskins H. L.: British Routes to India Longmans. 1928 . (2) موقف إنجلترا من امتياز ومشروع قناة السويس
زيادة على المراجع السابقة: (5)
Fitzgerald, P.: The Great Canal at Suez. 1876 . (6)
في السنوات 1854-1869
Foreign Office. 78 Turkey . (7)
Foreign Office Suez Canal
. (8)
Hallberg, C. W. The Suez Canal. New York 1931 . (9)
Hansard’s Parliamentary Debates . (10)
De Lesseps F.: Inquiry into the Opinion of the Commercial Classes of Britain . (11)
De Lesseps F.: Journal et Documents . (12)
Martin, E.: L’Angleterre et Le Canal de Suez. Paris 1892 . (13)
Mc. Coan J. C.: Egypt as it is. 1877 . (14)
لوصف العلاقات الإنجليزية الفرنسية
Safwat M. M.: Tunis and the Great Powers . (15)
Wilson, A. T.: The Suez Canal. London 1939 . (16)
الأستاذ عبد العزيز الشناوي: السخرة في حفر قناة السويس في عهد سعيد باشا، رسالة للماجستير تحت إشراف محمد شفيق غربال بك. (3) ديزريلي وقناة السويس
زيادة على المراجع السابقة: (17)
Buckle G.F.: Life of Disraeli. London 1929 . (18)
الوثائق الفرنسية الدبلوماسية التي نشرتها الحكومة الفرنسية عقب الحرب الكبرى الأولى:
Documents Diplomatiques Français . (19)
Seton-Watson: Disraeli and Gladstone. (20)
الدكتور محمد مصطفى صفوت: موقف ألمانيا إزاء المسألة المصرية، مجلة كلية الآداب 1948، ومجلة الجمعية التاريخية الملكية العدد الأول 1948. (4) احتلال الإنجليز لقناة السويس (21)
الدكتور محمد مصطفى صفوت: الاحتلال الإنجليزي لمصر وموقف الدول الكبرى إزاءه، دار الفكر العربي 1952. (22)
Blue Book of 1882. (23)
وتوجد المناقشات في البرلمان الفرنسي في
Journal Officiel . (5) إنجلترا وتحديد مركز القناة
زيادة على المراجع السابقة: (24)
الدكتور عبد الله رشوان: المركز الدولي لقناة السويس ونظائرها 1950. (25)
Blue Books 1886 . (26)
محمد رفعت باشا: التيارات السياسية في البحر الأبيض المتوسط 1949. (6، 7) إنجلترا والقناة من 1888-1935، 1935-؟
زيادة على المراجع السابقة: (27)
Earle, E. M.: Turkey, the Great Powers and the Baghdad Railway. New York 1923 . (28)
Langer, W.: Diplomacy of Imperialism 2 vols . (29)
Langer, W.: Alliances. New York . (30)
Documents on International Affairs, Oxford, University
. مجلدات سنوات 1929، 1930، 1936. (31)
Survey of International Affairs . لسنوات 1930، 1936. (32)
صحيفة الأهرام وخاصة من سنة 1951-1952. (33)
صحيفة التيمز اللندنية من سنة 1950-1952. (34)
Verbatim Records of the discussions of the Security Council concerning the Anglo-Egyptian Dispute 1947 . (35)
الكتاب الأخضر للحكومة المصرية عن مفاوضات 1950-1951. (36)
Anglo Egyptian Conversations on the Defence of Suez Canal and on the Sudan 1950-1951 . وهو الكتاب الرسمي للحكومة البريطانية عن المفاوضات المصرية الإنجليزية في سنتي 1950، 1951.
Bog aan la aqoon