فقبضت روزه على يديها بحنو، وقالت لها وهي تتكلف الابتسام: لا تقلقي أيتها العزيزة، فما هذه إلا نوبة عصبية تنتابني أحيانا. - فدتك نفسي أيتها الحبيبة، إني لم أكن أتصور أن أراك على هذه الحال من الضعف والهزال، وإنه ليؤلمني فراقك على هذه الصورة، ولا يهدأ لي بال إلا إذا أتحفتني بالأخبار السارة عنك من وقت إلى آخر.
ثم رسمت على جبينها قبلة جمعت معاني الطهر والوداد، فوعدتها روزه بذلك، وبعد حصة قضتها الصديقتان بين أحاديث متفرعة، نهضت ماري وودعت صديقتها، فكان وداعا مؤثرا في فؤاد روزه كامن الحزن، وزادها أسى ما رأت في رفيقة صباها من علائم الود، فجعل قلبها بخفق بشدة، وكادت شفتاها تبوحان بأسرار فؤادها لماري؛ ولكنها ما عتمت أن ملكت رشدها، واسترجعت قوتها، فهزت يد صديقتها، وهي تتمنى لها سفرا سعيدا.
ثم سارت نحو الباب، والتفتت إلى صديقتها وهي تكفكف دموعها، فقالت لها: إن قلبي يأبى مطاوعتي على الذهاب، ولكن ما العمل؟ فإن والدي وعزيزا ينتظراني لتهيئة ما يلزم للسفر حتى نكون غدا صباحا على استعداد تام للرحيل، فلا بد إذن من المسير، ولا يبرح من ذهنك أن تكتبي إلي في أول فرصة.
فانقضت كلماتها على قلب روزه كالصاعقة، ولم تقو على احتمال تلك الضربة، فلمعت مقلتاها، وفغرت فاها لدى تفوه صديقتها بالعبارة الأخيرة، وكادت تقول لها: ردي علي حبيبي. غير أن ماري كانت قد توارت خارج الباب، فسقطت خائرة القوى، يكاد يقضى عليها من الغم والأسى، وقد حاولت البكاء فخانها الدمع بما استوقد صدرها وضرم أنفاسها. فنهضت واجمة، وهي تطالب الحمام، وتنادي القبر لتلجأ إليه من ذلك العذاب الذي قوض دعائم اصطبارها، ثم اقتربت من النافذة لعلها تلقى من نسيم الروض تحية تنعش منها الفؤاد، فألقت نظرها على ذلك الشارع الكبير الغاص بالعربات والخيول التي تقل المتنزهين من رجال وسيدات وأولاد، وقد أرسلت عليهم الشمس أشعتها السنجابية مودعة قبل الأفول ... وما هي إلا لحظة حتى استردتها إليها، وتوارت خلف حجابها؛ كي تجلب إلى الفم قبلة لا أمل بعدها بلقاء.
فابتسمت روزه ابتسامة السويداء، وقالت: هكذا قد آذنت شمس حياتي بالزوال، ولكن قبل ساعة المغيب، فوداعا أيها العالم المملوء من المسرات، ووداعا أيتها الشمس التي ستنشرين جناح أشعتك غدا على قبري. أستحلفك بأن تترفقي بحال الأزهار التي ستنبت حول ضريحي، فلا تمسيها بأذى، بل تزودي الآن من أدمعي ما يلطف حر أنفاسك.
وعقب ذلك دمعة سقطت على خدها كقطرة الندى، فأخذتها على طرف أنملها، وأرسلتها مع الهواء، ثم ألقت نظرة أخيرة على الشارع وهمت بالرجوع.
وعند ذلك استوقف بصرها أحد المارين، وكان يشبه عزيزا بقامته ومشيته، فلبثت ترقبه إلى أن اقترب من منزلها، فتبينته جيدا فإذا هو عزيز بعينه، وكان يتقدم نحو الباب، فظنته قادما لعيادتها لدى علمه بأنها مريضة، فارتعشت كمن مسها سلك كهربائي، ولكنها لبثت واقفة تغالب اضطرابها وضعفها، وقد صممت على امتلاك نفسها أمامه - إن هو زارها - والتظاهر بما يوافق كبرياءها ويخالف شعورها.
وما كاد عزيز يقترب من باب منزلها، حتى ظهرت ماري على عتبته، وإذ شاهدت خطيبها أسرعت نحوه فتصافحا، ولبثا حينا يتحدثان وعلائم الحب والارتياح مرسومة على محياهما، وفي نظراتهما، وابتساماتهما، وما عتما بعد ذلك أن سارا متجهين نحو منزل ماري.
ولما عاينت روزه ذلك منهما، ورأت عزيزا عدل عن زيارتها، وعاد برفقة ماري، زفرت زفرة كادت تنقصف منها ضلوعها، وسقطت مغمى عليها.
ولم يكن قد أخطأ ظنها، فإن عزيزا حين بلغه خبر مرض روزه صمم على زيارتها رغما عما يعترضه من الخزي والتأثر، فاتفق خروج ماري ساعتئذ وتلاقيها به، فشغلته رؤيتها عن كل إنسان، ولا سيما أنها سألته أن يرافقها إلى منزلها فأطاعها، ومن يرفض خدمة سيدة تكلفه بقضائها، ولا سيما إذا كانت تلك السيدة عزيزة عنده، ثم جعل يسألها عن روزه أثناء مسيرهما، فحدثته بما أعاد إليه بالطمأنينة، وأكد له زوال الخطر عنها.
Bog aan la aqoon