أما روزه، فلبثت حينا ذاهلة تفكر فيما آلت إليه حالها، ثم نهضت وهي تكفكف العبرات، واتجهت نحو منزلها، وقبل أن تلج الباب رأت أباها خارجا وبيده رزمة ورق، فتقدمت إليه، وألقت نفسها بين ذراعيه، وانخرطت في البكاء.
فوقف يوسف لدى رؤية ابنته على تلك الحال، وجعل يقبلها، ويسألها عن سبب حزنها، ثم دخل بها إلى إحدى المقاصير، وجلس على مقعد، ودعا ابنته إلى الجلوس.
فاقتربت روزه، وجثت على قدمي والدها، وقالت بنغمة تمازجها الرزانة والاحترام: صفحا منك يا أبت عن ذنب اقترفته نحوك، وهو كتماني عنك أمرا كان يجب علي إفشاؤه إليك وإطلاعك دون سائر الخلق عليه؛ هو أني همت بسجايا الفتى عزيز صديقك، وأخلصت له الود، وتعاهدنا على الحب بعد أن نمت نواظرنا على أسرار قلبينا، وبرهن خفقان فؤادينا لكل منا ما لم تجسر الألسنة على إيضاحه ...
ولما رأى ما بيننا من تباين المنزلة والثروة، صمم على الارتقاء إلى ذروة العلاء من أقصر سبيل؛ لكي يتمكن في وقت قريب من مماثلتك والتشرف بمصاهرتك، فاقترض مبلغا من خزينتك آملا بأن يربح أضعافه في البورصة، فيكون له منه عون على نيل مبتغاه، ولكن جرت التقادير بغير المأمول، فعادت عليه النتيجة بالفضيحة والخسارة؛ وما ذلك إلا لأجلي. فأبتهل إليك يا أبت، وأستحلفك باسم والدتي، وبأثمن تذكار لديك أن تسامح هذا الشاب، وتتنازل له عن هذا المبلغ الذي خسره، بعد أن علمت أنه لم يقصد بذلك سرقة أموالك ونهب خزينتك، وأن تكذب ما جاءت به الجرائد من الأقوال عنه؛ فتنقذ بذلك اسمه من العار ...
وإني أعدك وعدا صادقا شريفا، وأقسم لك بشرف أسرتنا بأنني لا أرضى باقتراني به بعد الآن؛ ليثبت لك أن قصدي ليس إلا تخليصه من عقاب أنا كنت السبب في جلبه عليه، وعار لا ينبغي أن نتركه يلتحف به، وإذا كان لا بد لك من شخص تعاقبه فليس لديك سوى ابنتك التي سببت لك خسارة المال، وجلبت عليك العار والوبال، وها أنذا ذاهبة إلى الدير أقضي فيه بقية حياتي؛ لأكفر عن سيئاتي، وإن لم يكفك ذلك فأنا مستعدة لأن أتحمل كل ما تفرضه علي عدالتك، بشرط ألا يكون لي شريك في العقاب.
وكانت روزه تتكلم وفي لهجتها وحركاتها دلائل العزم والثبات، وكان والدها يصغي إلى كلامها معجبا بشهامتها وعزة نفسها. ولما انتهت إلى هذه العبارة انحنى فوقها، فطوقها بذراعيه، ووعدها بالصفح عن عزيز، ثم أنهضها وأجلسها إلى جانبه، وجعل يمسح دموعها بمنديله، فقبلت يديه شكرا وامتنانا، ثم قالت وصوتها يخنقه البكاء: إن اليأس قد بلغ معظمه من ذلك المسكين عزيز يا أبت، وأخشى أن يقوده ذلك إلى ما لا تحمد عقباه؛ لأني سمعته يقول وهو خارج للمرة الأخيرة من منزلنا: إلى الموت ... إلى الموت.
فقاطعها الأب قائلا بحدة: ويحه من أحمق جاهل، فهل سولت له نفسه الانتحار؟ - ربما كان ذلك. - سأبعث بمن يأتي به إلي سريعا، فأبلغه صفحي عنه. - ولكن ربما لا يأتي؛ فقد بلوت طباعه، وتحققت عزة نفسه، فهو يستسهل لقاء المنون على المثول بين يديك الآن بعد إقراره أمامك بإثمه، ولا سيما أنه لا يعرف لأي سبب تدعوه إليك، فهو لا يحلم بصفحك، ولا ترضى نفسه احتمال سخطك، فما ضر لو كتبت إليه كتابا تمنحه فيه عفوك، وتضمنه بضعة أسطر تكذب أقوال الجرائد؛ حتى إذا ما حصل عليه زال منه اليأس، واستعمل شهادتك فيما يبرئ ساحته ويصون اسمه، فإن حياته يا أبت مرهونة على كلمة عزاء، وربما تأخير دقيقة قربه مسافة من القبر.
فأشار يوسف برأسه إشارة تعني أنه مقتنع من حديث ابنته، واقترب من منضدة صغيرة، فتناول قلما وقرطاسا، وجعل يكتب وروزه واقفة وراءه دامعة الطرف، تنتظر بذاهب الصبر إنجاز تلك السطور التي فيها حياة حبيبها وشرفه.
ولما فرغ يوسف من كتابة التبرئة، تلاها على مسمع من ابنته، وزاد على ذلك قوله: إني أعدك يا ابنتي بقبول عزيز قرينا لك ما دمت تحبينه إلى هذا الحد، وما دام ارتكابه هذا الإثم لم يكن إلا طمعا في الوصول إليك.
فارتمت الفتاة على قدميه تغسلهما بدموعها، وتشكره على ما أبدى من الرقة والانعطاف، فأنهضها، وعانقها، ثم دفع الكتاب إلى أحد خدمه بعد أن عنونه باسم عزيز، وأمره بأن يوصله إليه، وخرج بعد ذلك عائدا إلى مصرفه.
Bog aan la aqoon