إننا نسلم بوجوب تناسب التعليم مع حاجات الناس، وبوجوب إنشاء المدارس وفق بيئتها، وبوجوب تكييف منهاج التدريس لتلتئم والأحوال المحلية الاجتماعية والاقتصادية. إننا نسلم بكل ذلك. وإننا لذلك نقول لحضرة الأساتذة الأفاضل المشتركين في وضع هذا التقرير: إن في بيئات البلاد سيطرة أجنبية، وإن أحوال البلاد توجب القضاء على هذه السيطرة، وإن أول حاجات الناس، في أي بلد كان، هي أن يكونوا أحرارا مستقلين، وإن هذا المثل الأعلى في الوطنية لا يدرك ما دام الأجانب مسيطرين سياسيا واقتصاديا في البلاد. ونقول كذلك إن مواهب أبناء البلاد وآدابهم - ما دام الوطن في هذه الحال - لا تبلغ الدرجة العليا المنشودة. تلك هي حال البلاد، وحاجات أهلها. وتلك هي طعنة ساطع الأخيرة في سبيل التعليم الوطني.
بعد ذلك يقف المتبارزان ويبتسمان ابتسامة الاعتذار والمجاملة. فإن الأستاذين الفاضلين - صديقي العربي والأميركي - في سوى ما تقدم، متفقان. ولكن الأستاذ ساطعا لا يستطيع، وهو يخاطب اللجنة ورئيسها، أن ينسى خصومه السياسيين ببغداد. وكيف ينساهم؟ وهم الذين أرادوا إذلاله في جلب هذه اللجنة الأجنبية، وهو الأخصائي الوطني في التعليم والتربية، وهو العالم العامل، المجرب المدرب، واسع الاطلاع والخبرة في موضوعه - بشهادة خصمه الأميركي - كيف ينساهم وهم يزدرونه ويحملون حتى الملك على إهماله وهجره؟ أفينتظرون منه بعد كل هذا، أن يقابل اللجنة المحترمة بوجه باسم، وقلب هادئ، وعقل مستكن؟! أبشر هو أم إله؟ لا ورب الكعبة، إنما هو عربي، يغضب ويصول، ويكتب الفصول، في الدفاع عن نفسه وعن علمه. ولا يلام إذا ما دقق في التشريح، ولا يؤاخذ بالشيء القليل أو الكثير من التعنت. فهو - دام فضلك - أستاذ، وهو أخصائي!
والغريب في هذه الكرامة المجروحة أنها تعدي، فقد سرت منها جرثومة إلى الخصم الكريم، الأستاذ الأميركي الأفضل، الناشئ بين ثلوج العقل، المشرب روح القطب الشمالي. نعم، سرت إليه، فتحللت عقدة النفس المربوطة المضبوطة. فأسمعنا في جوابه الوجيز، تحت صليل سلاحه العلمي والعقلي، همسات قارسة. بل جاءنا، في كلمتين، بقطرتين من حامض الكربونيك. «كنا نتوقع منكم هذا الموقف الانتقادي ... والكثيرون من رجال الحكومة ودوائر المعارف أنذرونا سلفا بمقاومتكم ... نعم لقد كان هذا الموقف معلوما قبل أن تطلعوا على التقرر. وذلك ما يخفف من حدة المقاومة، ويذهب بلذعة الانتقاد.»
ثم رد الأستاذ على الرد فكان شاكرا حامدا مبتهجا. وكيف لا يبتهج، ورئيس اللجنة نفسه يعترف بما فيه الدليل على تلك الحملة المدبرة! فإن أولئك الذين أنذروا اللجنة هم زملاء من سعوا لجلبها «للكشف التعليمي». فلا يلام أحد سواهم إذا ما انقلب الكشف عليهم وغدا تكشيفا! بيد أن الأستاذ ينكر أن في ما كتب شيئا من الحقد أو سوء القصد. وهو يؤكد للدكتور منرو أنه ما فكر في انتقاد اللجنة قبل أن قرأ تقريرها.
ثم عاد المتبارزان إلى الابتسام، فقد أحس الدكتور منرو ببعض التعزية في أن ساطع بك لم ينتقد ما وضعته اللجنة من الاقتراحات العامة الأصلية. «وفي ذلك ما يحملني على الأمل أن موقفكم العدائي لن يتصل بجهود الشبان الذين سيعهد إليهم بتنفيذ هذه الاقتراحات. إن هؤلاء الشبان يحملون مثلي في قلوبهم أكبر الاحترام لاختباركم الكثير، واطلاعكم الواسع ... ويعرفون أن ما بذلتموه من الجهد والمقدرة في وضع نظام المعارف الحالي هو أكثر من أية خدمة أقوم أنا بها بوساطة هذا التقرير.»
فأحنى الأستاذ ساطع رأسه دون أن يبتسم لابتسام الأستاذ منرو، ودون أن يقتدي به في المجاملة. فإنه يعرف أولئك الشبان - وهم عراقيون كملوا دروسهم في جامعات أميركية - هو يعرفهم كل المعرفة. «وقد عودتهم على سماع آرائي فيهم بكل صراحة ... غير أني أعتقد أن أكبر مساعدة معنوية أستطيع أن أسديها إليهم الآن هي السعي لتوسيع أفق ملاحظاتهم فتتعدى الدائرة الضيقة التي هم فيها، ولحملهم على تدقيق الأمور بنظرة محلية تستمد أنوارها مما يجري في جميع بلاد العالم، لا مما يجري في قطر من الأقطار على وجه الانحصار.»
أقف ها هنا والأستاذين الأخصائيين في التعليم وفي المبارزة، واستأذنهما بكلمة أنقلها من التقرير، لأختم بها هذا الفصل. وهي في نظري من أحسن ما جاء فيه، فتحدد التعليم تحديدا ملما مستوفيا، تحديدا شاملا يصح في روسيا أو في الصين، كما يصح في العراق. جاء في التقرير (صفحة 101):
إن مهمة التعليم هي بث العلم الصحيح بين عموم الناس بقدر ما تأذن الأحوال من الاطراد والتوسع؛ لينقذهم من الأمية والفقر والأمراض والخرافات، ويقوي ثقتهم بأنفسهم، وبمستقبل بلادهم، ويزيد في إنتاجهم الاقتصادي والزراعي. وبكلمة أخرى؛ ليضمن العيش الهنيء للشعب، والفلاح للأمة.
إن هذا التحديد لمهنة التعليم هو أحسن ما قرأت، وأحسن ما أختم به هذا الفصل. وإني أحب في آخر الختمة أن أعيد وأمكن هذه الكلمات: «لينقذهم من الأمية والفقر والأمراض والخرافات.»
في واحات الشعر
Bog aan la aqoon