وهاكم القصة. كنت في ذاك النهار خطيب الحفلة الأولى في المعرض، فجئت قبل الوقت المعين لأنجو من الزحام الذي وقعت فيه. فأين لجنة الاستقبال تنقذني، وتضمن سلامة الحفلة التي أنا خطيبها؟ اللجنة هي هذه اللجة من الناس المحتشدين في الشارع، وفي الساحة، أمام المدخل الوحيد إلى أرض المعرض. هي لجنة هائلة، وما هي على شيء من لطف الاستقبال، أو من حب المجاملة.
وما كان الذنب ذنبي في خوض عبابها، فقد رأيت عندما وصلت ثلة من الشرطة تغالب الجماهير، وأخرى من الخيالة تشذبها؛ لتفتح الطريق إلى المدخل، وتحفظ النظام. ورأيت تلك الجماهير من المدن ومن العشائر - من حضر وبدو وأكراد - يتزاحمون ويتدافعون ويتضاغطون، وبينهم النساء المحجبات والسافرات - يهوديات ومسيحيات - وهن في تلك اللجج كالأزهار في الإعصار.
ومن أعجب ما شاهدت في احتشاد الناس أن الجماهير العراقية غير صخابة. فهي تتموج ساكنة هادئة، وتتضاغط وتتدافع بشدة وبطء دون أن يسمع لها صوت أو أنين، كأنه قطع من الجماد تحركها يد جبارة خفية. وكانت في تلك الساعة تدفعها دفعا بطيئا عنيفا قاهرا نحو بوابة موصدة يحرسها شرطيان لا غير.
وقفت مترددا في الطريق التي فتحتها الخيالة، وما آنست من رفيقي شجاعة على الإقدام، وبينا نحن كذلك دهشت الدهشة الثانية، الدهشة الكبرى، فقد رأيت على حاشية اللجة السيد نوري السعيد رئيس الوزراء في تلك الأيام، فلفت إليه نظر الرفيق، فاستبشر وقال: لنتبع الباشا ولا خوف علينا.
عجبت لصروف الزمان، فقد أعاد إلى ذهني هذا الرئيس مشهدا من مشاهد الدولة العثمانية في الأستانة. وكان هناك أبهة ملك وازدحام، وكانت الخيالة تخترق اللجج البشرية وتدفع بها يمنة ويسرة، دون أن تبالي بما تفعله سنابك الخيل؛ لتفتح الطريق لعربة الصدر الأعظم، السائرة في موكب فخم إلى الباب العالي . لله من صروف الدهر، وتقلب الزمان!
ليس العراق - وإن استقل ودخل في عصبة الأمم - بالدولة العثمانية. ولكنه ذو سيادة ودستور وبرلمان، والصدر الأعظم فيه شخصية بارزة، وقوة في البلاد نافذة. وهو مع ذلك يحضر الاجتماعات العمومية غالبا وحده، دون مرافق عسكري أو مدني. إن نوري السعيد لمن أخلص الوزراء في روحه الديمقراطية الوادعة، وإنه أصغرهم سنا، وأكثرهم إقداما، وأغناهم في ما عنده من بشاشة وسكينة، فتراه، والسيكارة في فمه، والسبحة بيده، طلق المحيا، هادئ البال على الدوام.
عندما أشار رفيقي بأن نتبعه قلت في نفسي: ولا بأس على من يمشي في ظل حاكم البلاد. فإن السبحة بيده، إذا ما أومأ بها، لتفعل ما لا تفعله ثلة من الشرطة.
توكلنا على الله وأقدمنا، فإذا بنوري السعيد، وقد رآني، يرفع يده، ويومئ بالسبحة والبسمة أن أقدما، كأنه يدعونا إلى طبق من البقلاوة. فأسرعنا إذاك مصدرين أرواحنا، وما عتمنا أن صرنا في ظله، فغمرتنا اللجة، وتوارينا وإياه فيها.
وكانت تزداد ثقلا وراءنا وصلابة أمامنا، فوقفنا متراصين متلاصقين نكاد نفقد النفس - نغص بالهواء. ولولا صرخات لبعض النساء لما سمعنا للحشد صوتا غير ذاك الذي يخرج من تحت الأحذية عندما يستحيل المشي على المحتشدين فيزحفون زحفا.
هي ضغطة القبر. وكان الوزير الأكبر أمامنا ساكتا هادئا مثل غيره من الناس. وما أحد - على ما أظن - عرفه غيرنا. إلا أنه كان يحاول أن يصل إلى مكان يرى منه الشرطي، فيأمره بفتح الباب.
Bog aan la aqoon