فلا تعجبن إذا كانت تلك الحسناء الملتفة بمعطف من الفرو الغالي، المخبئة سهام لحظها وراء نظارات زرق، الحاملة حقيبة تحتوي على أسباب التبرج كلها - من المكحلة إلى الأصبع القرمزية - لا تعجبن إذا كانت أخصائية في العلوم والآثار الآشورية.
إنها لأهل في كل حال لمشاركة زوجها، مسرات الأسفار، وحفر الآثار. أجل، هي أهل لأن تتمتع وإياه بملذات الحياة في حفر قبور الأقدمين، وخصوصا في البلاد الشرقية، الغنية في روحها، وفي ما تحت أرضها.
وإذا كانت القبور لا تستهوي هذه المرأة الغازية، فهناك في موضع التنقيب دار فسيحة جميلة تقيم فيها، وهي السيدة الآمرة الناهية، كأنها ملكة أور، أو أميرة من أميرات آشور.
وبكلمة أخرى هي ربة بيت البعثة، المفروش بأحدث أنواع الأثاث وأفخرها، المجهز بالأنوار الكهربائية وبالحمامات، الحافل بالكتب والصور والرسوم. قلت بيت البعثة فأخطأت. إن لكل بعثة من البعثات الكبيرة بيوتا عديدة، فهذا بيت الإدارة، وذاك للرسم والتصوير، والثالث للأعمال الكيماوية والميكانيكية، وهذا مخزن البعثة، وذاك بيت خدامها، والآخر بيت لسياراتها ، فضلا عن بيوت الحيوانات الداجنة.
والجامعات الأميركية الكبرى تعين هذه البعثات أو تنفق في سبيلها النفقات الطائلة من أموال يهبها المحسنون، أو من وقفيات يقفها المتمولون على العلم والثقافة. فهل تستحق الأعمال الأثرية - والأثريون والأثريات - كل ما ينفق منها في هذا السبيل؟ إن لهذا السؤال جوابين: جوابا يتعلق بما يحرز من العلم، والآخر بما يحرز من نفائس الآثار ونوادرها. وللقارئ أن يجيب على السؤال من ناحيتيه، بعد أن يقرأ بياننا عن الغزوات الأثرية في العراق. •••
لا أظن أن في العالم بلادا تعددت فيها البعثات الأثرية تعددها اليوم في العراق. ولكن العلم بتاريخ البلاد القديم كان يقصر، منذ سنوات، على المملكتين البابلية والآشورية، وعاصمتيهما بابل ونينوى. أما بعد ذلك؛ أي منذ سنة 1922، عندما باشرت البعثة الإنكليزية الأميركية التنقيب في أور، فقد فتح كنز من كنوز العلم جديد، وكنز آخر من الآثار العجيبة، والتحف الثمينة، التي زادت بغنى المتاحف الإنكليزية والأميركية، وكانت الباكورة في تأسيس متحف صغير ببغداد.
إذن لقد عمق علمنا بتاريخ بلاد الرافدين. وما بابل ونينوى في القدم إلى جانب ما تقدمهما من المدن والدول؟ إني لأتخيل علماء آشور يحدثون في زمانهم، كما نحدث نحن في زماننا، عن ثقافة الحوريين، وفتوحات العيلاميين، ومجد السومريين الأقدمين.
وفي وصولنا إلى أعماق أور ونوزي قد لا نكون أدركنا الأوليات، فقد يجوز لنا أن نسأل: وبعد أور ماذا؟ أو من هم أجداد السومريين؟ ومن أين استمد أهل أور نورهم - من أين استقوا معارفهم؟ إن الأثريين مستمرون في الحفر والتنقيب، في أعماق الأرض، وفي القبور، طالبين العلم والنور. فهم يخترقون طبقة بعد طبقة من الأرض، ويعثرون في كل مكان من بلاد الرافدين الصغيرة، على مدن مدفونة تحت المقابر، وعلى تلال متهدمة تحت أساس الهياكل والقصور. لقد كسفت أور الكلدانيين بابل ونينوى. وهناك غير أور من المدن القديمة المكتشفة، التي كانت مدفونة بعضها تحت بعض، منها أروك (الوركاء) ولرسا ولاكاش وإشنونا وكيش ونوزي وسلوقية. فلا عجب إذا اجتذب العراق الأثريين.
إن في البلاد اليوم ثلاث عشرة بعثة أثرية أجنبية. ففي الشمال ينقب الإنكليزي في نينوى، والأميركيون في خورسباد، وفي تل بلا وتبه غورا، وفي نوزي وكركوك. وفي وسط العراق، في إشنونا وخفاجي وسلوقية، بعثات أميركية أخرى. وهناك بعثة مشتركة أميركية ألمانية، في تيسفون، وأخرى أميركية إنكليزية، في كيش. أما في الجنوب فالألمان ينقبون في أروك، والفرنسيون في كيش، والأميركيون والبريطانيون في أور، ثم جاء أخيرا الأثريون الطليان، فأعطوا امتيازا للتنقيب في مكان يدعى ككسو على ضفة نهر الزاب الكبير. وقد اكتشفت هذه البعثة الطليانية مقبرة من عهد البرثيين المعروفين في التاريخ العربي باسم إشكان، ومدينة أقدم منها من عهد سنحاريب.
ولكن أهم البعثات التي تنقب في الشمال هي البعثة الأميركية في دور شروقين التي تدعى اليوم خورسباد، فقد حفروا إلى قلب التل الذي بنيت عليه بيوت البعثة، وهم من إيوان بيتهم الجديد المنار بالكهرباء يطلون على غرفة العرش في قصر سرجون الثاني تحتهم. وقد اهتدوا إلى سور المدينة - مدينة خورسباد - التي بناها، على ما يظن، الأسرى الإسرائيليون الذين كانوا قد أجلوا في ذلك العهد عن فلسطين. واكتشفوا شيئا كثيرا من التماثيل الآشورية الضخمة السليمة والمحطمة، المصنوعة من أنواع الرخام التي نشاهدها اليوم في أبنية الموصل.
Bog aan la aqoon