وهي رحبة ذات ثلاث طبقات، الثانية منها تبرز فوق الأولى برواشنها الممتدة على طول البناء، وللثالثة رواشن فوق رواشن الثانية، وكلها من الخشب الهندي النادر جودة وصنعا. وهناك من الحواجز للشبابيك ما يبعث على الظن أن أهل الدار الأولين كانوا متشائمين بالحياة، متحذرين من بوادرها، ومن إغارات بدوها، فهذا الزجاج، وهذه شعريات الخشب، وهذه قضبان الحديد، حواجز ثلاثة لا يخترقها غير الجن.
فليطمئن بال الخاتون، ولتطمئن الحوريات المكنونات. إن ها هنا الأمن والسلام، والسجن! وإن شئت التنزه يا سيدتي، كان لك ذلك في الروشن المعلق فوق دجلة، تجلسين هناك، وتسرحين النظر في ما تحتك، فترين الأسماك ترقص في المياه الجارية، وإذا أخذتكن نزعة الحرية أيتها الحسان، وشئتن الفرار من سجنكن في الليلة المقمرة، فالزورق عند الدرج والنوتي حاضر مطيع، وإن جرى هذا الزورق من هذا المكان في الرصافة جريا قويما كان مرساه في الكرخ عند درج آخر، أسفله في الماء، وأعلاه أمام بوابة السفارة البريطانية ...
وهذه سيارة براقة خضراء تملأ الحي بصوت بوقها، فتقف أمام بوابة وسط الجادة، فتنزل الخاتون ذات العباءة السوداء والقناع، وتختفي قبل أن يقفل السائق الباب - تعود إلى سجنها المحبوب. ويعود السائق إلى مكانه وراء الدولاب، فيسوق متقهقرا إلى شارع المستنصر.
هو ذا القديم والجديد في الجادة الواحدة، وسيمسي هذا الجديد قديما وسيزول ذلك القديم، وقد يتداعى الدرج فتذهب حجارته في النهر، وتسقط الرواشن فتحملها الأمواج، ويظل النهر يجري جريه الأبدي إلى البحر، صورة من الجديد وأخرى من القديم، تنعمان ثم تفنيان أمام دجلة الخالدة.
وفي شارع المستنصر إلى جانب القديم جديد من غير الغرب، فيا يجدد صرح للشرع الشريف، فهاكم جامع المحكمة، وليس فيه ما يستوقف البصر غير المأذنة الخضراء الصفراء البيضاء. بل فيه ما يستغرب مما لا يلتئم وجمال المأذنة، وما يستنكر في مكانه، فيه صحن خال خاو، ومصطبة للصلاة مفروشة بحصير، ومرحاض، تراه وأنت واقف في الباب، قديم جد قديم!
بيد أن الأرض قبالة الجامع تنبئ بالخير الحديث. هي وقف إحدى الخواتين - زاد الله سجونهن نورا وحبورا - على ما فيه إقامة الحق وإزهاق الباطل، فقد كانت المحكمة الشرعية القديمة في هذا المكان، فهدمت لتقام، بين ما تبقى من بواسق النخيل ووارفات النبق، المحكمة الجديدة، وهذه الأتن البيضاء عشرات منها تحمل التراب من أمكنة الحفر، وتعود إليها بأحمال من الآجر، والبناءون شارعون بالبناء، صرح منيف، للشرع الحنيف.
وغدا يجلس قضاة الشرع في دارهم الجديدة، فيسمعون وهم يقضون صوت المؤذن يتموج خلال النبق والنخيل، فيذكرهم كل يوم بوجوب إقامة الحق وإزهاق الباطل. إن ذلك في الأحكام لمن القديم، الذي يبقى جديدا، بل هو مثل نور الشمس جديد كل يوم، ولا خوف عليه من عدو الزمان. •••
ها نحن في التطواف شمالا ندنو من آخر الشارع الذي عرضت لك بعض ما فيه، صورا متحركة، فلا تستبدلها، وقد فاتني أن أعلمك أن أمانة العاصمة أطلقت اسم المستنصر عليه، تذكارا للمدرسة المستنصرية التي كانت في جواره.
إن جزءا من الماضي في بغداد هو أمامنا في قيافات الناس وأشكالها وألوانها، فضلا عما يبدو منه في الوجوه ويخفق في الصدور وفي العقول. إن هذا الماضي مقيم في يومنا كما في أمسه، هو على ما يظهر صنو الزمان، بل هو الأثر الحي القديم الجديد ببغداد، تسوقه إليك الليالي في أشكاله المتموجة تموج دجلة، على نحو بطء هادئ، وفي ألوانه التي تذكر في مجموعها بذنب الطاووس.
وللجماعات في بغداد صفة تختلف باختلاف المكان. فهي ساكنة في الكوخ، مسرعة على الجسر، مصطخبة في شارع الرشيد، فلا تستطيع مراقبتها، وتمييز صفاتها الظاهرة والباطنة، إلا إذا كانت في غير هذه الحالات الثلاث، إلا إذا كانت متمهلة في سيرها، جامعة في قيافاتها.
Bog aan la aqoon