رحلنا عن بيروت، في أصيل يوم مشرق مدفئ من أيام شباط سنة 1932، ورحنا نطوي طريق الجبل طيا، فمررنا بعد نصف ساعة بمدن الاصطياف التي كانت وقتئذ مستكنة متقشفة، مثل الحلزون في صدفه، والتي ستغدو بعد شهرين، قطب اللذات والطرب، مستجنة للناس، مستعينة عليهم بالوسواس الخناس.
هدرت السيارة في جوار تلك المدن الهادئة، وفي أسواقها الساكنة المهجورة، فارتفعنا عند ظهر البيدر خمسة آلاف قدم فوق البحر؛ حيث كان الثلج والشمس يتعاونان في تعديل طبيعة الهواء.
وكان ذلك اليوم ثابتا في كرمه وإشراقه، فما تقلب حتى في تقلب المناظر ودرجات العلو، بل ازداد جمالا عندما أطللنا على سهل البقاع - 2500 قدم دوننا - وقد فرش بالطنافس الخضراء والصفراء والبنية. وهناك بين صفوف معوجة من الصفصاف، تنقطع ثم تتصل، يظهر ويختفي الخط الفضي الرقيق، نهر الليطاني، فيبدو حينا كالسهم، وحينا كالهلال، في طريقه إلى البحر. وفي آخر السهل الجبل الشرقي، وقد قل فيه الثلج والاخضرار، فهو جاهم مانع، إلا في منعطفات أوديته؛ حيث طريق الأسفلت تنساب بين البطاح.
وبعد ساعة من سهل البقاع، لقينا الجمال الحي الطروب في المياه الجارية والبساتين، إنما الأشجار كانت لا تزال في إغفاءة الشتاء، وكان نهر بردى لا يزال مكفهر الجبين مما تثقله به السيول.
ذلك مدخل دمشق الغربي، وفي صباح اليوم التالي، بعد أن بتنا في المدينة، كنا نسير في ظل الجمال الذي يزدان به مدخلها الشرقي. أما الجمال نفسه فإنما هو الغوطة السندسية، وقد كان على وجهها نقاب رقيق من أنفاس الشتاء الجامدة. مررنا بين بساتين من المشمش والجوز دكناء، وحقول للكرمة والقنب غبراء سمراء، وبعد أن اجتزنا النيف والعشرين ميلا منها، دخلنا فجأة في الأرض اليباب، فانكشف لنا فراغ البادية، بل تشبح أمامنا هول الشول.
وهناك من هذا الهول وذلك الفراغ خمسمائة ميل ويزيد، لا ينقطع حبلها إلا في وادي حوران، الذي يشق بادية الشام من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي - من الفرات إلى الجوف - وفيه الحيا؛ أي الماء والكلأ، لمن ينشدونه من البدو.
بعد أن نخرج من الغوطة، ونجتاز مسافة لا تتجاوز عشرة أميال، نصل إلى مخفر حديث البناء يدعى أبا الشامات؛ حيث تستوقفك الحكومة السورية الانتدابية لتنفذ فيك أوامر ثلاث من دوائرها، هي دوائر الجمرك والشرطة والاستخبارات. فهل تحمل شيئا في حقائبك فرض عليه رسم جمركي؟ وهل تحمل جواز سفر مقبولا لدى الحكومة التي تحمل بعض أثقالها، أو لدى القنصل الذي تنتمي إليه، ولا ينتمي هو إليك؟ وهل أنت ممن تأذن لهم دوائر الشرطة والتحري والأمن العام بالخروج من البلاد أو بالدخول إليها؟ هذه المسائل تصدم بها عند بئر الماء، على حاشية البادية؛ حيث ابتني مخفر أبي الشامات. تعسا لحكومات هذا الزمان التي جعلت أكل النار أهون من الأسفار!
منذ عشر سنوات دخلنا دمشق سالمين، بعد أن اجتزنا البادية آمنين، وما كان على الباب شرطي أو دركي أو عبيد مستشارين. فالمخفر في أبي الشامات إذن هو شيء جديد غير سعيد.
وهناك جديد آخر لاحظناه، إلا أنه من حسنات الطريق. منذ عشر سنوات كانت السيارات تخرج من دمشق أو من بغداد لتجتاز البادية في أي يوم كان من الأسبوع، على شريطة أن تكون مصحوبة بدليل. فما كان قد أنشئ خفر البادية، وكان المسافرون عرضة للعصابات أو للشاردين الناهبين من البدو.
أما الآن فلا تخرج السيارات إلا في يومين معينين كل أسبوع، فتسير كلها قوافل، يضمن فيها التعاون إذا تعطلت إحداها، وتضمن سلامة الركاب وأموالهم دوريات شرطة البادية.
Bog aan la aqoon