هي شمس الأم تحضن الأرض في الصباح، وتتغلغل حبا وحنينا في قلب العراق وأبنائه.
هي شمس الفنان، تلمس اللازورد في قباب الجوامع، فيستحيل ياقوتا أصفر، وتكسو المآذن البيضاء بحلل من الدمقس المعصفر.
هي شمس المحسن الأعظم، تسير فوق السطوح المسورة، ولا تكشف سرها، وتقف فوق الجفون النائمة، فتبشرها بعودة الحياة.
ساعة في الصباح من السحر المبرور.
ساعة من نعيم الحرارة والنور.
الزيارة الأولى
يقول المؤرخون الثقات: إن بغداد بابلية الأصل، فقد أسسها نبوخذ نصر في المكان الذي دارت فيه رحى الحرب بينه وبين أعدائه؛ تذكارا لانتصاره عليهم، وأسماها بعل داد؛ أي مدينة البعل. ومما يثبت ذلك، ما اكتشفه العالم الإنكليزي السر هنري رولنسون سنة 1848 في الجانب الغربي، فقد اكتشف في الكوخ بقية حصن مبني بالآجر المحفور عليه اسم «نبوخذ نصر» وفتوحاته. وكانت بعل داد لا تزال قائمة، إلا أنها مشرفة على الخراب يوم فتح العرب العراق وجعلوا الكوفة عاصمة البلاد. وظلت الكوفة العاصمة إلى بداءة العهد العباسي، فعقد النية الخليفة المنصور، الذي كان يكره تلك المدينة وأهلها، على بناء عاصمة جديدة، فساح في وادي دجلة شمالا يبحث عن مكان يسره، فآثر السهل المجاور لبعل داد، المقابل لما هو اليوم البلاط الملكي في الجانب الشرقي، فبنيت فيه المدينة المدورة. وقد دعيت بالزوراء؛ «لأن أبوابها الداخلة جعلت مزورة «مائلة» عن الخارجة»، ولكن لمادة زور من المعاني غير المأنوسة، ما تلاعب به أعداء المنصور غمزا ولمزا عليه، فحمله ذلك على إسمائها باسم آخر؛ ولكي يبرهن لهم مروءته وحلمه، وأنه مسالم على الدوام، أطلق على العاصمة الجديدة الاسم الذي كان يعرف به وادي دجلة وهو دار السلام. •••
في الربع الأخير من القرن السادس للهجرة، رحل الأديب الأندلسي ابن جبير رحلته في البلاد العربية، فوصل بغداد سنة تسع وسبعين وخمسمائة (1184م) وكان لما شاهد من المدينة المشهورة من المحزونين. فجع في ما حمله إليها من الشوق والحب والأمل. ولا عجب. فكان قد ولى مجد العباسيين، وذهبت صولة آل بويه، وأشرف عهد السلاجقة في فساده على الزوال، وأمست دار السلام مهدا للفتن، ونهبا للتتر الفاتحين.
بغداد دار الأنس والسرور «قد ذهب أكثر رسمها»، كما جاء في كتاب ابن جبير:
ولم يبق منها غير شهير اسمها.
Bog aan la aqoon