واستطاع محجوب أن يتكلم بعد أن أغلق الباب واطمأن بعض الاطمئنان: أبتي ... لا تتهكم بي ... أنا أعلم أني أستحق غضبك، ولكن دعني أشرح لك ما التبس عليك فهمه، والحكم لك ... - وهل من حاجة إلى الشرح يا بني؟ ... حسبي أن أنظر فيما حولي لأدرك في أي شقاء تعيش! ...
فعض محجوب على شفتيه وقال: أبي ... والله ما غفلت عنك قط، ووالله ما سنحت فرصة لمساعدتك فأهملتها، ولكن ظروفي قاسية رغم هذه المظاهر الخداعة؛ لذلك لم يرتح لي جنب، وما كان ليقر لي قرار قبل أن أطمئن عليك وعلى والدتي ...
فاشتد اكفهرار وجه الشيخ وقال بحدة وحنق: ظروفك قاسية أيها الابن البار؟! ... ماذا تنتظر حتى تتفضل علينا بجنيهين؟ أتنتظر الوزارة؟! إني أعجب كيف طابت لك الحياة وأنت تعلم أن والديك يعانيان الفاقة والجوع والتشريد! لقد استصرختك باكيا، ولكني علمت فيما بعد أني خاطبت ضميرا ميتا. تركتنا للعجز والفقر حتى بعنا أثاث بيتنا، وها أنت تنعم بالوظيفة العالية، والماهية الكبيرة، والمسكن الوثير، ولكنك لا تجد في ذلك كله إلا ظروفا قاسية لا تسمح لك بأن تنقذنا من التسول، أليس كذلك أيها الشاب الهمام؟
امتقع وجه محجوب حتى حاكى وجوه الموتى، شعر كالمختنق الذي ينتفض ويقتتل عبثا لاستنشاق نفس واحد. ولم يكن كلام أبيه قد حرك قلبه، ولكنه أربكه وكربه وأوقعه في ضيق شديد، فقال: لشد ما يؤلمني كلامك يا والدي، أصغ إلي، سأكاشفك بالحقيقة وأصلح خطئي، وأكفر عما تتهمني به من عقوق. يعلم الله أني كنت سأزف إليك أنباء توفيقي وأمدك بالمعونة أول الشهر القادم. لقد وفقت إلى وظيفتي منذ شهرين، وكنت معدما، فكان علي أن أهيئ نفسي بالمظهر اللائق، وإلا ضيعت على نفسي فرصة لا تسنح في حياة مرتين، فاقترضت مبلغا كبيرا ما زلت مدينا به. هكذا فزت بالوظيفة، ولكن لا زلت أكابد الارتباك والفاقة، هذه هي الحقيقة.
فهز الرجل رأسه في ريبة، وقال بامتعاض: إنك تعنى أكثر مما ينبغي بالمظهر اللائق، والمسكن الأنيق، والمآدب الفاخرة! ...
فأدرك محجوب أن الإخشيدي وفى وشايته حقها، وقال وهو يغالب عواطف الحنق والغضب: هذه المظاهر وإن بدت كمالية إلا أنها من ضرورات وظيفتي ... - وهل من ضرورات هذه الوظيفة المجيدة أن نتضور جوعا؟!
فقال الشاب وهو يبذل الجهد المستميت ليداري غضبه وحنقه: كلا يا أبي، لقد أبنت لك عن حسن مقصدي؛ فلا تثبط همتي بنقمتك، ودعني أتم بنجاحي ... - أحسبه لا يتم إلا بقتلنا ... - بل سيتم بما فيه سعادتنا جميعا ...
وسكت عبد الدائم أفندي مليا وهو يرنو إليه بنظرة مليئة بالريبة وسوء الظن، ثم قال متسائلا: إذا كانت هذه حالتك فكيف تزوجت؟! ... لماذا لم تؤجل الزواج إلى ميسرة؟! وكيف تتزوج دون إخبارنا فضلا عن الرجوع إلى رأينا؟ ...
وارتاح محجوب لتساؤل والده هذا الذي أكد له جهله بالسر الخطير، وقال بصوت خفيض: كانت الزيجة ثمن الوظيفة كما يحدث في أيامنا هذه كثيرا، لقد صاهرت أسرة محترمة تمت إلى الوزير بصلة القربى، وكانت الزيجة من أسباب ارتباكي، ولعلك أحطت الآن بالظروف القاسية التي اكتنفت حياتي في الشهرين الماضيين.
بيد أن الرجل لم يكن مطمئنا، واشتدت بالشاب حالة التوتر والاستياء، وشعر كلاهما بأن لديه ما يقوله، ولكن جرس الباب الخارجي رن بغتة، وفتح الباب ثم أغلق: وسمعا وقع أقدام ثقيلة في الدهليز يعرفها محجوب حق المعرفة ...
Bog aan la aqoon