وتتابعت أيام فبراير ومتاعب الحياة تصكه صكا، ولاحقه شبح الجوع ليلا نهارا، فلم تطمئن معدته إلا سويعات معدودات في اليوم الطويل، وكان إلى عمله الدراسي يكنس حجرته، وينظف مكتبه، ويرتب فراشه، ويغسل مناديله وجواربه وقمصانه. ولم يدر كيف يقتني الحوائج التي يعدها غيره تافهة كابتياع قطعة من الصابون، أو غاز المصباح، أو حاجته من الورق؛ فاضطر أياما أن يقتصر على وجبة واحدة، وطحنه الجوع طحنا، واشتد هزاله، وشحوب وجهه، حتى خاف على نفسه، نفسه التي يحبها أكثر من الدنيا جميعا، أو التي يحبها وحدها دون الدنيا جميعا. لبث جائعا وحيدا في الحجرة التي يحسب بعض صحبه أنها مهد غرام مستعر. لماذا لا يسأل إخوانه أن يطعموه؟ لو سأل علي طه ما تأخر أو تردد، ولو سأل مأمون رضوان لنزل له عن طعامه ولو كان كسرة خبز، فما الذي يمنعه؟ الكرامة؟ ... الكبرياء؟ ... تبا له! ألم يكفر بكل شيء؟ ألم يستهزئ بالقيم؟ فما له يأبه للكرامة والكبرياء؟ تبا له! لا تزال فلسفته كلاما وهراء، متى يصير رجلا حقا؟ متى يفرط في كرامته وعرضه كأنه ينفض ترابا عن حذائه؟
وبلغ الكرب ذروته حين طالبته الكلية باقتناء كتاب في اللغة اللاتينية ثمنه خمسة وعشرون قرشا، فأسقط في يده، ولم يجد من ثمنه مليما واحدا، وقد بات الامتحان قريبا! ماذا يصنع؟ أما اللجوء إلى أحد من أصحابه فحل بغيض مقيت، خصوصا وهو يعلم أنه لن يقضي دينه إذا استدان، فماذا يصنع؟ ومضى يوم ويوم، واضطربت حياته أيما اضطراب، وأوشك أن يدركه القنوط لولا أن ذكر قريب والدته الكبير أحمد بك حمديس! أيجوز أن يقنط وله مثل هذا القريب الكبير؟ أجل، إن والده يجد عليه وجدا عظيما، ويقول إنه رجل جحود، نسي أهله، وتنكر لهم. هذا هو الواقع حقا، ولكن والده مخطئ في غضبه وليس البك مخطئا في سلوكه، إذا كان قريبه يتكبر فجميع أمثاله يتكبرون، ومن حقهم التكبر، ولولا آداب الريف الحمقاء لما غضب والده، بيد أن تكبر البك لن يمنعه من أن ينظر إلى مسألته بعين العطف، ويمد له يد المعونة؛ فليقصد إليه آمنا، وسوف يكفيه شر اللجوء إلى البغضاء!
13
وغادر حجرته وقد صدقت نيته على زيارة قريبه وتجربة حظه، ولم يقتصد في تهيئة نفسه، فكوى طربوشه، ولمع حذاءه بقرش كامل أو بثمن وجبة كاملة، ولكنه بدا رغم ذلك كالعليل شحوب وجه وهزال جسم، وبحث في دفتر التليفون عن عنوان قريبه؛ شارع الفسطاط بالزمالك، وحث إليه الخطى ...
وحلق به الخيال - في مسيره - في عالم الذكريات المنطوية، فأضاءت فترة بعيدة من الزمن إذ هو في الثامنة، وإذ قريبه لا يزال أحمد أفندي حمديس المهندس بالقناطر، وكانت أسرة المهندس مكونة من زوجه الحسناء وتحية ابنتهما - في الرابعة - وطفل في الثانية من عمره. كانت أسرة سعيدة تزينها ربة مفرطة في الحسن. وفي ذلك الوقت لم يكن آل حمديس يترفعون عن مخالطة آل عبد الدائم، ولم يأل عبد الدائم أفندي جهدا في إكرام الأسرة العزيزة، ولكم جاب الأسواق يبتاع الدجاج والحمام يهيئ لهم مائدة شهية. ولقد فاز هو بعطف حرم حمديس بك، فكانت تثني على ذكائه وتعجب بشطارته، وتترك له تحية يلاعبها في فناء الدار وفي الطريق. ترى كيف صارت تحية الآن؟ ... وهل تذكره؟ لقد انطوى ذاك العهد منذ خمسة عشر عاما، فنسي واندثر وانتهى، وذهب بذكراه الزمن والإهمال، ولو كانوا شيئا ذا بال لرسبت منهم آثار في باطن الذاكرة، ولكن آل حمديس كبروا وعظموا ولبثوا هم على ضآلتهم وتفاهتهم، فامحت القناطر من سجل الحياة، وغاصت ذكرياتها في غياهب الماضي، ونبذ عبد الدائم أفندي موظفا بالشركة اليونانية. ترى كيف صارت تحية؟ ... ألا يمكن أن تتذكره؟ ذلك الغلام الذي كان يحملها بين يديه ويجري بها ما بين البيت والمحطة! ... أما حمديس بك فلا يمكن أن ينسى وإن تناسى، سيذكره بمجرد أن يقع عليه بصره، ولن يقبض دون يده.
وبلغ الزمالك، واهتدى - بعد سؤال - إلى شارع الفسطاط، كان كشارع رشاد باشا ضخامة وسكونا، وتحتشد على جانبيه الأشجار الباسقة، وتشتبك أغصانها من الجهتين، فتجعل فوق أديمه ظلة من الأزهار الحمر، فرمق القصور بنظرة غريبة من عينيه الجاحظتين، نظرة يقول لسان حالها متسائلا: «هل يمكن أن ينفذ الشقاء من هذه الجدران الغليظة؟ أحق ما يقول مدعو الحكمة أم إنهم يخدرون القلوب الملتاعة؟!» واقترب بقدمين ثابتتين من الفيلا رقم 14، وسأل البواب بلهجة رفيعة ونبرات رزينة عن البك، وأخبره أنه قريبه وأنه جاء لمقابلته، فدعاه النوبي إلى السلاملك، ودخل حجرة كبيرة فاخرة الأثاث، لم يسبق له أن دخل بيتا كهذا البيت، أو وجد في حجرة كهذه الحجرة، فألقى على ما حوله نظرة متفحصة مقرونة بالدهشة والإعجاب والحسرة؟ وتطلع بناظريه من نافذة قريبة، فرأى ناحية من حديقة حافلة بآي الجمال المعطر. ترى كيف يكون استقبال البك له؟ هل تدعوه حرمه لترى كيف صار الغلام شابا يافعا؟! هل يتذاكرون عهد القناطر ويسألون بشوق عن عبد الدائم أفندي الصديق القديم؟ ... هل يتأثرون لمرضه ويدركون الباعث الذي حمله على طرق بابهم فيمدون له يد المعونة عن طيب خاطر؟ يا لها من حجرة نفيسة! ... ألا يمكن أن يملك يوما قصرا كهذا يقصد إليه ذوو الحاجات؟ ...
وسمع وقع أقدام، فاتجه بصره نحو الباب ثم رأى البك، وقد عرفه من النظرة الأولى على تغير صورته وتقدم عمره، قادما، فنهض قائما وتقدم منه في أدب مادا يده، فتصافحا والبك يمعن فيه النظر، ثم قال مبتسما: هو أنت إذن! ... بدا الاسم غريبا بادئ الأمر ثم أسعفتني الذاكرة، الآن صرت رجلا، كيف حال والديك؟
بدا الاسم غريبا بادئ الأمر! ... هو أنت إذن! وتناسى محجوب ذلك كله وقال بإجلال: والدتي بخير، ولكن والدي مريض، بل في حالة خطرة!
وعند ذلك جلسا، وكان البك يرتدي معطفه يدل مظهره على أنه متأهب لمغادرة البيت، وقال الرجل وهو يسند ظهره إلى مقعده: لا بأس عليه، ماذا به؟
فقال محجوب بعناية وبصوت واضح: أصيب والدي بشلل ألزمه الفراش، فانقطع عن عمله، وساءت الحال.
Bog aan la aqoon