ووقف انتباهه عند «لن يعود إلى عمله»؛ فلم يدر شيئا مما قال بعد ذلك، وأظلمت الدنيا في عينيه، وعاد إلى الحجرة ذاهلا، وكان أبوه ذا طبيعة عملية، لا يدع أمرا معلقا إذا أمكن أن يبت فيه برأي، فدعا ابنه إلى الاقتراب من الفراش، وقال بلسان ثقيل: أصغ إلي يا بني، لن أعود إلى عملي بالشركة، هذه هي الحقيقة، فماذا ترى؟
فازداد صدر محجوب انقباضا، ولازم الصمت في انتظار النطق بالحكم، فاستدرك الرجل: ربما منحتني الشركة مكافأة صغيرة، ستفقد بلا ريب قبل مضي أشهر قلائل، بل المؤكد أنه لن يبقى منها شيء بعد ثلاثة أو أربعة أشهر على الأكثر، ولكن لن أعدم نصيرا يجد لك وظيفة تنهض بنا جميعا ...
فقال محجوب بتوسل وقد نطقت عيناه بالألم والقنوط: الامتحان يا أبي على الأبواب، نحن في يناير وهو في مايو، أما إذا وظفت الآن فسأعد كحامل البكالوريا، وفي ذلك ضياع لمستقبلي عظيم ...
فقال الأب بحزن: أعلم ذلك، ولكن ما الحيلة؟ أخاف أن نتعرض للفضيحة أو نهلك جوعا!
فقال الشاب بتوسل حار، وبصوت ملأه حماسا وقوة: أربعة أشهر، أربعة أشهر فقط بيني وبين ثمرة كد خمسة عشر عاما ... أمهلني قليلا يا أبتي، ستكفينا المكافأة حتى أنهض على قدمي، لن نجوع، ولن نتعرض للفضيحة بإذن الله. - وماذا يكون من أمرنا إذا أخطأ تقديرك؟ ... إذا خاب سعيك لا قدر الله؟ إن حياتنا بيديك؟
فقال محجوب وهو يعض بنواجذه على أهداب الأمل: أنت لا تدري يا أبي كيف سيكون اجتهادي! لن يحول بيني وبين النجاح حائل!
وتردد الشاب لحظة ثم قال: وهناك قريب والدتي أحمد بك حمديس!
ولكن والده رفع يسراه محتجا، وقطب استياء، فخاف الشاب أن يفقد عطفه، وأن يذهب ما بذل في إقناعه هباء، فقال بسرعة: لا حاجة بنا إلى معونة أحد، وستسير الأمور بإذن الله وفق آمالي.
وأدرك أنه أخطأ بذكر قريبهم العظيم الذي تناساهم واحتقر صلته بهم منذ تبوأ مركزه الرفيع. أجل إن والدي يفاخر جهارا - على مسمع من الغرباء - بقرابته، ولكن طالما أنحى عليه باللائمة أمام والدته، وطالما أضمر له الاستياء واللوم. أدرك محجوب ذلك نادما، وعاد يقول: لا حاجة بنا إلى معونة أحد، ولكن ينبغي أن نستوصي بالصبر، وأن نطمئن إلى رحمة الله. أربعة أشهر فحسب، وبعدها الفرج!
وكان أبوه يعلم أن المكافأة تكفيهم - مع التقتير - خمسة أشهر أو ستة، فتفكر مليا ثم سأله: تستطيع أن تعيش بجنيه واحد في الشهر؟
Bog aan la aqoon