قالوا: والبريد خيل تشترى بمال السلطان، ويقال لها: السواس والعلوفات، وهي مقررة على عربان ذوي إقطاعات عليها خيول موظفة تحضر في هلال كل شهر إلى كل مركز أصحاب النوبة بالخيل، فإذا انسلخ الشهر جاء غيرهم، وهم لهذا يسمون خيل الشهارة، وعلى الشهارة وال من قبل السلطان، يستعرض في رأس كل شهر خيل أصحاب النوبة فيه، ويدوغها بالداغ السلطاني، وقد أنشأ أمراء مصر وملوكها مثل كريم الدين وكيل الخاص الناصري، والملك الأشرف خليل، وفخر الدين كاتب المماليك، وناصر الدين الدوادار التنكزي، وطاجار الدوادار، وكافل الشام الطنبغا، والظاهر بيبرس البندقداري وغيرهم؛ خانات ورباطات وفنادق ومساجد وآبارا ودساكر لأبناء السبيل، وكان الطريق في بعض الأدوار يتحول قليلا من أول الكورة إلى آخرها، ولكنه لم يخرج قط في كونه من مصر من الغرب إلى الشرق، ثم يعرج في بلاد الشام نحو الشمال قليلا حتى دمشق.
وكان حمام الزاجل الذي هو بمثابة تلغراف أجدادنا، يسير من القاهرة إلى بلبيس ومنها إلى الصالحية، ومن الصالحية إلى قطية، ومن قطية إلى الواردة، ومن الواردة إلى غزة، ومن غزة إلى القدس، ومن غزة إلى نابلس، ومن غزة إلى لد، ومن لد إلى قاقون، ومن قاقون إلى جينين، ومن جينين إلى صفد، ومن جينين إلى بيسان، ومن بيسان إلى أربد، ومن أربد إلى طفس، ومن طفس إلى الصنمين، ومن الصنمين إلى دمشق.
وكان الثلج ينقل على الهجين من بلاد الشام إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل بالقاهرة، وقد جاء زمن وهو لا يحمل إلا في البحر خاصة - كما جاء في التعريف بالمصلح الشريف - ومن الثغور الشامية بيروت وصيدا، ويفرض على البقاع وبعلبك أرفادهما في ذلك ، وكان يسيرا فكثر، وقرر منه على طرابلس مما استقر على جبة بشرى والمنيطرة من عمل لبنان اليوم، والمركب تأتي دمياط في البحر، ثم يخرج الثلج إلى الشرابخانات الشريفة، ويخزن في صهريج أعد له، وأصبح في القرن الثامن يحمل في البر والبحر، ومدة ترتيب حمله من حزيران (يونيو) إلى آخر تشرين الثاني (نوفمبر)، وعدة نقلاته في البر 71 نقلة متقاربة مدة ما بينها، وقد صار يزيد على ذلك، ويجهز بكل نقلة بريدي يتداركه، ويجهز معه ثلاج خبير بحمله ومداراته، يحمل على فرس بريد ثان، والمرصد في كل نقلة خمسة أحمال، والمستقر في كل مركز له ستة هجن، خمسة للحمل وواحد للهجان، قال العمري: ولا يصل الثلج متوفرا إلا إذا أخذ الثلج المجلد وأجيد كبسه، واحترز عليه من الهواء، فإنه أسرع إذابة له من الماء. وكذلك كانت المناور مواضع رفع النار في الليل، والدخان في النهار للإعلام بحركات العدو، وقد أرصد في كل منور الديادب والنظارة لرؤية ما وراءهم وإيراء ما أمامهم، وهي من أقصى ثغور الإسلام إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل، حتى إن المتجدد بكرة بالفرات كان يعلم بها عشاء، وهذه المناور بدخانها ونيرانها أشبه بالهليوستاو الأبجكتيف لعهدنا.
هكذا كان طريق مصر إلى القرن التاسع للهجرة، وهذا أقصى ما بلغته مدنية القوم في أسباب النقل والراحة، وينزل اليوم في هذه النفود - أي الرمال المتراكمة كما يسميها العرب - أناس من عرب مصر يرجعون في أصولهم إلى بطون وأفخاذ معروفة عندهم، تعرفهم بسيماهم، ضئال الأجسام، صفر الوجوه على نحو ما وصفهم واصفوهم في القرون الوسطى، وهم شاوية يقومون على تربية الشاء ولهم جمال قليلة، وزروعهم في الأكثر الشعير في الشتاء والبطيخ في الصيف، ولهم نخيل قليل في بعض واحاتهم وبالقرب من سبخاتهم، ولا حجر في ديارهم يبنون به بيوتهم، ومساكنهم حقيرة يصنعونها من الخوص، فلا هم بادية يأوون إلى الخيام، ولا هم حضر كالعرب النازلين منذ القديم في ريف مصر كالفيوم والشرقية وغيرهما من مديريات القطر مثلا، ولهجاتهم أقرب إلى لهجة سكان جنوبي الشام منها إلى اللهجة المصرية، ومن فلسطين يكتالون، وفي فلسطين يقضون شطرا من السنة في رعي أغنامهم وماعزهم، ولم تعمل الحكومة المصرية شيئا لارتقائهم سوى أنها نشرت أعلام الأمن على ربوعهم؛ ولذلك ترى تجار الإبل يأتون بها من بلاد نجد والجزيرة والشام، ولا يزالون يحاذرون اعتداء السراق عليها حتى يبلغوا رفح، وعندها يوقنون بأنه لا يضيع لهم في تلك البادية عقال بعير، وكان عرب هذه النفود من قبل مثلا سائرا في الاعتداء على السابلة، وهم اليوم معفون من الضرائب والخدمة العسكرية، وغريب كيف لا ينالهم قسط من مدنية مصر، فحرموها كما حرموا الاستمتاع بماء النيل العذب وتربة واديه الممرعة. •••
هذه النفود هي الحد الطبيعي بين مصر والشام، بل الحد الصناعي الذي اصطلحت عليه مؤخرا الحكومتان المصرية والعثمانية في رفح والعقبة، بل الحد الفاصل بين قارتي آسيا وأفريقيا، لم يحل في كل الأزمان دون اختلاط أهل هذين القطرين الشقيقين، ومن قرأ تواريخ الجبرتي وابن إياس والسخاوي وابن حجر والغزي وغيرهم، يدرك أن هجرة السوري إلى مصر ترد إلى مئات من السنين، ومن بحث في أنساب من تولوا أعمال الحكومة المصرية، وشاركوا مصر في سعودها ونحوسها من العلماء والتجار والصناع، يجد فيهم كثيرا من الشاميين، وكذلك الحال في المصريين ببلاد الشام، فلا عجب إذا كان حظ مصر والشام واحدا في السراء والضراء، وعلائقهما الاقتصادية موفورة مستحكمة، وليس أعلق بالقلوب من الصلات المالية، وإنا لنرى الشام أمس واليوم وغدا تتأثر لأقل أزمة مالية في مصر، كما أن هذه تتأذى من العوارض السماوية أو الأرضية كلما اجتاحت الشام، فمصر والشام هما قطران بالاسم، ولكنهما بالفعل قطر واحد، جرى الاصطلاح على تسمية كل منهما باسم، وكل منهما متمم لصاحبه، حتى لقد سئل أحد عمال الدولة العثمانية في القرن الماضي عن رأيه في القطرين فقال: مصر مزرعة حسنة والشام مصيف جميل.
وإذ قد عرفنا أن أجدادنا أحسنوا الانتفاع من مجاورة القطرين العزيزين، ساغ لنا أن نطالب في هذا العهد بزيادة أواخي الإخاء بينهما من طريق البر على نحو ما هي عليه من طريق البحر، فيسعى العقلاء من الماليين إلى نيل امتياز، يربط عاصمة الشام بعاصمة مصر بخط حديدي عريض، حتى يأتي الراكب في أربع عشرة ساعة بدلا من أربعة عشر يوما، وإذا أحب القائمون بالأمر الاكتفاء بوصل السكة الجديدة مع أقرب الطرق إلى مصر، فما عليهم إلا أن يكتفوا الآن بإيصاله إلى القدس، وهذه ستتصل هذا العام بخط حيفا مبدأ السكة الحجازية من محطة العفولة، والمسافة بينهما لا تقل عن مائة كيلومتر، تمد على نفقة إدارة الخط الحجازي، ومعلوم أن حيفا مرتبطة بدرعا ودمشق، وعندها يسهل على ابن مصر الاصطياف في جبال الشام، وتبعث هذه بحبوبها وثمارها، وترسل مصر إلى الشام بشيء من مدنيتها وعلومها وانتظامها، ويخلص كل من يريد أن يخلص إلى مصر من هذه الرمال الموحشة المرعشة والمفازة المدهشة المعطشة التي تعوذ منها كل من اجتازها وقاسى الأمرين من مائها البشع المر المهوع المتروح، ولولا أنني تسليت عن المأكل والمشرب في الأيام الخمسة التي قضيتها في اجتياز هذه المفاوز بما سمعته من أحاديث رفاقي العرب في الإبل حتى صرت كأنني بعض رعاتها؛ لطال علي أمرها، ولكني حملت النفس على أن تتعلم الصبر من تلك الجمال، وطبقت فيها بالعمل ما قرأته بالنظر أيام الطلب من مصطلحات العرب في إبلهم وحدائهم، فصار مذهبي - ولا فخر - جماليا بعد أن كان جماليا، وعلمي بالأباعر عمليا وكان من قبل نظريا.
وكأن رحلتي في الشهر الماضي إلى الحجاز وجنوبي الشام ونزولي على أهل البادية من أهل المدر والوبر كانت مقدمة لما امتحنت به هذا الشهر من مواكلة الأعراب في صحفة واحدة والتخلي عن الملعقة والشوكة والسكين والفوطة والكأس، والأكل من أطعمتهم، وهي الثمن أرز العراق، والبرغل جريش الحنطة، والتمر والخبز المعمول بالملة أو على الصاج، يسجر ببعر الأباعر، والإدام في هذه الأيام يخالطه رمل، وهذا يدخل في كل مأكول ومشروب تسفوه الرياح طوعا أو كرها. ولقد صدق الواصفون منذ القديم لهذه الجفار بأن «الخبز إذا أكل يوجد الرمل في مضغه، فلا يكاد يبالغ فيه».
وإني أحمد الله إليكم على أني قضيت أيام هذه الرحلة ولياليها برمتها لم أطالع فيها جريدة ولا مجلة ولا كتابا، ولا وقعت عيني على ورقة، ولا مسكت قلما، ولا كتبت محاضرة ولا مقالة ولا نكتة، ولا قيدت شاردة، ولم أسمع غير حداء الإبل وغناء الأعراب، ولم يصل فكري إلى أبعد من عمل القهوة البدوية وأكل التمر، ولم يبلغ أذني غير أحاديث الإبل، فأصبحت - ولله المنة - أستعذب تردادها استعذابي لترديد أخبار المدنية، ومن نعم المولى علي أني رأيت صورة مصغرة من عيش أهل جزيرة العرب تمشي بين بلاد الشام ومصر، ودرست نموذجا صالحا من أخلاق العرب بالاختلاط بتجار الجمال ورعاتها، ممن كانوا يختلفون إلينا ونختلف إليهم كل مساء وصباح، فلم أسمع كلمة هجر وبذاء وتجديف قط، وما تبينت في أخلاقهم إلا الجد الذي ليس وراءه جد، والعزيمة التي تخور أمامها العزائم، والبحث على الدوام فيما هم بسبيله من التجارة والعناية برعية إبلهم والقيام على صحتها، فكان وجود السبط والأرطة والقطف والحمط من العريش إلى قطية فالإسماعيلية، وغير ذلك من الأشواك والأعشاب كالشيخ والرتم التي تستطيبها أنعامهم أهم لديهم من كل حديث، وأشهى لقلوبهم من كل نغمة، وأفعل في نفوسهم من كل نعمة من نعم الجمال والكمال.
قضيت - ويا لسعادتي - أسبوعين كاملين في عالم الأباعر والبعران والإبل والحوار والبطين والبطنان والكثيب والكثبان وشين وزين، وترد وتصدر وندلج ونسري وننشد ونمرخ ونضحى ونعشى، وغير ذلك من فصح العربية الباقية على أسلات ألسن أولئك العرب الأميين، ولو أردت أن أستوفي ما سمعته من هذا القبيل لاستغرق مجلدا برأسه، وما أحلى ما سمعته من أحدهم وهو يقول لصاحبه: يا فلان! خذ من فلان كذا جنيها وأنت الفالج؛ أي الرابح من الفلج وهو الظفر. وكيف لا أؤخذ بما وعيت ورأيت، وأنا طول هذه الفترة لم أسمع نميمة ولا غيبة، ولا شهدت كذبا ولا منكرا، وكان أولئك الأعراب بأجمعهم مواظبين على صلواتهم بدون تكلف، يتيممون يوم يقل ماؤهم، ولا يسرفون فيه إذا وجد، أخلاق طاهرة متينة، ما كنت أظنها باقية في البادية، وأرجو ألا تفقد بتاتا من أهل الحضر، ولو تهيأ لسكان اليمن - ونجد خاصة - شيء من المدنية الصحيحة لفاقوا - ولا جرم - الإنكليز السكسونيين بأخلاقهم وأناتهم ورويتهم، وإني لما خبرت القوم أيقنت بفساد القضية التي وضعها أحد الباحثين في أصول الشعوب من أن الطيش والرعونة والفسق تغلب على سكان البلاد الحارة، ومع أن بلاد هؤلاء الأعراب من الأقاليم الحارة جعلت منهم التربية الدينية المعتدلة أهل اعتدال وكمال ورجال مال وأعمال.
هذا، وقد أطلت حواركم حتى خفت عليكم التبرم بحديثي، وإني حامد شاكر لكل ما تم علي لإيقاني بأن الحوادث أكبر معلم، ولولا الحادثة الأخيرة في دمشق لما تيسر أن أبلغ مصر من شرقها وأن أستمتع بلقياكم الآن، وأرجو أن يدوم لي هذا الاستمتاع، ولكن على شرط أن يقيض الله للبلاد العثمانية من يغار على مصلحتها، وينقذها من سقطتها، وأسأل قاهر الجبابرة والسلاطين أن يمن علينا بنعمة الراحة أجمعين.
Bog aan la aqoon