لو كان المتعلمون منا يعلمون كل بما فيه من إرادة ما يجب عليهم عمله، لما أتى علينا ربع قرن إلا وقد نشأ لمصر عشرات من أمثال مصطفى كامل، منهم في السياسة، ومنهم في العلم، ومنهم في الأدب، ومنهم في المال، ومنهم في إصلاح الأخلاق، ومنهم في إصلاح البيوت، ومنهم في غير ذلك. وليس معنى هذا أن يكون في الأمة ألوف مثل مصطفى كامل في السياسة، فإن أفرادا فيها يكفون، ولكن يجب أن يكون عشرات في كل فرع من فروع المجتمع، فالعالم الذي يعلم الناس فيخرجهم من الظلمات إلى النور، والأديب الذي يرقق شعورهم، والكاتب الذي يؤثر فيهم، والكيماوي الذي يعلمهم صنع الأسمدة ومعالجة التربة، والزارع الذي يتوفر على البذر والغرس، والمهندس الذي يحفر الأقنية والترع ويتعهد السدود والجسور، والصانع الذي يحيك النسيج، ويصنع الصفيح والمصفح، كل هؤلاء ومئات من غيرهم ممن يتعاطون الحرف الضرورية في العمران ليسوا إذا كانت لهم إرادة كإرادة مصطفى كامل في الفرع الذي توفر على خدمة حياته إلا نافعين، يرتفع بهم الرأس كما يرتفع الآن رأس المصري الوطني بذكر مصطفى كامل.
حب الشهرة من العوامل القوية في قيام المجتمعات، فمن كان ولعه بالشهرة على أصوله تلحقه عن استحقاق ولا يلحقها، كانت شهرته نافعة له ولأمته، ولا يلام في حب الشهرة إلا من يغالي فيها ويجعلها ديدنه ودينه، كما لا يلام في حب الأثرة إلا المغالي فيها أيضا، والأثرة أو حب الذات موجودة في فطر البشر وإن اختلفت درجاتها، فصحة الإرادة هي التي نطلب أن تنتشر بين هذه الأمة انتشار العاطفة الوطنية، فإذا كثرت فينا ففيها ولا شك عن مصطفى كامل أكبر عزاء، وإذا لم تنم في أفرادنا فنقول ما يقوله بعضهم: إن مصطفى كامل كان فلتة من فلتات مصر، ولمصر في كل مدة رجل كبير تمتاز به يرتجل بين الرجال، وتنصره على أي حال، ويكون موضوع عجب الأجيال بعد الأجيال.
النبوغ المصري1
يا سادتي ويا إخواني
منذ نحو مائة سنة والقطر المصري ينهض نحو الترقي، ويحتذي مثال الغرب في نهوضه، وكان من قبل لولا جامعة الأزهر الدينية أشبه بكثير من بلاد العرب في قلة العلم والنور، وبالأزهر المعمور لم ينفك المصريون على اختلاف أعصارهم وأدوارهم أن يكون فيهم من إذا سئل سدد في علوم الشريعة وما يلزمها من علوم اللسان.
ولقد خلد التاريخ اسم «محمد علي الكبير» جد الأسرة المالكة الحالية بما أسداه إلى مصر من الأيادي البيضاء، فأنعشها من سقطتها، وأيقظها من طويل رقدتها، ولو كتب له تحقيق جميع أمانيه الشريفة لكان العرب اليوم من أرقى الدول الكبرى في العالم، فإنه - رحمه الله - لم يترك بابا من أبواب النهوض المادي والعلمي إلا وطرقه على أجمل صورة، وعمل بجميع الأسباب لحياة مصر.
وكان لعلماء الفرنسيس الذين استصحبهم نابوليون في حملته على مصر والشام يد طولى في وضع أساس هذه النهضة المباركة على النظام الأوروبي، وعد علماء فرنسا من بعد العامل الأقوى في معاونة محمد علي على إسعاد القطر، ثم جاء علماء الإنكليز والألمان والطليان وغيرهم من أمم أوروبا، وخدموا مصر بتنظيم سككها وإصلاح ريها، وإحياء زراعتها، واستخراج آثارها وإنماء القوى المفكرة العاملة في بنيها.
نعم، كان العلم في مصر حتى الثلث الأخير من القرن الماضي لا يتعدى إلا قليلا دائرة الدينيات والأدبيات، ولمحمد علي الكبير يرجع الفضل الأكبر في بث مبادئ العلوم التي يسمونها خطأ الحديثة، إذ كان لأجدادنا فيها القدح المعلى، وهم الذين نقلوها إلى أمم الحضارة الحديثة مشفوعة بأبحاثهم وزياداتهم واختراعاتهم، وبعد عهد محمد علي ضعفت العناية بالعلوم كان انقطع سندها دهرا طويلا، وكادت البلاد تدخل في سبات مؤلم وتنبت مميت، كان ضعف العلم بعد عهد شارلمان في فرنسا، وبين محمد علي وشارلمان شبه كبير في التناغي بحب المعارف والفضائل، وكذلك حدث في الآستانة بعد دور الفاتح، فانقطعت الرغبة في العلم بموت السلطان محمد الثاني، وكاد يزال كل ما أسسه لإحياء معالمه. والارتقاء والانحطاط، ولا سيما في هذا الشرق القريب تبع للفرد أكثر من الجماعة، فإن أسعد الحظ الأمة بسلطان عاقل عادل سعدت ونجحت والعكس بالعكس.
ولما انتهى في مصر دور الناقلين والمترجمين والجامعين والمقتبسين في بعض ضروب العلم، جاء دور الباحثين والمؤلفين والمبدعين، واستطاع المصريون بإصلاح شئونهم الاقتصادية أن يتلقوا العلم الصحيح في جامعات الغرب، فكان لهم على الدوام بضع مئات من الطلبة، وكثر ارتحال الأوروبيين إلى مصر، وطواف المصريين إلى أوروبا، واشتد التمازج بين المصري والغربي، فاقتبس المصري بعض ما ينقصه من أساليب النهوض، وكان لإدخال الإصلاح على الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي والحقوق والزراعة والهندسة وغيرها من المدارس العالية والثانوية والابتدائية، ولا سيما الكتاتيب في القرى والمزارع، ما نراه من آثار نهوضها، فندهش له ونهش، وكلما كثر سواد المتعلمين هناك جاءت منهم طبقة أمثل من التي سبقتها، وتراجع كل نتفة في العلم والصنائع، وأصبحت الكلمة للأخصائيين والمفننين، وكلما استحكمت حلقات هذا الرقي استغنت مصر عن الغريب، واكتفت بعقول العاملين من رجالها، سنة الخالق في النشوء والارتقاء.
تطورت مصر في نهضتها الأخيرة أطوارا كثيرة، فكان الضعف يعروها تارة والقوة تصاحبها أخرى، وكان يعد نوابغ رجالها بادئ بدء بالآحاد، فأمسوا يعدون اليوم بالمئات، وكلما امتزج المصري بعنصر آخر من العناصر الشرقية حسنت ملكاته، وصحت على الترقي إرادته ونياته، وقد نبغ لعهدنا رجال ليسوا مفخرا من مفاخرها فقط، بل هم مفخر العرب والشرق عامة، ومنهم والحق يقال أفراد لا يقلون عن أرقي علماء الغرب في ذكائهم ومضائهم وبحثهم ودرسهم، وذلك في مجموع العلوم البشرية، ولا سيما في الهندسة والكيمياء والتصوير والطبيعة والحقوق والطب والجراحة والسياسة والإدارة، ومن أعظم نوابغها زميلنا - أحد أعضاء المجمع العلمي العربي - المرحوم أحمد كمال باشا، الذي نحتفل الآن بتكريم اسمه، واستمطار الرحمات عليه، فقد كان أجزل الله ثوابه مثال النبوغ المصري وآخر طراز كامل من أفراد الدهر، رزق صفات العالم العامل، وصرف نقد عمره في خدمة الآثار، ولا سيما علم الآثار المصرية حتى أصبح على صعوبة هذا الفن وحداثته الحجة الثبت فيه، فكان إذا كان ذكر في الغرب والشرق علم الآثار المصرية يتمثل في شخصه ويتجسد في جهاده، عمل هذا بعيدا عن الجعجعة في زاوية صغيرة من بلده، فعمت شهرته الخافقين، ولم تخف جلائل أعماله على الغريب دع القريب.
Bog aan la aqoon