بقلب سليم راحما للمسالم
فحطوا بأرجاء الهياكل صورة
لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
يدين لها قس ويرقى بوضعها
ويكتبه يشفى به في التمائم
ملك مصر والشام والجزيرة والعراق واليمن، والملك لما يستتب له على ما يجب، فاستطاع بعقله وإخلاصه لأمته ووطنه أن يدفع غارات الأوروبيين عن أرض الشام ومصر بعد أن رسخت أقدامهم قرنين كاملين، واستجاشوا لهم الأنصار وحشروا من جميع أمم أوروبا العدد الكثير، وبذلوا في ذلك من المال والرجال ما يقدر بالملايين والربوات أن هذا من عجائب التاريخ، تقف كتائب من العرب والترك والأكراد في موقف القتال مع الفرنسوي والألماني والإنكليزي والمجري والإيطالي والإسباني والنمساوي والسويسري وغيرهم من أمم الإفرنج، فيبز الأولون الآخرين على قلة عددهم، ولكن الجيوش قد لا تؤتى من قلة أكثر مما تؤتى من سوء السياسة وعتو القواد والاستهانة بالشورى، وما كان المدافع كالمهاجم في وقت من الأوقات.
ومع هذا الملك الضخم الذي كان لصلاح الدين كان يعيش عيش المتوسطين، وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف، فقد كانت قطيعة الصلح بينه وبين الإفرنج في القدس مثلا أن يؤدوا عن كل رجل عشرين دينارا، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل ذكر صغير أو أنثى دينارا واحدا، فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيرا، فأقام صلاح الدين يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال، ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه، ولم يرحل عن القدس ومعه من المال الذي جبي له شيء، وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار، قال في البرق : سمعت الملك العادل (أخو صلاح الدين) يوما في أثناء حديثه في ناديه، وهو يجري ذكر إفراط السلطان في أياديه يقول: إني توليت قطيعة القدس، فأنفذت له ليلة سبعين ألف دينار، فجاءني خازنه بكرة وقال: نريد اليوم ما نخرجه في الإنفاق، فما عندنا مما كان بالأمس شيء، فنفذت له ثلاثين ألف دينار أخرى في الحال، قالوا: وكان يرضى من الأعمال بما تحمل صفوا عفوا، وكله يخرج في الجود والجهاد.
وكان يكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف، ومجلسه منزه عن الهزء، ومحافله حافلة بأهل الفضل، قال العماد: وما سمعت له قط كلمة تسقط ولا لفظة فظة تسخط، يؤثر سماع الأحاديث، ويكلم العلماء عنده في العلم الشرعي، وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية، وكان من مجالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان، بل يعتقد أنه مجالس أخ من الإخوان، وكان حليما مقيلا للعثرات متجاوزا عن الهفوات تقيا نقيا، وفيا صفيا، يغضي ولا يغضب، ما رد سائلا، ولا صد نائلا، ولا أخجل قائلا، ولا خيب آملا.
أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء، بحيث كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولا حسنا، وإن لم يكن بعبارة الفقهاء، وكان شديدا على الفلاسفة والمعطلة والدهرية، وكان مواظبا على صلواته وصيامه عادلا رحيما ناصرا للضعيف على القوي، وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا على أنه كان في جميع أوقاته قابلا لما يعرض عليه من القصص كاشفا لما ينهى إليه من المظالم.
كان من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، عظيم الثبات، لا يهوله أمر، وصل في ليلة واحدة من الإفرنج نيف وسبعون مركبا إلى عكا، وهو لا يزداد إلا قوة نفس وكان يعطي دستورا (أي يسرح عسكره) في أوائل الشتاء، ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة، إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف، ومع هذا تراه صابرا هاجرا - في محبة الجهاد في سبيل الله - أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه، قانعا من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة، وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريبا منهم، وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة، يرتب الأطلال ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها، وكان يشارف العدو ويجاوره.
Bog aan la aqoon