155

Waqti Hore iyo Waqti Dambe

القديم والحديث

Noocyada

صلاح الدين ومدونو سيرته

لو كان تاريخ العرب يدرس في مدارسنا على أصوله لوجب أن تدرس سيرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والجزيرة، كما تدرس سيرة الخلفاء الراشدين، فقد مضت القرون بعد الخليفة المأمون العباسي، ولم ينشأ للعرب ملك كصلاح الدين بعقله وعدله وحلمه وحسن بلائه، وقد دونت سيرته في عهده، فكان عند المشارقة والمغاربة أنموذج الملك الحازم العاقل، وأحق ما يرجع إليه في سيرته - رحمه الله - من الكتب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لبهاء الدين بن شداد من قضاة الملك الناصر، وكتاب الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب أحد كتاب ديوانه، ثم يؤخذ عمن كان في عصره أو قريبا منه أمثال ابن الأثير صاحب الكامل، وأبي الفدا صاحب حماة، أو عن صاحب تاريخ الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة وذيله له.

أما كتاب النوادر فهو على أسلوب المؤرخ كتب بعبارة مرسلة لا تكلف فيها، صيغ فيه اللفظ على قدر المعنى بخلاف الفتح القسي، فإنه راعى فيه السجع من أوله إلى آخره، حتى يكاد يمل قارئه، وتشغله الألفاظ والجناسات والترصيع وعويص اللغة عن تدبر المعنى ودخوله الآذان بلا استئذان؛ على أنه من سجعه في الأحيان ما يجيء عفو القريحة، فيكون المعجب المطرب مثل فصل «ذكر حال نساء الفرنج»، فإنه أبدع فيه كل الإبداع، وإن كان على ما يظهر ركب مركب الغلو في تمثيل حالهن.

ولقد تدبرنا سيرة الملك الناصر صلاح الدين منذ ولد في قلعة تكريت (532ه)، وكان والده أيوب بن شاذي واليا بها إلى أن جاء الموصل مع والده، وقد ترعرع إلى أن انتقل معه إلى الشام، وأعطى والده بعلبك إلى أن اتصل بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي إلى أن ذهب صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر إلى أن ملك مصر، وأزال دولة العاضد الفاطمية، وخطب للدولة العباسية إلى أن فتح الشام، واستخلص أكثر بلاد الساحل الشامي والقدس من الإفرنج إلى أن توفاه الله في دمشق بعد جهاد أربع سنين في الصليبيين، تدبرنا كل هذا فلم نحص له زلة ولا شهدنا له إلا ما ينطبق على مكارم الأخلاق والعدل المتناهي والحلم الذي دونه حلم أحنف ومعاوية، ولولا ما دسه الفقهاء عليه من تزيين قتل الشهاب السهروردي الفيلسوف؛ لخرجت صحيفة حياته كلها بيضاء نقية، قال ابن شداد: إن هذا السلطان كان «مبغضا للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة. ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر - أعز الله أنصاره - بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي، قيل عنه: إنه كان معاندا للشرائع معطلا، وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمر بقتله، فطلبه أياما فقتله.» هذه رواية ابن شداد وهو من الفقهاء أورد هذه القصة في معرض أن السلطان يعظم شعائر الدين وإثبات أنه يقول بالبعث والنشور، ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار.

إلا أن ابن أبي أصيبعة قال في حقيقة قتل الشهاب السهروردي: إنه لما أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء ولم يجاره أحد كثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين؛ ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحسن موقعه عند الملك الظاهر وقربه، وصار مكينا عنده مختصا به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا، فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر، وكذلك إن أطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك، فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل وهو يقول فيه: إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل إلى إطلاقه، ولا يبقى بوجه من الوجوه، ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك، وأيقن أنه يقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه اختار أن يترك في مكان مفرد، ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى، ففعل به ذلك، وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، وكان عمره نحو ست وثلاثين سنة، قال صاحب طبقات الأطباء: إن السهروردي صار له شأن عظيم عند الملك الظاهر، وبحث مع الفقهاء في المذاهب وعجزهم، واستطال على أهل حلب، وصار يكلمهم كلام من هو أعلى قدرا منهم، فتعصبوا عليه، وأفتوا في دمه حتى قتل، وقيل: إن الملك الظاهر سير إليه من خنقه، ثم إن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه، وقبض على جماعة منهم واعتقلهم وأهانهم، وأخذ منهم أموالا عظيمة.

هذه الغلطة الوحيدة هي التي أحصيت لصلاح الدين، وهي في الحقيقة انتقام المتفقهة من المتفلسفة أو النقل من العقل، وهذا الانتقام ما برح على أشده في كل زمان، ولا سيما منذ القرن السادس إلى آخر العاشر، فإنه قتل في بلاد الإسلام كثير من الأعاظم، أو اضطهدوا، وأوذوا من قبل أعداء الفلسفة، وما عدا ذلك فإن صلاح الدين لا يلام على قتل أحد من الصليبيين؛ لأنهم أفحشوا هم في أسراه، وعاهدوا فخانوا، ومثل من قتلهم من المصريين للقضاء على الدولة العبيدية، أو من قاموا يدعون إليهم بعد أن زالت دولتهم، وفي جملتهم عمارة اليمني الشاعر، كل ذلك يغتفر له؛ لأنه في سبيل تأييد سلطانه، والملك عقيم كما قيل.

ومما ذكره ابن شداد في عدله أنه كان رءوفا رحيما ناصرا للضعيف على القوي، وكان يجلس للعدل كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا على أنه كان في جميع زمانه قابلا لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل، ولم يرد قاصدا للحوادث والحكومات، وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار، ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه، ولم يرد قاصدا أبدا ولا متنقلا ولا طالب حاجة، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته، وكشف ظلامته، واعتنى بقصته. ولقد رأيته واستغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه، فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم، وكان تقي الدين من أعز الناس عليه وأعظمهم عنده، ولكنه لم يحابه في الحق.

وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يدعى عمر الخلاطي، وذلك أني كنت يوما في مجلس الحكم بالقدس الشريف، إذ دخل علي شيخ مسن تاجر معروف يسمى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه، فسألته: من خصمك، فقال: خصمي السلطان، وهذا بساط العدل، وقد سمعت أنك لا تحابي، قلت: وفي أي قضية هو خصمك؟ فقال: إن سنقر الخلاطي كان مملوكي، ولم يزل على ملكي إلى أن مات، وكان في يده أموال عظيمة كلها لي، ومات عنها، واستولى عليها السلطان وأنا مطالبه بها، فقلت له: يا شيخ! وما أقعدك إلى هذه الغاية، فقال: الحقوق لا تبطل بالتأخر، وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات، فأخذت الكتاب منه، وتصفحت مضمونه، فوجدته يتضمن حلية سنقر الخلاطي، وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بأرجيش اليوم الفلاني من شهر كذا من سنة كذا، وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذ عن يده في سنة كذا، وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن ملكه بوجه ما، وتم الشرط إلى آخره، فتعجبت من هذه القضية، وقلت للرجل: لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم، وأنا أعرفه وأعرفك ما عنده، فرضي الرجل بذلك واندفع، فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرفته القضية، فاستبعد ذلك استبعادا عظيما، وقال: كنت نظرت في الكتاب، فقلت: نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق، وقد كتب عليه كتاب حكمي من دمشق، وشهد به على يد قاضي دمشق شهود معروفون، فقال: مبارك، نحن نحضر الرجل ونحاكمه، ونعمل في القضية ما يقتضيه الشرع.

ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة، فقلت له: هذا الخصم يتردد ولا بد أن نسمع دعواه فقال: أقم عني وكيلا يسمع الدعوى، ثم يقيم الشهود شهادتهم، وأخر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل ها هنا، ففعلت ذلك، ثم أحضر الرجل واستدناه حتى جلس بين يديه وكنت إلى جانبه، ثم نزل من طراحته حتى ساواه وقال: إن كان لك دعوى فاذكرها، فحرر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولا، فأجابه السلطان: إن سنقر هذا كان مملوكي، ولم يزل على ملكي حتى أعتقته، وتوفي وخلف ما خلفه لورثته، فقال الرجل: لي بينة تشهد بما ادعيته، ثم سأل فتح كتابه ففتحه فوجدته كما شرحه، فلما سمع السلطان التاريخ: قال عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر، وإني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة، وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته، ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك، وذكروا القصة كما ذكرها التاريخ كما ادعاه، فأبلس الرجل، فقلت له: يا مولاي! هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلبا لمراحم السلطان، وقد حضر بين يدي المولى ولا يحسن أن يرجع خائبا للقصد، فقال: هذا باب آخر، وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها، قال ابن شداد: فانظر إلى ما في طي هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع، والانقياد إلى الحق، وإرغام النفس، والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة. ا.ه.

مثل هذا الفاتح العظيم مات ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة، فإن صدقة النفل استرقت جميع ما ملكه من الأموال، فملك ما ملك ، ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصريا وجرما واحدا ذهبا، ولم يخلف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئا من أنواع الأملاك، وكان - رحمه الله - يهب الأقاليم وفتح آمد (ديار بكر) وطلبها منه ابن قره أرسلان، فأعطاه إياها، وهو يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئا من المال حذرا أن يفاجئهم مهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه، قال ابن شداد: وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب، فما سمعته قط يقول: أعطينا لفلان، وكان يعطي الكثير، ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئا، وما سمعته قط يقول: قد زدت مرارا فكم أزيد، وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي، وكنت أخجل من كثرة ما يطلبون، ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم؛ لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك، وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره، وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي: قد تجارينا عطاياه، فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا، فكان عشرة آلاف فرس، ولم يكد يركب فرسا إلا وقد وعد بأن يعطيها لأحد طلاب عطاياه، وبالجملة فإن ما ذكره العماد وابن الشداد عن خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية وعدله وكرمه وشجاعته واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة هو العجب العجاب، وقرة عين المسلمين والعرب على مر السنين والأحقاب.

Bog aan la aqoon