ولو تقصيت تاريخ كل أمة صغيرة كانت أو كبيرة شرقية أو غربية نالت حظها من نور العلم والسعادة الحقيقية، لا تجده نشأ إلا بفضل أهل الرأي منها، ممن تجردوا عن سفساف الأمور وتنزهوا عن الأهواء النفسية.
وتاريخ إنكلترا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا واليابان شاهد عدل أبد الدهر بأن العقل هو الذي دبر ما دبر، وأن ما نراه ونعجب به من آثار اجتماعهم ونظامهم هو من عمل السنين، ونتيجة الانكماش والتوفر وحسن التدبير. ولقد نرى العقلاء يصرفون الأمر بواسع حكمتهم، ويدبرون أمور قومهم تدبير من طب لمن حب.
الأمم تقتبس بعضها عن بعض، فإن كانوا قادة حركتها عقلاء، تأخذ عنهم النافع، وإن كانوا جهلاء يختلط عليها الأمر، وتتناول الغث والسمين بلا تمييز، فقد كان من نتائج الثورة الفرنسوية سنة 1848 أن انعكست صورة منها على ألمانيا، وكانت العقول قد تخمرت والنفوس قد استعدت، فحدث فيها انقلاب عام، وقام العامة بتدريب الخاصة يطالبون الحكومة بالإصلاح، فاستسلمت لمطالبهم؛ لأنها رأت الحركة عامة، ومن عادة الحكومات ألا تحرك ساكنا إذا رأت السواد الأعظم عليها متألبين.
قال صاحب كتاب ألمانيا الحديثة ونشوبها:
2 «فخاف الأمراء وطأطئوا رءوسهم من عاقبة هذا الانتقاض، وخف ملك ورتمبرغ وكبار دوقات بادوهيس ومجلس الشيوخ في فرنكفورت، فأصدروا أمرا بإطلاق حرية الصحافة، وأصاب مجلس الأمة في فرنكفورت دوار عظيم، فعزم على إعادة النظر في صك الوحدة الوطنية وجمع شتات الأمة الألمانية، ودعا الحكومات الألمانية لإرسال مندوبين عنها ليتفاوضوا في هذا الشأن.»
ونشأت اضطرابات في مونيخ أدت إلى تنازل الملك لويز الأول عن الملك، وارتقاء ماكسيمليان الثاني إلى العرش وتأليف وزارة حرة، وتعدى الحال إلى فينا، فنشأت فيها ثورة قضت على طريقة مترنيخ في الحكم، ونهضت كل من المجر وإيطاليا إلى مثل هذا الغرض، ونشبت الفتنة في برلين، وأصبح الملك والعاصمة تحت أمر الثائرين، واندكت معالم الحكم المطلق.
وكان في رأس تلك الأعمال جماعة من أهل الطبقة الوسطى المهذبة من الأساتذة والكتاب والمحامين والأطباء والتجار وأرباب المعامل، كلهم يطالبون باتحاد كلمة الإمارات الألمانية، وإحلال الحرية محل العبودية، وتدور أهم مطالبهم على دعوة دار ندوة وطنية، وإطلاق حرية الصحافة وإنشاء مجلس محكمين، والاستعاضة عن جيوش دائمة بتسليح الأمة.
وكان بين تلك الصفوف من الحزب الحر فريق عظيم، يرى الاعتدال خيرا من التطرف، وأن يعمد إلى مخاطبة الملوك والأمراء في تحقيق مطالب الإصلاح، وفريق يرى إلغاء سلطة الأشراف والملك وإنشاء نظام جمهوري، ووراء تينك الطبقتين سواد عظيم من السكان، يطالبون ما عدا الإصلاحات السياسية بإصلاحات اجتماعية، تكون فيها السعادة العامة، ويراد بها مساواة الجميع وإلغاء امتيازات كبار المزارعين في القرى، وإصلاح القانون الصناعي في المدن، وحماية أرباب الصنائع من منافسة المعامل، وحماية رجل المعمل من مديره.
كل هذه الحركة الثورية أدت إلى اجتماع دار الندوة في فرنكفورت، وقد طلب الشعب تنظيمها واجتماعها بنفسه وبواسطة أهل الثقة والرأي منه، ولم يسع الحكومة إلا أن تدير هذه الحركة، ولكنهم طلبوا اجتماع دار الندوة، ورخصوا بالانتخاب، ورضوا بأن يجتمع النواب الذين ينتخبون بالانتخاب العام، ليجتمعوا ويتفاوضوا في مصالح البلاد العامة، ويساعدوا الأمراء، وصار القول الفصل للأحرار، ومن ذلك نشأت الوحدة الألمانية التي بهرت آثارها.
هذا ما جرى في ألمانيا في سبيل التحرير من رق العبودية، وغريب في أمر الألمان والإنكليز فإنهم نالوا حريتهم من ملوكهم بالتدريج، ولم يريقوا فيها دما، على العكس في الفرنسيس فإنهم نالوا ما نالوا بعد أن بذلوا مهجاتهم، فليت كل أمة قضي عليها بالاستعباد تنال حريتها على أيدي عقلائها بدون فتنة كما نالتها ألمانيا وإنكلترا، فلا خير في الفتن مهما كانت النتائج، ولا خير في أمة لا يتولى عقلاؤها شئونها.
Bog aan la aqoon