2
والحبر
3
التي لم تطلق على أكثر حملة الشريعة والعلم أيام نضارة الدين، أصبحت تطلق على الجهلاء لعهدنا بعد أن كانت هذه الألفاظ تجعل لأفراد في الأمة امتازوا ميزة ظاهرة بعقولهم وعلومهم، وقد تستعرض القطر بل الأقطار بل العصر والأعصار، ولا تجد واحدا استحق هذه الألقاب، وصرت إذا دخلت في عهدنا إلى مدينة صغيرة كطرابلس الشام تظن نفسك وجميع من لهم شيء من الذكر قليل أو تولوا منصبا ولو حقيرا في خدمة الحكومة، يعطون لقب «العالم الفاضل» و«العلامة الفاضل» و«الإمام المحدث» بدون نكير.
كان يقال لجبير بن زهير الحضرمي: «عالم أهل الشام»، وللخليل بن أحمد «علامة البصرة»، ولمالك بن أنس «إمام دار الهجرة»، ولعبد الله بن عباس «رباني هذه الأمة»، أما اليوم فإن ألفاظ عالم وعلامة وإمام تطلق على الممخرقين والمتنطعين الذين لم ينفعوا الأمة بشيء، فقد كان يلقب بالعلامة الأول قطب الدين الشيرازي، كما يطلق لقب العلامة الثاني على سعد الدين التفتازاني على نحو ما أطلق على أرسطو لقب المعلم الأول، وعلى الفارابي لقب المعلم الثاني.
تشدد القوم في إطلاق ألقاب التفخيم حتى على العلماء صيانة لألقابهم من الابتذال، فرأينا العصام في حاشيته علي الجامي لا يوافق الجامي بإطلاقه على ابن الحاجب لفظ «العلامة المشتهر في المشارق والمغارب»، فقال: إن في وصف ابن الحاجب بالعلامة نظرا؛ لأن هذا اللفظ إنما يناسب فيما بين العلماء من جمع جميع أقسام العلوم كما هو حقه من العلوم العقلية والنقلية، وليس ابن الحاجب إلا من العلماء في العلوم النقلية؛ ولذا خص من بين العلماء قطب الملة والدين والشيرازي بالعلامة، حيث سبق العلماء كلهم في جميع أقسام العلوم.
هكذا كان أدب سلفنا، أما اليوم فقد استرسل عباد المظاهر في هذا الشأن، فسموا إلى تلك الألقاب الشريفة التي لم يجوزوا إطلاقها على مثل ابن الحاجب الإمام المحقق في فنه، وبلغت الحال ببعضهم أن صاروا يكتبونها بأيديهم عن أنفسهم كأن العلامية والعالمية والإمامية لا تثبت في الأذهان إلا بمثل هذا العمل.
وعندنا أن الأحرى بمن تدور معارفه على الفقه وحده أن يسمى فقيها إن كان ممن برزوا حقيقة في أصوله وفروعه، ومن اقتصر على الأصول وحده أن يسمى أصوليا، ومن غلب عليه علم الحديث أن يقال عنه حديثيا، وإلا فإن كلمة عالم لا تقال إلا لمن يعمل بما يعلم كما قال بعضهم، وإن شئت فقل لمن يظهر فيه أثره، ويمتزج بأجزاء نفسه أي امتزاج، قال ابن جني: لما كان العلم قد يكون الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة، ولم يكن على أول دخوله فيه، ولو كان كذلك لكان متعلما لا عالما.
جرت على هذه القاعدة الأمم الراقية قديما وأمم المدنية الحديثة لعهدنا، فلم يطلق على سقراط وأفلاطون وأرسطو الفلاسفة ألقاب العلماء في بلاد اليونان إلا بعد أن قضى كل منهم سنين في التعلم وسنين في التعليم، وهكذا رأينا الأمم الحديثة لم تطلق على نيوتن وهكسلي وكونت وكانت وكيتي اسم عالم إلا بعد أن درسوا الدروس النظامية كلها، وبرزوا على رجال عصرهم بفنون مخصوصة أبرزوا فيها آثار علمهم وأثروا في محيطهم.
ومن عجيب الأخلاق أن من ينتسبون لشيء من علوم الدين في عهدنا يعز عليهم إلا أن تبقى ألفاظ العالم والمحقق والعلامة محصورة بأهل طبقتهم، كأن من يعلم الهندسة أو الطب أو الحقوق أو الصحافة أو السياسة لا يستحق أن يعد في العالمين، ولو أيدت علمه أمثلة كثيرة، يريدون أن تبقى هذه الألفاظ لهم، وكذلك بعض المشتغلين بهذه العلوم الدنيوية، يعز عليهم أن يطلقوا الألقاب العلمية على من لا يعلمون علومهم، في حين رأينا صاحب إرشاد القاصد وصاحب كشف الظنون عدا العلوم كلها دينية ودنيوية، وسمياها كلها علوما حتى السحر والطلسمات والشعبذة، فذكر الأول من أنواعها مائة نوع والثاني مائة وخمسين نوعا.
Bog aan la aqoon