ولد هذان الموظفان الكاملان في مدينة صيدا (الشام)، وماتا في يوم واحد في هذه المدينة (دمشق)، وشبا وشابا في حسن الخدمة، وتشابها في أكثر الوجوه، وماتا ولم يخلفا وراءهما من حطام الدنيا إلا ما لا يكاد يرضى به من كان في عمله بعدهما بعشر درجات من الكتاب والحساب، ولكن الكاملين خلفا ثروة لا ينضب على الأيام معينها، ونعني بها كنز استقامتهما وعزة نفسيهما، فعفا عن كل ما يقال له الرشاوى والهدايا والصلات من أموال الأمة، وخدماها خدمة صادقة رائدها الإخلاص وسداها ولحمتها العلم والعمل الحقيقي.
كثير من الناس من يتولون من المناصب أرقاها، ويجمعون من المال أوفاها، وينالون من مراقي العز منتهاها، ولكنهم يذهبون بقبح الأحدوثة وسوء القالة، وتلعنهم القلوب إذا لم تلعنهم الألسن، وهم عند ظنهم قد عاشوا بنعمة، والحال أنهم عاشوا أشقياء مرذولين وقضوا كذلك؛ فنالوا الخزي في هذه الدار وفي الدار الأخرى.
لا يقاس في نظر التاريخ احترام الرجال بقدر ما ملكت أيمانهم وضمت خزائنهم، بل بقدر ما أنتجت عقولهم وشرفت أعمالهم، وأعظم سلوى يرتضيها المستقيم في عمله، ويؤثرها على كل فاقة، ويستعين في سبيلها بكل صعب هو أنه يحيا غير معذب الوجدان مستقل الفكر، ويموت قرير العين؛ لبعده عن الخيانة والعبث بدماء الناس والعبث في أموالهم وحقوقهم.
يتهمنا بعض أرباب الأغراض من الجاهلين، بأنه يقل فينا معاشر العثمانيين المستقيم العفيف من رجال الجيش والإدارة والقضاء، وأنه إذا وجد العامل الكامل بيننا يعيش مضطهدا، ويؤخر عن قصد في سلاسل الترقي، والحال أن في هذا الأمر نظرا؛ لأنه لا يعقل أن تخلو الأمة من كملة، ومتى غلب فاسدوها على صالحيها فهناك الخراب المحتم، أما أن النزيه يضطهد ولا يرقى فإن في ماضي هذه الدولة وحاضرها مئات من الأمثلة على خلاف ذلك، ولو كانت الحال على ما يدعون ما ارتقى فقيدانا العربيان في الولايات هذا الارتقاء، فثبت أن للاستقامة أناسا يقدرونها قدرها، وأن النزيه العفيف من العمال يحترمه، ويخافه حتى الذي هو أرقى منه في سلسلة المراتب وتقدم الميلاد.
ما اجتمعت بعامل مرتش مهما كانت درجته إلا ووجدته خائفا ذليلا صغيرا في نفسه يصانع وينافق، وما اجتمعت بعامل من أهل الصنف الآخر إلا وقرأت عزة النفس في وجهه والشمم والرفعة الحقيقية في أطواره، والجد غالبا عليه في أقواله وأفعاله.
ومن الغريب أن كل من جمعوا المال وبالغوا في إضاعة حقوق الناس ليغتنوا بزعمهم، أصابهم الفقر قبل موتهم، وبقيت أنسالهم معذبة، ولم تنل حظا من التربية، وهي إلى الدثور والعفاء أقرب منها إلى الحياة والعلاء، أما الذين ثبتوا على عفة أيديهم، فلم يتناولوا المال إلا من طريقه الذي شرع لهم وهو رواتبهم ومخصصاتهم ونفقات تنقلهم، فقد رأيناهم عاشوا سعداء منعمين، موسعا عليهم، وتركوا لأولادهم تربية سليمة هي أثمن من كل ثمين.
مظاهر الحياة كثيرة، والعمال أقرب إلى الغرور من غيرهم؛ لأن بأيديهم قوى لا يمنعهم عن إساءة استعمالها وازع غير الوازع النفسي، فمن غلبت شقوته سعادته كان من المغرورين بمظهرهم، وعبث بالأمانة التي اؤتمن عليها، وأي أمانة أعظم من مصالح الناس وحقوقهم ودمائهم؟ ومن كانت سعادته غالبة شقوته ارتضى بإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وعامل الرعية وهي وديعة الله بين يديه معاملة الأب المشفق الرحيم، وهذا هو الذي يقدسه الناس ويرحمونه، ويدعون له حيا وميتا في ظاهرهم وباطنهم، والله لا يضيع عمل عامل.
الحاج مصطفى حولا1
ربما يستغرب القارئ إيراد هذا الاسم في هذا المكان، ولكن متى ظهر السبب بطل العجب، هو يستغربه لأن صاحبه ليس ذا مظهر ديني ولا دنيوي، ولم يحرز لقب باشا ولا بك ولا أفندي ولا شيخ ولا سيد؛ لأن الظاهر من حاله أنه رجل من عامة المسلمين.
نعم، هو مسلم هدته الفطرة إلى آداب الإسلام بدون أن يدرس في مدرسة دينية أو دنيوية، ولا تشبع بمدنية الغرب ولا الشرق، وما كان أبوه رب عقار ومزارع، ولا خلف له أو أحد أقاربه أموالا اكتسبت من غير حلها من مثل وقف أو رشوة أو ظلم أو سرقة، بل هو عصامي عاش من تجارته المشروعة وأملاكه القليلة.
Bog aan la aqoon