وكان أبو الحسين علي بن الحمارة آخر فلاسفة الأندلس آخر من برع في الألحان وعلمها وهو من أهل غرناطة، قال في نفح الطيب: واشتهر عنه أن كان يعمد إلى الشعراء، فيقطع العود بيده، ثم يصنع منه عودا للغناء، وينظم الشعر ويلحنه، ويغني به فيطرب سامعيه، وكان الفاضل أبو الحسين بن الوزير أبي جعفر الوقشي آية في الظرف والموسيقى والتهذيب، وشيخه في هذا الفن أبو الحسين بن الحسن بن الحاسب، كان ذا ذوق فيها مع صوت بديع أشهى من الكأس للخليع، قال أبو عمران بن سعيد: ما سمعته إلا تذكرت قول الرصافي:
ومطارح مما تجس بنائه
لحنا أفاض عليه ماء وقاره
يثني الحمام فلا يروح لوكره
طربا ورزق بنيه في منقاره
وكان محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة - المنطق والهندسة والعود والموسيقى والطب - فيلسوفا طبيبا ماهرا، يقرئ الأمم بألسنتهم، فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها، ولما تغلب الإفرنج على مرسية عرف له حقه، فبنى مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود. قاله في النفح.
وعلى الجملة لم تكن صناعة الموسيقى بالمنزلة التي يصورها أهل جيلنا من الغضاضة والضعة، بل عرف بها أناس من أهل الصيانة والعلم، وما كان كل من تعاطى صناعة الغناء عاريا من سائر العلوم، فقد كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي نديم الخلفاء وشيخ الغناء، ومع هذا كان من العلماء باللغة والشعر وأخبار الناس، وله يد طولى في الحديث والفقه والكلام، وكان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس، واشتهر بالغناء لوليته القضاء، فإنه أولى وأعف وأصدق وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة، ولكنه اشتهر بالغناء، وغلب على جميع علومه مع أنه أصغرها عنده.
ومثل هذا ما وقع لقاضي إشبيلية أبي بكر بن القاضي أبي الحسن الزهري، فإنه كان كثير اللعب بالشطرنج، لم يكن من يلعب به مثله في بلده، قال: فكانوا يقولون أبو بكر الزهري الشطرنجي، فكان إذا بلغني ذلك أغتاظ ويصعب علي فقلت في نفسي: لا بد أن أشتغل عن هذا بشيء غيره من العلم لأنعت به، ويزول عني وصف الشطرنج، وعلمت أن الفقه وسائر الأدب ولو اشتغلت به عمري كله لم يخصني منه وصف أنعت به، فعدلت إلى أبي مروان عبد الملك بن زهر واشتغلت عليه بصناعة الطب، وكنت أجلس عنده وأكتب لمن جاء مستوصفا من المرضى الرقاع، واشتهرت بعد ذلك بالطب وزال عني ما كنت أكره الوصف به، وهذا هو السبب والله أعلم في إخفاء كثير من أهل الوقار والعلم أنهم على جانب من علم الموسيقى والضرب على العود وغيره من أنواع المذوذ، ولولا التقية لانتهى إلينا أسماء كثير ممن لم تبلغنا عنهم سوى أخبار العلوم المتعارفة، على أن الشرف كله اعتباري، ولا مانع من الغناء والتلحين إذا لم يتبعه التلطخ بحمأة السفاهة والرذيلة.
أما الملوك والأمراء الذين عنوا بالموسيقى قديما، فأكثر من أن يحصوا، منهم يزيد بن عبد الملك، ومسلمة بن عبد الملك، وأبو عيسى بن الرشيد، وعبد الله بن موسى الهادي، وإبراهيم بن عيسى بن جعفر المنصور، ومحمد بن جعفر المقتدر، والمتوكل، والمهدي، والمؤيد، وطلحة الموفق، والطائع، والمقتدر، وابن المعتز وغيرهم من الملوك المتأخرين والله أعلم.
الاستشفاء بالموسيقى1
Bog aan la aqoon