ولكننا مع ذلك نرى أن عظمة الإسكندر ينبغي أن تضاف إلى شيء غير هذا خليق بالخلود حقا؛ لأنه يتصل بالعقل لا بالأرض، فلم يكن الإسكندر قائد جيش ليس غير، وإنما كان قائد فكر قبل كل شيء وبعد كل شيء، وفوق كل شيء. لم يفهمه معاصروه، ولم يفهمه خلفاؤه، وفهمناه نحن، ولكننا لم نفهمه بعد كما ينبغي.
عد إلى الفلسفة اليونانية التي أزهرت في القرنين الخامس والرابع قبل المسيح، والتي انتهت بإفساد النظم السياسية واليونانية، ولم توفق لإيجاد نظم جديدة تخلفها؛ عد إلى هذه الفلسفة تجدها كانت تطمح، قبل كل شيء، وبدون أن تشعر إلى توحيد العقل الإنساني، والأخذ بنظام واحد في التصور والتفكير والحكم، ولم يكن بد إذا انتصرت هذه الفلسفة من أن تتقارب الشعوب وتتعاون على توحيد الحضارة وترقيتها، وعلى إيجاد نوع إنساني متحد الغاية متشابه الوسائل في مساعيه.
ولكن، ما السبيل إلى انتصار هذه الفلسفة؟ وما الوسيلة إلى تحقيق غايتها هذه؟ أما الدعوة والنشر فما كان من شأنهما أن يضمنا هذا النصر، ولا أن يحققا هذه الغاية. فكيف تتصور انتشار فلاسفة اليونان في البلاد الشرقية وإذاعة فلسفتهم في هذه البلاد، وإذا لم يمهد لذلك بإزالة الفروق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين اليونان وغيرهم من الشعوب! فهم الإسكندر هذا وجد فيه فوفق له: وأخضع العالم القديم المتحضر كله لسلطان واحد، وأزال بين شعوبه تلك الفروق التي أشرنا إليها آنفا، وأتاح للآداب اليونانية والفلسفة اليونانية أن تتغلغلا في أعماق الشرق وتؤثرا في نفوس الشرقيين، وتصبغاها هذه الصبغة اليونانية التي كانت قد أعدت من قبل لتكون صبغة عامة خالدة للعقل الإنساني كله. بل لم يكتف الإسكندر بإزالة هذه الفروق السياسية وإخضاع العالم القديم كله لسلطان واحد، وإنما طمع في شيء آخر أبعد مدى وأعسر تناولا: طمع في إزالة الفروق الجنسية بين الناس. لم يكتف بخلط الشعوب بعضها ببعض، بل أراد أن يمزجها ويستخلص منها شعبا واحدا. انظر إليه حين استقر ببابل، وقد أخذ في هذا المزج بالفعل، فبدأ يزاوج بين اليونانيين والمقدونيين من جهة، والفرس من جهة أخرى، حتى لقد أحدث في يوم واحدة عشرة آلاف من هذه المزاوجة، وأنفق في تشجيع هذه الحركة أموالا ضخمة، وجعل نفسه وزعماء جيشه قدوة لعامة الجيش، بل لم يكتف بهذا، وإنما أزمع إحداث حركة عامة، وأراد أن ينقل طبقات ضخمة من الفرس إلى البلقان، وطبقات ضخمة من البلقان إلى الفرس، لا يريد بهذا كله إلا مزج الشعوب، وإزالة ما بينها من الفروق الجنسية. ولكن الموت عاجله قبل أن يبدأ في هذه التجربة التي لو تمت لغيرت وجه الأرض، ولحولت سير التاريخ.
وسواء علينا أكان الإسكندر مصيبا أم مخطئا في هذه الفكرة وفي انتهاج هذا المنهج، وسواء علينا أوفق أم لم يوفق، وإنما الشيء الوحيد الذي لا شك فيه هو أن الإسكندر لم يكن يريد أن يفتح الأرض وحدها، وإنما كان يريد أن يفتح معها العقل، بل قل: إنه إنما كان يفتح الأرض تمهيدا لهذا الفتح العقلي. بل لا تستعمل كلمة الفتح؛ فلم يكن الإسكندر فاتحا بالمعنى الذي فهمته الأجيال المختلفة: لم يكن صاحب حرب وقهر وغلب، وإنما كان صاحب مودة ومحبة وإخاء وتسوية بين الناس. ولقد أسرف في الإطالة لو أني تحدثت إليك بما لقي الإسكندر في ذلك من مشقة وعناء؛ فقد أنكره المقدونيون حتى ثاروا به وهو زعيمهم، وقد سخر منه اليونان، ودبر أولئك وهؤلاء المؤامرات، واضطر الإسكندر إلى أن يتخذ العنف وسيلة إلى قهر خصومه من أنصار القديم. كان الإسكندر قائد فكر كما كان قائد جيش، وقد وفق في قيادة الفكر لما لم يوفق له في قيادة الجيش. وهنا عبرة تاريخية يجب أن يتفكر فيها من يريد أن يتعظ ويقدر الأشياء كما هي.
ظفر الإسكندر في قيادته العسكرية بكل ما كان يريد، فخضعت له أقطار الأرض، وورث تلك العروش التي ورثها، وعبدته الشعوب على اختلافها. ولكن هذا الظفر لم يدم؛ فلم يكد الإسكندر يفارق هذه الحياة، حتى تفرق أصحابه واختلفوا، وشبت الحرب بينهم، وتقطع هذا الملك، ولم يتم تكوين هذه الدولة التي كان يرمي إليها الفاتح العسكري، وأخفق الإسكندر في قيادته الفكرية أثناء حياته، فلم يتم له ما كان يريد من توحيد الشعوب، والتقريب بين العقول، وإيجاد حضارة واحدة مشتركة، ولكنه ظفر بهذا كله بعد موته؛ لأن فتحه العسكري قد غرس هذه الفكرة في جميع أقطار الأرض التي وطئتها جيوشه. ولم يكن بد من الوقت لتستطيع هذه الفكرة أن تنبت وتنمو وتؤتي ثمراتها. ولم يكد ينتهي القرن الثامن حتى كانت الحضارة اليونانية حضارة الشرق القديم، واللغة اليونانية لغة الشرق القديم، وحتى أخذ الشرق يشارك اليونان في آدابهم وفنونهم وفلسفتهم؛ حتى نشأ من اختلاط اليونانيين والشرقيين مزاج خاص، تستطيع أن تجده واضحا جليا إذا درست الفلسفة الإسكندرية، أو آداب الإسكندريين، أو زرت المتاحف ورأيت هذه الآثار الباقية التي اشترك فيها الشرق واليونان. وما لنا نضرب الأمثال بهذه الأشياء التي لا يتاح للناس جميعا أن يشهدوها وبين أيدينا مثلان لا يستطيع أن ينكرهما منكر: الأول الديانة المسيحية؛ فليست هذه الديانة إلا نتيجة لازمة لتعاون العقلين الشرقي والغربي، ومثالا صادقا لهذا المزاج الجديد الذي نشأ من هذا التعاون؛ ولهذا ظفرت الديانة المسيحية من الفوز في أوربا بما لم تظفر به الديانة اليهودية لأنها سامية خالصة، وبما لم يظفر به الإسلام لأنه أعرق في السامية من الديانة المسيحية، والثاني هذا التفاهم القائم بين الشرق والغرب؛ فمهما تكن الفروق بين الشرقيين والغربيين، فهي فروق سياسية أو اجتماعية أو جنسية.
أما الفروق العقلية فقد محيت محوا تاما، وأصبح الشرقي والغربي يفهمان ويحكمان على نحو واحد؛ فليس هناك علم شرقي وعلم غربي، وليست هناك فلسفة شرقية يعجز الغربي عن فهمها، ولا فلسفة غربية يقصر الشرقي عن إساغتها. كل ذلك أثر من آثار الإسكندر؛ فهو الذي قارب بين الشرق والغرب، ومزج العقل الشرقي بالعقل الغربي، ولولا حركة الإسكندر هذه لكانت للشرق شؤون غير شؤونهما التي عرفها التاريخ.
والإسكندر إذن قائد من قادة الفكر، بل هو زعيم من زعماء قادة الفكر، بل هو أشد قادة الفكر القدماء إنتاجا وأكثرهم نفعا؛ فما قيمة الفلسفة اليونانية كلها لو لم يتح لها الإسكندر؛ ليذيعها في أقطار الأرض، ويبثها في مختلف الشعوب!
يوليوس قيصر
ليس من اليسير أن يذكر الإسكندر دون أن يذكر قيصر، فقد كان التشابه بينهما عظيما، على ما بينهما من اختلاف الجنس، وعلى ما بين عصريهما من تباين، وعلى ما بين الظروف التي أحاطت بحياتيهما وبالعالم القديم في عصريهما من افتراق. كان التشابه بينهما عظيما إلى حد أن ثانيهما مكمل لأولهما تكميلا شعر به القدماء أنفسهم، فشبهوا قيصر بالإسكندر، واخترعوا في ذلك أساطير مختلفة كثيرة. وسواء أكان قيصر يفكر في الإسكندر ويتخذه مثلا في سيرته ومطامعه السياسية أم لم يكن، فليس من شك في أن حياة قيصر وسيرته قد تممتا حياة الإسكندر وسيرته.
أراد الإسكندر أن يخضع العالم القديم كله لسلطان واحد سياسي، وأراد أن يكون خضوع العالم لهذا السلطان السياسي وسيلة إلى إيجاد الوحدة العقلية في النوع الإنساني كله، وإلى إزالة الفروق المختلفة التي كانت تفرق بين الشعوب، وقد أخضع جزءا عظيما جدا من العالم القديم لسلطانه، ولم تتح له الحياة الوقت الكافي لإخضاع بقية العالم القديم لهذا السلطان: فتح الشرق ولم يستطع أن يفتح الغرب، بل إن الظروف أرادت ألا يكون فوز الإسكندر هذا متصلا؛ فقد عاجله الموت ولما يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، ولما يضع لدولته الضخمة من النظم والقوانين ما يكفل لها الوحدة السياسية التي كان يريد تحقيقها، فما هي إلا أن اختلف قواده وتقطع ملكه، وقامت على أنقاض دولته الضخمة دول كثيرة مختلفة. ومع هذا، فإن فوز الإسكندر عظيم، مثلناه لك في الفصل الماضي؛ لأن هذه الدول التي قامت على أنقاض دولته في أقطار الشرق، كانت كلها يونانية، فقاربت بين الشعوب، ووحدت الحضارة الإنسانية، وجعلت تعاون الشرق والغرب أمرا ميسورا.
Bog aan la aqoon