ثم يريد أفلاطون أن يأخذ الطبقة الثانية - طبقة الجيش - بنوع من النظام شديد صارم، يمكنها من أن تؤدي واجب الدفاع كما ينبغي، ويمكنها من أن تحفظ التوازن بين هذه القوى التي تتألف منها المدينة، ويعدها في الوقت نفسه لأن ترقى إذا أدركتها السن إلى طبقة الفلاسفة الذين يحكمون. يريد أفلاطون أن يزيل من بين أفراد هذه الطبقة كل سبب للفرقة أو الخصومة، وأي سبب للفرقة أو الخصومة أقوى من الشخصية؟! يجب إذا أن تزول الشخصية، يجب ألا يوجد الفرد لنفسه بل للدولة. ومعنى ذلك أن كل ما يكون الفرد وشخصيته. يجب أن يزول. يجب أن تمحى الملكية، فلا فقر ولا غنى ولا حقد بين الفقير والغني ولا خصومة بين الأغنياء. يجب أن تزول الأسرة، فلا زوجية ولا أبوة، أي يجب أن تكون المرأة حظا شائعا بين أفراد الطبقة جميعا تشرف الحكومة على توزيعه بين هؤلاء الأفراد. ويجب أن تمحى الأبوة، فلا يثبت النسب من الأفراد، وإنما الأطفال جميعا أبناء الدولة، تغذوهم وتقوم على تربيتهم وتنشئتهم حتى يبلغوا سن الرشد ويندمجوا في الجيش، وهي لا تربيهم جميعا، أو قل لا تحتفظ بهم جميعا، وإنما تحتفظ منهم بمن تستيقن أنه نافع للدولة يستطيع أن يدفع عنها حقا. وإذا فالمرضى من الأطفال والذين ساء تكوينهم أو أصابتهم العاهات، يجب أن تنبذهم الدولة نبذا. ولا يفرق أفلاطون في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة في هذه الطبقة، وإنما هما سواء على أن توزع الحكومة بينهما حظوظهما من الحقوق والواجبات، فتكلف كلا ما هو أهل له من الواجبات لصيانة الدولة وحياطتها.
أما الطبقة الثالثة، فيكاد يهملها أفلاطون، وهو لا يريد منها إلا أن تقدم إلى الجيش والحكومة ما يحتاجان إليه. ومن هنا لم يبلغ الملكية في هذه الطبقة؛ ولم يلغ الأسرة. وما يعنيه من هذه الطبقة ما دامت خاضعة لسلطان الجيش وسلطان الحكومة؟!
هذه هي المدينة الفاضلة الأفلاطونية، أعطيتك منها صورة موجزة بل ناقصة، لأني أهملت كثيرا من النظريات الأفلاطونية في السياسة والتربية حرصا على الإيجاز. والناس يرون أن هذه المدينة الأفلاطونية حلم من أحلام الخيال، ولكن من الحق علينا أن نلاحظ شيئين: أحدهما أن أفلاطون نفسه قد سبق الناس جميعا إلى الشعور بأن مدينته هذه خيال ليس إلى تحقيقه من سبيل؛ فعدل في كتاب القوانين - وهو آخر كتاب كتبه، ويقال إنه تركه غير كامل ولا منقح - عن بعض هذه الآراء الخيالية، لا لأنه جحدها أو عرف أنه مخطئ فيها، بل لأن تجاربه في صقلية وملاحظاته في بلاد اليونان، قد بينت له مكان الغلو في هذه النظريات، وعلمته أن المثل الأعلى شيء والحقيقة الواقعة شيء آخر.
الملاحظة الثانية: أن هذه النظريات الأفلاطونية التي تمثل ما يجب أن يكون، لا ما يمكن أن يكون، قد تركت آثارا قوية جدا في الحياة الإنسانية المعاصرة له والتي جاءت بعده. فقد يقال إن بعض المدن اليونانية الآسيوية تأثرت بسياسة أفلاطون، وطلبت إلى بعض الأفلاطونيين أن يضعوا لها النظم السياسية الملائمة للمدينة الفاضلة قليلا أو كثيرا، كما أن بعض المدن اليونانية في إيطاليا تأثرت بالفلسفة الفيثاغورية، ووكلت أمورها إلى الفيثاغوريين.
ومهما يكن نصيب السياسة الأفلاطونية من الفوز أو الإخفاق في حياة المدن اليونانية، فإن هذه السياسة قد أحرزت فوزا عظيما لا يزال قائما إلى الآن وإلى غد، وهو فوزها في الكنيسة المسيحية الكاثوليكية بنوع خاص. فإن شيئا من المقارنة بين نظام أفلاطون وتصوره للطبقة الحاكمة في مدينته الفاضلة وبين نظام الكنيسة الكاثوليكية، يقنعك بأن هذه الكنيسة تأثرت تأثرا غير قابل بالفلسفة الأفلاطونية في نظامها الدستوري الذي لا يزال قائما. •••
وجملة القول أن شخصية أفلاطون كانت وما زالت وستظل أبدا شخصية قوية عظيمة التأثير في الحياة العامة، بحيث إنك لن تستطيع أن تدرس مذهبا روحيا، قديما كان أو حديثا، دينيا كان أو فلسفيا، إلا وجدت للفلسفة الأفلاطونية فيه أثرا، يختلف قوة وضعفا باختلاف الظروف التي أحاطت بتكوين هذا المذهب. ولقد يكون من اللذيذ أن ندرس في يوم من الأيام تغلغل التأثير الأفلاطوني في الطبقات المختلفة من الشعوب المتباينة. فإلى الفلسفة الأفلاطونية ممتزجة بعناصر أخرى متنوعة، يرجع كثير من فنون السحر والكهانة والتصوف، وما إلى ذلك من هذه الفنون التي لا تزال عظيمة السلطان على الطبقات الدنيا في أكثر الشعوب.
لم يكد أفلاطون يأخذ في تعليمه الفلسفي في أثينا حتى أسرع إليه الناس يستمعون له، ويناقشونه ويحاورونه، وما هي إلا أن أصبحت مدرسته مجمعا علميا، أو قل مجمعا فلسفيا، لا يتألف من التلاميذ والأستاذ، بل يتألف من طائفة من الفلاسفة، يتقسمون العمل فيما بينهم، ويعنى كل واحد منهم بمسألة أو طائفة من المسائل، يدرسها ويفرغ لتحقيقها، حتى إذا مات أفلاطون، خلفه تلاميذه على إدارة المدرسة، وتفرق أصحابه في المدن اليونانية كما تفرق أصحاب سقراط، فأنشأوا فيها المدارس الأفلاطونية التي اختلف ميولها، ولكنها كانت أقرب إلى الاتفاق من المدارس التي أنشئت بعد سقراط. على أن تلميذا من تلاميذ أفلاطون كان قد نزل من قلب أستاذه منزلة خاصة، حتى أعجب به هذا الأستاذ، فكان يسميه «العقل» هذا التلميذ لم يلبث أن أنشأ مدرسة في أثينا نفسها، تعرضت لدرس المسائل الفلسفية التي تعرض لها أفلاطون، فغيرت وجهة النظر الفلسفي تغييرا ظاهرا، وأعطت الفلسفة اليونانية شكلها الأخير؛ نريد بهذا التلميذ «أرسطاطاليس»، وبهذه المدرسة مدرسة «اللوكايون» (Lycée) . ولا بد من أن نخصص لأرسطاطاليس ومدرسته بحثا كهذا البحث الذي خصصناه لأفلاطون.
أرسطاطاليس
شهد سقراط في شبابه مجد الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة، وشهد في شيخوخته هذه الجهود العنيفة التي كانت تبذلها هذه الأمة اليونانية نفسها لتقضي على ما كان لها من قوة وسلطان، شهد تلك الحرب التي لم يعرف العالم القديم مثلها، والتي أثرت في الحياة اليونانية تأثيرين مختلفين: فرقت الحياة العقلية، وحطت الحياة السياسية؛ وكانت فلسفة سقراط ممثلة لهذين التأثيرين: كان فيها انصراف عن السياسة، وكانت فيها من ناحية أخرى عناية بالحياة العقلية، وحرص على تقويتها وترقيتها وتهذيبها. وشهد أفلاطون في شبابه ضعف الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة؛ وتدخل الأجنبي في أمر هذه الأمة التي كانت شديدة البأس واسعة السلطان؛ فأصبحت أداة تصطنعها الأمة الفارسية لإرضاء مطامعها المختلفة في آسيا وفي أوربا. وشهد في شيخوخته انحلال هذه الأمة اليونانية وموت الروح الوطني فيها.
وكانت فلسفته ممثلة لهذا العصر الذي عاش فيه تمثيلا صحيحا؛ فكانت من جهة كفلسفة سقراط ترمي إلى تقوية الحياة العقلية ومحاولة أن تكون وحدها غاية الرجل الحكيم. وكانت من جهة أخرى كفلسفة سقراط أيضا تمثل السخط على الحياة السياسية الحاضرة، وتتخذها موضوعا للعبث والسخرية. ولكنها لم تكن يائسة من الإصلاح، وإنما كانت تخالف فلسفة سقراط وترمي إلى وضع نظام جديد للحياة السياسية ليس يعنينا الآن أكان في نفسه حسنا أم سيئا، معقولا أم غير معقول، ولكن الذي يعنينا أنه كان محاولة للإصلاح ورغبة في إقامة بناء سياسي جديد، ودليلا واضحا على أن البناء السياسي القديم الذي كان قد أخذ يتصدع أيام سقراط قد أشرف الآن على أن ينهار، ولم يبق من الاستعداد بد لإقامة بناء جديد على أنقاضه.
Bog aan la aqoon