ولست أريد أن أتعمق في تفصيل الصلة التي توجد بين هذه الدرجات الثلاث من الكائنات. وبين هذه الدرجات الثلاث من العلم؛ فذلك كله يخرج بنا عما نريد من الإيجاز. إنما ألاحظ أن العلم بهذه الحقائق الثابتة هو الغاية التي يسعى إليها الفيلسوف حقا، وأنه لا يصل إلا بعد مشقة وجهد عنيف، ولكنه إذا وصل إليها فقد وصل إلى الخير كله، واستطاع أن يمتزج بمصدر الكون أو بالإله. وما الإله عند أفلاطون؟ وكيف أوجد هذا العالم وأثر فيه؟ الإله عند أفلاطون فكرة هي مصدر كل شيء، ومرجع كل شيء، وهي فكرة الخير، وجدت بنفسها قبل أن يوجد الزمان، وهي موجودة مع الزمان، وستوجد بعده، لا علاقة لها به، ولا تأثير له فيها، وعنها صدرت كل الحقائق الخالدة، ولكن هذه الحقائق الخالدة ليست محسوسة، ولا سبيل إلى أن تحس، ومهما يبلغ أفلاطون من إثباتها فلن يصل إلى تفسير هذا العالم المحسوس. فكيف وجد هذا العالم؟ يرى أفلاطون أن الإله وحده لا يستطيع إيجاد هذا العالم. بل إن هذه الحقائق لا تستطيع إيجاد هذا العالم. وإذا فلا بد من عنصر ثالث ليوجد هذا الكون، وهذا العنصر الثالث هو المادة التي وجدت وحدها والتي اتخذها الإله سبيلا إلى إيجاد هذا العالم المحسوس.
نظر إلى الحقائق الخالدة التي صدرت عنه، فاتخذها مثلا ونماذج، صاغ عليها هذا العالم المحسوس، ثم لأجل أن تنبعث الحياة في هذا العالم المحسوس أوجد الإله صلة بينه وبين هذه المثل، فليس الإنسان الموجود في الخارج إلا مظهرا للحقيقة الثابتة الخالدة التي هي الإنسانية. وكذلك قل في جميع الموجودات الأخرى.
وليس يعنينا أن نفصل هذه الصلاة بين الحقائق الثابتة والعالم المحسوس، ولا أن نصف هذه الطرق الملتوية التي اتخذها أفلاطون ليبين كيف استطاع الإله إيجاد العالم وتدبيره. كل ذلك لا يعنينا الآن؛ وإنما الذي يعنينا هو أن نلاحظ أن هذه الفلسفة كان لها الأثر العظيم جدا في حياة العقل الإنساني قديما وحديثا، فأثر المدرسة الأفلاطونية القديمة، وأثر المدرسة الأفلاطونية الحديثة في العالم اليوناني والروماني، أشهر من أن نحتاج إلى ذكره. ثم أثر المدرسة الأفلاطونية التي أنشئت في الإسكندرية ظاهر بين. وحسبك أن الديانة المسيحية لم تخلص منه، وحسبك أنه عمل في تكوين العقل الشرقي عملا بعيد الأثر، لم يتناول الطبقات الراقية وحدها، بل تجاوزها إلى غيرها من الطبقات الدنيا في العصور المختلفة. أما أثر هذه الفلسفة في الحياة الأوربية أثناء القرون الوسطى، وفي هذا العصر الحديث فأعظم وأبعد من أن نلم به في هذا الفصل. ولعلك تعلم أن الفلسفة الأفلاطونية ما زالت حية إلى الآن، وما زال لها ممثلوها والمدافعون عنها بين فلاسفة الغرب.
على أن جزءا آخر من فلسفة أفلاطون يستحق عناية خاصة، لأنه يمتاز بشيء من الخصب والغناء، لم تظفر به الأجزاء الأخرى لفلسفته نريد به هذا الجزء الخلقي السياسي؛ فشخصية أفلاطون فيه بارزة قوية خالدة مهما تختلف العصور وتتبدل الظروف. وهذا الجزء من فلسفة أفلاطون متصل بالأجزاء الأخرى، ليس منفصلا عنها ولا ممتازا منها. فقد رأيت أن الكون كله يدور حول نقطة واحدة، عنها صدر، وإليها يرجع، وهي فكرة الخير أو الإله. وإذا كانت هذه الفكرة هي مصدر الكون ومرجعه، وهي التي ينتهي إليها بحث الفيلسوف، فينبغي أن تكون هذه الفكرة نفسها غاية الحياة العملية الإنسانية أيضا: ينبغي أن تكون هي مصدر السعادة، وينبغي أن تكون هي المثل الأعلى الذي يطمح إليه الإنسان في حياته العملية، كما أنها المثل الأعلى الذي ينتهي إليه في حياته النظرية؛ ذلك لأن الأخلاق ليست عملا عند أفلاطون، وإنما هي علم؛ أو قل إن أفلاطون لا يفرق في الأخلاق بين العلم والعمل؛ فهو يؤكد، كما كان يؤكد سقراط، أن مصدر ما نتورط فيه من الرذائل والآثام إنما هو جهلنا بالخير وقصورنا عن إدراكه؛ فإذا أزيل هذا الجهل وأتيحت لنا القوة التي تمكننا من إدراك الخير ومشاهدته، فنحن بمأمن من الرذائل والآثام. وليس يستطيع أفلاطون، كما لم يكن يستطيع سقراط، أن يتصور أن الإنسان يقدم على الشر وهو يعلم أنه شر، وينصرف عن الخير وهو يعلم أنه خير. وإذا فالفلسفة التي تؤدي إلى إدراك فكرة الخير ليست مصدر السعادة النظرية العملية وحدها، بل هي مصدر السعادة العملية أيضا؛ فالفيلسوف أسعد الناس لأنه يدرك الخير ويراه، ثم لأنه يسعى إليه ويطمع فيه وينظم حياته تنظيما يجعلها ملائمة له.
على أن أفلاطون لا يكتفي بهذا التفسير النظري الخالص، وإنما يحاول أن يفسر لنا مصدر الجهل الذي يورطنا في الشر والإثم. وتفسيره لهذا الجهل بديع قوي، فيه شعر، وفيه فلسفة معا. فالنفس عند أفلاطون مزاج يتألف من قوى ثلاث: إحداها هذه القوة العاقلة التي تتفهم الأشياء وتتبينها وتنتقل من المحسوس إلى المفهوم ومن المركب إلى المجرد، حتى تنتهي إلى الحقائق الثابتة، ثم إلى حقيقة الحقائق أو فكرة الخير أو الإله. والثانية: هذه القوة الغضبية التي وكل إليها الدفاع عن الحياة والاحتفاظ بها، وهي التي نسميها الشجاعة، وهي التي تحملنا على أن نغضب ونثور كلما احتجنا إلى الغضب والثورة. والثالثة هذه القوة الشهوية، التي تعنى بوجود الجسم المادي؛ لأنها تحمله على إرضاء شهواته المختلفة: من الأكل والشرب وما يتصل بهما من أنواع اللذات. ولكل قوة من هذه القوى الثلاث مركزها في الجسم. فأما الأولى فمستقرها الرأس، وأما الثانية فمستقرها الصدر، وأما الثالثة فمستقرها البطن. والنفس عند أفلاطون تشبه عربة يقودها جوادان أصيلان: أحدهما الغضب، والآخر الشهوة، أما سائق الجوادين فهو العقل. وإذا فلا بد من أن يوجد بين هذين الجوادين توازن في القوى وتوافق في الحركة من جهة، ولا بد من أن يوجد بينهما وبين السائق توازن آخر يضطرهما إلى الخضوع له والإذعان لأمره من جهة أخرى. فإذا اختل التوازن بين الجوادين أو بينهما وبين السائق، فذلك مصدر الشر الذي يتورط فيه. قد تسرف القوة الغضبية حتى تسيطر على القوتين الأخريين؛ وإذا فنحن متهورون مندفعون. وقد تسرف القوة الشهوية؛ وإذا فنحن عبيد اللذة وأرقاؤها. وعلى هذا النحو يرى أفلاطون أن الفضيلة حقا إنما هي مزاج ينتج من التوازن بين هذه القوى بحيث يستطيع الجسم أن يحيا ويحتفظ بحياته دون أن يحول بين النفس وبين الطموح إلى الخير والسعي إلى الوصول إليه.
شيء آخر يتم نظرية أفلاطون في الأخلاق، ويعين على فهم هذه الشخصية القوية، وعلى فهم ما كان لفلسفة أفلاطون من أثر بعيد في الحياة الإنسانية، وهو رأيه في العقوبة الخلقية، فليس يكفي أن يمثل لك الخير ويدعوك إليه. بل ليس يكفي أن يمثل لك الشر ويحذرك منه. وإنما هو يرى أن العقوبة أمر محتوم لا منصرف عنه ولا مفر منه، فلكل عمل جزاؤه، له الثواب إن كان خيرا، وله العقاب إن كان شرا - تلك نتيجة محتومة للعدل، وهي نتيجة طبيعية ليست متكلفة ولا مصطنعة، ليست كهذه العقوبات التي تفرضها القوانين المكتوبة، وإنما هي أقوى وأنفع وألزم من هذه العقوبات.
يرى أفلاطون أن هذه العقوبة ليست شرا، وإنما هي الخير كل الخير، ذلك أنها لا ترمي إلى الانتقام ولا إلى التعذيب، وإنما ترمي إلى التصفية والتطهير؛ فالأنفس الآثمة عندما تعاقب تطهر من أدران الإثم، وتعد لأن تستأنف حياتها الصالحة الراقية التي تلحقها بنفوس الأخيار وترقى بها إلى مستقرها الأول في الملأ الأعلى. أما تفصيل هذه العقوبات فجميل لا يخلو من لذة شعرية، ولا من قوة خيالية مدهشة. وحسبك أن مذهب التناسخ يختصر هذه العقوبات: فالنفس الآثمة بعد الموت تعود إلى هذه الحياة لتمحو إثمها، وهي تستقر في جسم من الأجسام يلائم نوع الإثم الذي اقترفته: كانت نفس رجل، فهي الآن نفس امرأة. كانت نفس إنسان، فهي الآن نفس فرس، أو نفس كلب، أو نفس حمار، وهلم جرا، فأنت ترى أن النظرية الخلقية لأفلاطون متصلة بنظريته في الطبيعية وفيما بعد الطبيعة. وليست بنظريته السياسية بأقل اتصالا بفلسفته العامة من نظريته الخلقية. ذلك لأن رأيه السياسي يقوم على رأيه الخلقي: فالجماعة عنده كالفرد تتأثر بما يتأثر به وتخضع له، ويجب أن تطمح إلى ما يطمح إليه.
وإذا كان الفرد مكلفا أن يطمح إلى العدل الذي يرقى به المثل الأعلى وهو الخير، فالجماعة مكلفة أن تطمح أيضا إلى هذا العدل. وقد رأينا أن العدل بالقياس إلى الفرد هو التوازن بين قوى النفس الثلاث، أو بين الأنفس الثلاث، كما يقول أفلاطون، فكذلك العدل السياسي توازن بين الأنفس الثلاث الاجتماعية أو السياسية. فللجماعة أنفس ثلاث كالفرد: لها نفس العاقلة، وهي الحكومة التي تقوم منها مقام العقل من الفرد ولها نفسها الغضبية التي تحميها وتحفظ عليها قوامها في الداخل والخارج وهي الجيش. ولها نفس الشهوية التي تقدم إليها ما تحتاج إليه من أدوات الحياة، وهي طبقة العمال والزراع ومن إليهم. وإذا فالحياة الاجتماعية السعيدة هي التي يتحقق فيها التوازن بين هذه الأنفس الثلاث، وليس تحقيق هذا التوازن بالأمر اليسير أيضا، كما أن تحقيق التوازن عند الفرد ليس بالأمر اليسير أيضا. ألست ترى أن الكثرة المطلقة من الأفراد أشقياء؟ ألست ترى أن كل المدن والدول القائمة إنما تخضع لألوان من الشقاء السياسي لا تكاد توصف ولا تحصى؟ وإذا لم يكن بد من أن يؤخذ الفرد بنوع خاص من التربية يمكنه من أن يحقق التوازن بين أنفسه الثلاث، فليس هناك بد من أن يؤخذ الأفراد بتربية سياسية تمكنهم من أن يكونوا المدينة الفاضلة التي يتحقق فيها التوازن بين الأنفس الاجتماعية الثلاث.
ولست أفصل لك قواعد التربية عند أفلاطون، فذلك شيء يطول، ومن اليسير عليك أن تقرأه في الجمهورية - فستجد في قراءته لذة لا تعدلها لذة. ولكني أجمل لك النتائج السياسية التي انتهى بها أفلاطون، والتي كونت مدينته الفاضلة التي هي في الحقيقة مثل أعلى ليس إلى تحقيقه من سبيل، والتي ندهش نحن الآن؛ لأن فيلسوفا كأفلاطون تصورها، وحاول أن يجعلها حقيقة واقعة.
يريد أفلاطون أن تتألف مدينته الفاضلة من هذه الطبقات الثلاث التي قدمناها الإشارة إليها، ويريد أن تكون الطبقة الأولى التي تشرف على الحكم بمنزلة العقل من الفرد. وكيف تكون هذه الطبقة بمنزلة العقل إذا لم تتألف من الفلاسفة! ... الفلاسفة وحدهم قادرون على تدبير الحياة الفردية والاجتماعية؛ لأنهم وحدهم قادرون على تصوير الخير والوصول إليه. وإذا فأفلاطون عدو للديمقراطية التي تكل الحكم إلى الناس جميعا دون أن تفرق بين كفاياتهم وحظوظهم من القوى العقلية. وهو عدو للأرستقراطية التي تعتمد على المولد أو على الثروة والجاه. أفلاطون أرستقراطي، ولكن أرستقراطيته تعتمد على الفلسفة. ولا تبتسم ساخرا أو مزدريا! فما زال الفلاسفة إلى اليوم وإلى غد ينحون هذا النحو، ويطمعون أو يتمنون، أن يكون الحكم إلى الفلسفة، ولعلك تعلم شيئا من رأي رينان في هذا.
Bog aan la aqoon