Protection of the Messenger ﷺ for the Sanctity of Monotheism
حماية الرسول ﷺ حمى التوحيد
Daabacaha
عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية،المدينة المنورة
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٢٣٢هـ/٢٠٠٣م
Goobta Daabacaadda
المملكة العربية السعودية
Noocyada
مقدمة
...
حماية الرسول ﷺ حمى التوحيد
تأليف: د. محمد بن عبد الله زربان الغامدي
شكر وتقدير
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه. وبعد:
يطيب أن أتقدم بوافر الشكر والتقدير لحكومة هذه البلاد وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين على ما تقدمه لخدمة الإسلام وأهله، ومن ذلك هذه الجامعة الإسلامية التي تستقبل أبناء المسلمين من أرجاء المعمورة.
كما أتقدم بالشكر لمعالي رئيس الجامعة على جهوده المتواصلة للسير بهذه الجامعة إلى تحقيق الأهداف التي من أجلها أسست وإلى قسم الدراسات العليا بالجامعة، وإلى فضيلة المشرف الدكتور أحمد بن عطية الغامدي الذي بذل وقته وجهده على متابعته لهذا البحث حتى تم إنجازه بتوفيق الله.
كما أشكر كل من ساعدني على ذلك.
وأسأل الله أن يجزي الجميع خيرا، وأن يجعل العمل خالصا لوجهه، إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد بن عبد الله، وعل آله وصحبه وسلم.
1 / 7
الفصل الثالث: أنواع التوحيد. ويشتمل على عدة مباحث:
المبحث الأول: توحيد الربوبية.
المبحث الثاني: توحيد الألوهية.
المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات.
المبحث الرابع: منهجه ﵊ في الدعوة إلى التوحيد.
وقبل هذه المباحث بيان أصل هذا التقسيم.
الفصل الرابع: أنواع الشرك. ويشتمل على ثلاثة مباحث.
المبحث الأول: الشرك الأكبر.
المبحث الثاني: الشرك الأصغر.
المبحث الثالث: الشرك الخفي.
الفصل الخامس: منهج الرسول ﷺ في حماية التوحيد.
ويشتمل على عدة مباحث:
المبحث الأول: حمايته لتوحيد الربوبية.
المبحث الثاني: اهتمامه ﵊ بتوحيد الألوهية وحمايته له.
المبحث الثالث: حمابته لتوحيد الأسماء والصفات.
الخاتمة: وقد ذكرت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث.
1 / 8
وقد بذلت جهدي في هذا الموضوع مستعينا بالله وحده لا شريك له، ثم بما كتبه علماء الإسلام المخلصون، واجتهدت في ذلك رغم قلة الوقت والعلم.
وأرجو أنني قد أديت شيئا مما يستحقه هذا البحث، وأرجو الله تعالى أن يتقبل عملي هذا ويجعله خالصا لوجهه، ولا شك أن كل عمل بشري عرضة للقصور والخطأ، وحسبي أنني قد اجتهدت، فما كان فيه من كمال وتوفيق للحق فمن الله، وما كان من قصور وخطأ فمني ومن الشيطان.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
1 / 9
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فبفضل الله تعالى وتوفيقه يسر لي القبول في الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ولما كان من نظامها تقديم بحث علمي في مجال التخصص لنيل درجة الماجستير.
ولأن تخصصي في علم العقيدة الإسلامية، الذي هو أشرف العلوم قدرا وأرفعها مكانة، فقد اجتهدت كثيرا في اختيار الموضوع المناسب، وبتوفيق الله تعالى وقع اختياري على موضوع: (حماية الرسول ﷺ حمى التوحيد) وذلك للأسباب الآتية:
أولا: أن الرسول ﷺ وهو الذي علمنا توحيد ربنا ﷿، كان أول ما دعا إليه، وحياته كلها كانت دعوة إليه، وحماية له، حرصا على أمته وخوفا عليها وبيان ذلك من أعظم ما يهم كل مسلم موحد.
ثانيا: أن هذا الموضوع – فيما أعلم – لم يكتب عنه في بحث مستقل شامل لهذه الحماية منه ﷺ وإنما ورد ضمن غيره في كتب بعض العلماء.
1 / 12
ثالثا: التذكير بهذه الحماية، وأنها أمانة في عنق كل مسلم حسب استطاعته الشرعية، ولعل هذا البحث المتواضع أداء لبعض هذه الأمانة.
وقد رتبت هذا البحث على: مقدمة، وخمسة فصول وخاتمة:
المقدمة: بينت فيها معنى التوحيد، والمفاهيم الخاطئة في هذا المعنى.
الفصل الأول: نماذج من دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. ويشتمل على عدة مباحث:
المبحث الأول: دعوة نوح ﵇.
المبحث الثاني: دعوة هود ﵇.
المبحث الثالث: دعوة صالح ﵇.
المبحث الرابع: دعوة إبراهيم ﵇.
المبحث الخامس: دعوة موسى ﵇.
المبحث السادس: دعوة عيسى ﵇.
الفصل الثاني: دعوة الرسول محمد ﷺ. ويشتمل على عدة مباحث:
المبحث الأول: حال الناس قبل بعثه ﵊.
المبحث الثاني: بعثته ﵊.
المبحث الثالث: دعوته ﵊:
أ - المرحلة المكية.
ب - المرحلة المدنية.
المبحث الرابع: أهمية التوحيد وأنه أول واجب على العبد.
1 / 13
تمهيد
أرى من المناسب قبل الدخول في موضوعات البحث أن أقدم بين يديه تعريفا للتوحيد لغة واصطلاحا، مع بيان ما حصل من مفاهيم خاطئة لمدلول التوحيد الذي جاء به رسول الله ﷺ.
فأما لغة:
فالتوحيد: مصدر وحد الشيء يوحده توحيدا، إذا أفرده، والوحدة: الانفراد، والله تعالى هو الواحد والأحد: ذو الوحدانية والتوحيد، والفرق بينهما أن الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد.
والواحد: اسم بني لفتح العدد، فتقول: جاءني واحد من الناس، ولا تقول: جاءني أحد، فالواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير، والأحد منفرد بالمعنى١.
قال ابن الأثير: "في أسماء الله تعالى (الواحد) هو الفرد الذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر"٢.
قال الأزهري: "وأما اسم الله ﷿ – أحد – فإنه لا يوصف شيء بالأحدية غيره، لا يقال: رجل أحد، ولا درهم أحد، كما يقال: رجل وحَدُ أي فرد، لأن أحدا صفة من صفات الله ﷿ استخلصها لنفسه، ولا يشركه فيها شيء، وليس كقولك: الله واحد، وهذا شيء واحد "٣.
_________
١ لسان العرب لابن منظور مادة (وحد) .
٢ ابن الأثير - النهاية في غريب الحديث والأثر ٥/١٥٩.
٣ الأزهري تهذيب اللغة ٥/١٩٧.
1 / 15
ومما تقدم يتبين أن مادة (وحد) تدل عل الانفراد، فالواو والحاء والدال أصل واحد يدل على الانفراد، يقال: هو واحد في قبيلته، إذا لم يكن مثله. قال الشاعر:
يا واحد العرب الذي ... ما في الأنام له نظير١
فوَحَد تدل على التفرد وعدم النظير والمثيل للشيء فيم كان واحدًا فيه، والله ﷿ هو الواحد الأحد، المتصف بصفات الكمال، فهو واحد أحد في ذاته، وأفعاله، وفي أسمائه وصفاته، لا نظير له في ذاته وصفاته، ولا ند له في إلهيته ولا شريك له في ربوبيته وملكه٢.
التوحيد في الاصطلاح:
مادة (وَحَدَ) كما تقدم في المعنى اللغوي تدل على التفرد، والتوحيد مصدر وحد، يوحد، توحيدًا، أي جعله واحدا.
والتوحيد في الاصطلاح: إفراد الله ﵎ بالعبادة، وإخلاصها له وحده لا شريك له وهذاهو دين الرسل الذي أرسلهم الله إلى عباده٣.
فإفراد الله سبحانه بالعبادة يقتضي أن تصرف جميع العبادات له ﷿ خالصة له دون من سواه كائنا من كان، لأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا مثيل ولا كفء ولا ند في ذاته وأفعاله وأسمائه وصفاته، قال
_________
١ انظر معجم مقاييس اللغة ٦/٩٠.
٢ انظر: تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص ٣٣.
٣ انظر: كشف الشبهات – للشيخ محمد بن عبد الوهاب، مجموعة التوحيد ص ٩٣ ط دار البيان.
1 / 16
تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ ١.
وقال ﷿: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ ٢.
وقال جل شأنه: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِه﴾ ٣.
وقال ﵎: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ ٤.
وقال سبحانه: ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ ٥.
وقال عز من قائل: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ٦.
وقال جل وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ٧.
ومن كان هذا شأنه وهذه صفته كان هو المستحق أن يفرد بالعبادة
_________
١ الآية ٣١ من سورة التوبة.
٢ الآية ٥ من سورة البينة.
٣ الآية ١٤ من سورة الزمر.
٤ الآية ٥ من سورة الفاتحة.
٥ الآية ٦٥ من سورة مريم.
٦ سورة الإخلاص.
٧ الآية ١١ من سورة الشورى.
1 / 17
وحده لا شريك له، وكان صرف شيء منها لغيره شركا وجهلا وضلالا.
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وبهذا المعنى فهي حق له تعالى على عباده لا يستحقها أحد سواه، كما جاء في حديث معاذ ﵁ حيث قال: "كنت رديف النبي ﷺ على حمار، قال: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا". قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" ١.
ومما تقدم نعلم أن إفراد الله ﷿ بالعبادة واعتقاد أنه سبحانه لا شريك له ولا ند ولا مثيل في ربوبيته وإليته وأسمائه وصفاته، حق واجب له تعالى على عباده، بل أول الواجبات وأعظمها وأساسها.
وهذا هو دين الله ﷿ الذي أرسل به رسله جميعا من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ٢.
_________
١ صحيح البخاري مع الفتح١٠/٣٩٧، وصحيح مسلم مع شرح النووي ١/٥٩٥٨.
٢ الآية ٣٦ من سورة النحل.
1 / 18
وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ١.
وقال ﷿: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ ٢.
فجميعهم جاءوا يدعون إلى عبادة الله وحده، ونبذ عبادة غيره منذ أن ظهر أول شرك في الأرض حتى بعث الله خاتمهم محمد ﷺ، فالعجب كل العجب ممن يشرك بالله بعد ذلك وله أدنى بصيرة، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
المفاهيم الخاطئة في معنى التوحيد:
ومع وضوح الرؤية وظهور الأدلة في هذا الجانب، فقد وجدت طوائف فهمت التوحيد فهما خاطئا وضلت في ذلك ضلالا بعيدا، وجعلت هذا الفهم الخاطئ غاية توحيدها، وأساس معتقدها.
والسبب في ذلك هو البعد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد ﷺ، والاعتماد على العقل وحده، وتقديمه على النصوص، ومعلوم تباين العقول واختلاف الأفهام.
_________
١ الآية ٢٥ من سورة الأنبياء.
٢ الآية ١٣ من سورة الشورى.
1 / 19
ومن أهم الطوائف التي سلكت هذا المسلك:
المعتزلة:
وهم الذي سموا أنفسهم أهل التوحيد، وجعلوه الأصل الأول من أصولهم، وغاية هذا التوحيد عندهم: نفي صفات الله ﷿، فيثبتون له سبحانه ذاتا مجردة عن الصفات، ووجودا مطلقا بشرط الإطلاق، لاعتقادهم أن إثباتها يوجب مشابهة الله لخلقه، وهذا شرك١.
فكل من أثبت لله تعالى علما أو قدرة أو أنه يرى في الآخرة، أو أن القرآن كلامه منزل غير مخلوق، أو أنه سميع بصير، مستو على عرشه بائن من خلقه، وغير ذلك من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة، فهو عندهم مشبه وليس بموحد. فالحكم عندهم هو العقل فما وافقه قبلوه، وما لم يوافقه ردوه وأنكروه أو فوضوه أو أولوه، ولإيضاح هذا المنهج يقول الإمام ابن تيمية ﵀:
ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له، فما وافق قانونهم قبلوه وما خالفه لم يتبعوه "٢.
_________
١ انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص ١٤٩، وما بعدها، وفتح الباري للحافظ ابن حجر ١٣/٣٤٤ ط دار المعرفة.
٢ ابن تيمية – درء تعارض العقل والنقل ١/٦ ط الأولى تحقيق د. محمد رشاد سالم.
1 / 20
والمعتزلة متفقون جميعا على نفي صفات الله تعالى، ويسمون ذلك توحيدا ولكنهم يختلفون في التعبير عن ذلك:
فمنهم من يقول: إنها نفس الذات، فيقول: إن الله عالم بعلم هو ذاته وقادر بقدرة هي ذاته ونحو ذلك، ومن هؤلاء أبو الهذيل العلاف١.
ومعنى ذلك عندهم: أن الذات تسمى باعتبار تعلقها بالمعلوم علما، ونحو ذلك في بقية الصفات، لا أن الصفات شيء غير الذات.
ومنهم من يعبر عنها بالسلب ونفي الضد، فمعنى كونه علما – عندهم – ليس بجاهل، وقادرا ليس بعاجز، ونحوه، ومن هؤلاء النظام٢.
ومنهم: من يعبر عنها بأنها أحوال وراء الذات، فيقول مثلا: لله عالمية وقادرية، لا علما ولا قدرة، ثم يقول: وهذه الأحوال ليست بموجودة ولا معدومة، وأشهر من قال بذلك: أبو هاشم، حتى نسبت إليه فقيل: أحوال أبي هاشم٣.
وقوله هذا محال، إذ لا يتصور حصول شيء وقيامه، وهو لا موجود ولا معدوم.
وقد اعتمد المعتزلة في نفيهم صفات الله ﷾ على قاعدة فاسدة، اتخذوها من عند أنفسهم مبعثها: بعدهم عن كتاب الله ﷿،
_________
١ انظر الملل والنحل للشهرستاني ١/٤٩، ومقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ١/٢٤٥.
٢ انظر مقالات الإسلاميين ١/٢٤٧.
٣ انظر الملل والنحل للشهرستاني ١/٨٢.
1 / 21
وتقديمهم العقل على النص، ثم الأقيسة الفاسدة، والتأويلات الباطلة التي درجوا عليها، فقالوا: لو أثبتنا الصفات وقلنا: إنها زائدة على الذات، فإن قلنا: إنها محدثة لزم من ذلك قيام الحوادث بذاته تعالى.
وإن قلنا: بأنها قديمة، لزم من ذلك تعدد القدماء، والقائل بذلك يقع في أشد مما وقعت فيه النصارى فإنهم قالوا بقدماء ثلاثة، وهو يقول بأكثر من ذلك!
وبناء على قولهم هذا، فمن أثبت صفات الله على حقيقتها فقد شبه الله بخلقه، وهذا شرك، أو يقول بتعدد القدماء وهذا شرك – عندهم – أشد من شرك النصارى الدين قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ .
وسبب ضلالهم هذا كما سلف ذكره هو عدم اعتصامهم بالكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: "وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة، كما كان الزهري يقول: كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة، وقال مالك ﵀: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ثم يقول شيخ الإسلام ﵀: "والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث – لا سيما في أخبار الصفات – حمل الحديث على عقله، وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزانا للحديث فليت شعري هل عقله هذا مصرحا بتقدميه في الشريعة المحمدية، فيكون من السبيل
1 / 22
المأمور باتباعه، أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل، فلا حول ولا قوة إلا بالله"١.
ومن جهلهم بكتاب الله تعالى تشبيههم لمن أثبت صفات الله تعالى وقال إنها قديمة بالنصارى حيث قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ وهذا تشبيه باطل وقياس فاسد، فإن سبب كفر النصارى أنهم قالوا بثلاثة آلهة كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ٢، فقد كذبهم الله بقوله ﷿: ﴿َمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ولم يقل: وما من قديم إلا قديم واحد٣.
وقد جعلوا لفظ (القديم) من أسماء الله تعالى، والحق أنه ليس من أسماء الله الحسنى، وهي التي تدل على خصوص ما يمدح به، والقديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره، ولم يستعمل فيما لم يسبقه عدم، والأمثلة على ذلك في كتاب الله تعالى كثيرة. قال عز من قائل: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ ٤ والعرجون القديم هو الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد قيل للأول قديم.
_________
١ ابن تيمية – الفتاوى ٤/٥٦،٥٧.
٢ لآية ٧٣ من سورة المائدة.
٣ انظر كتاب ابن تيمية السلفي، لمحمد خليل هراس ص ٩٣.
٤ الآية ٤ من سورة يس.
1 / 23
وقال جل شأنه: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ ١ ومعناه التقدم في الزمان ... وغير ذلك من الأدلة.
وقد جاء الشرع باسم (الأول)، وهو أحسن من (القديم) فهو يشعر بأن ما بعده راجع إليه وتابع له بخلاف القديم. قال الله ﵎: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ٢.
والله تعالى وحده له الأسماء الحسنى، ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ٣.
وفي الحديث عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" ٤ ولفظ القديم ليس من أسماء الله تعالى الثابتة في الكتاب والسنة٥.
وقد لجأ المعتزلة إلى هذا القول فرارا من التشبيه، الذي يرونه لازما لإثبات صفات الله تعالى كما يزعمون، فيرون أن من أثبت صفات الله تعالى على الحقيقة فقد شبه الله بخلقه، وهذا شرك، فهم قد فروا من أمر
_________
١ الآية ١١ من سورة الأحقاف.
٢ الآية ٣ من سورة الحديد.
٣ الآية ١٨٠ من سورة الأعراف.
٤ صحيح البخاري مع الفتح ١١/٢١٤، وصحيح مسلم مع شرح النووي ٤/٢٠٦.
٥ انظر كتاب شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص ١١٢-١١٣.
1 / 24
ووقعوا في أعظم منه وهو التعطيل، إذ عطلوا صفات الله سبحانه التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله ﷺ وجعلوا ذلك غاية التوحيد عندهم.
ولا شك أن من شبه الله بخلقه فقد أشرك، ولكن ذلك ليس لازما من إثبات صفات الله تعالى، فله سبحانه صفاته التي تليق بجلاله وعظمته ووحدانيته، والمخلوق له صفاته التي تناسبه، ولا يلزم من توافقها في الاسم توفقها في الحقيقة، بل إن المخلوقات نفسها قد تتوافق في الأسماء مع تباين الحقائق واختلافها كما هو معلوم.
والواقع أن المعتزلة أنفسهم بقولهم هذا قد وقعوا في التشبيه أيضا، بل في أقبحه، فهم حين أثبتوا لله تعالى ذاتا مجردة من الصفات، وهذا لا يتصور إلا في الأذهان ولا حقيقة له في الخارج، فهم بفعلهم هذا قد شبهوا الله تعالى بالمعدومات، مما قد يؤدي بهم إلى نفي وجود الله ﷾ عن ذلك علوا كبيرا.
الجهمية:
الجهمية هم أتباع الجهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم، أول من قال بتعطيل الصفات، وأخذها عنه الجهم، وأظهرها فنسبت إليه، وقيل إن الجعد بن درهم أخذ عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وهو اليهودي الذي سحر النبي ﷺ، فهي ترجع في أصلها إلى اليهود.
ولما أظهر الجعد بن درهم مقالته في نفي الصفات في زمن هشام بن عبد الملك، وكان الجعد في مدينة واسط، وعامل هشام عليها خالد
1 / 25
ابن عبد الله القسري، فقتله في يوم الأضحى كما ورد عنه أنه قال للناس يوم الأضحى: "ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله علوا كبيرا عما يقول ابن درهم"،ونزل وذبحه١.
ويتبين مما ذكر أن أساس مذهب الجهمية بما فيه من كفر وإلحاد قد نبع أصله من اليهود أعداء الله تعالى وأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام كما نبع الرفض منهم على يدي عبد الله بن سبأ اليهودي.
وخلاصة قول الجهمية في التوحيد: إنكار أسماء الله ﷿ وصفاته، وتعطيلها، فيقولون: لا يجوز أن يوصف الله بصفة يوصف بها خلقه، لأن ذلك تشبيه لله بخلقه٢، فهم في نفي الصفات متفقون مع المعتزلة، وقد تقدم الكلام عن معنى التوحيد عندهم، وهم تلامذة الجهمية، وكل هذا ناتج عن كيدهم للإسلام وبعدهم عن كتاب الله ﷾ وسنة رسوله ﷺ، وجهلهم بهما واعتمادهم على ما تمليه عقولهم، فمعرفة الإنسان للحق والهدى بقدر قربه وفهمه لكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وسلامته من الأغراض والمقاصد الخبيثة.
فهؤلاء وأمثالهم ظنوا أن كل صفة يمكن أن يوصف الله بها المخلوق لا
_________
١ انظر: كتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري ص ٧، وكتاب لوامع الأنوار البهية لمحمد بن أحمد السفاريني ١/١٦٤.
٢ انظر: الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد ص ٢٠، والفرق بين الفرق للبغدادي ص ٢١١، والملل والنحل للشهرستاني ١/٨٦.
1 / 26
يجوز أن يوصف الله بها، لزعمهم أن ذلك يستلزم تشبيه الله بخلقه، وهذا لازم فرضوه على أنفسهم من عند أنفسهم نتيجة ما تمليه عليهم عقولهم البعيدة عن الكتاب والسنة، والمعلوم عند أهل الحق أن لكل شيء صفة تناسبه، حتى بين المخلوقات نفسها.
والجهمية شر الطوائف المبتدعة، وقد مكث زعيمها جهم أربعين يوما لا يعرف ربه، قال الإمام أحمد ﵀: "فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان، من أهل ترمذ، وقد كان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى، فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية١، فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قالوا: فشممت رائحته؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يوما.
ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يُحدث أمرا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء، وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار، فاستدرك
_________
١ السُّمَنية: بضم السين وفتح الميم: فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ، وتنكر وقوع العلم. ابن منظور – لسان العرب ١٣/٢٢٠.
1 / 27
الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ فقال: نعم، فقال: هل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فوجدت له حسا أو مجسا؟ قال: لا، قال: فكذلك الله: لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولم يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، ووجد ثلاث آيات من المتشابه، قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ١، ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ﴾ ٢ ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار﴾ ٣ فبنى أصل كلامه على هذه الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله ﷺ وزعم أن من وصف الله بشيء بما وصف به نفسه في كتابه، أو حدث عنه رسوله، كان كافرا، وكان من المشبهة، فأضل بكلامه بشرا كثيرا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة٤، وأصحاب عمروبن عبيد٥
_________
١ الآية ١١ من سورة الشورى.
٢ الآية ٣ من سورة الأنعام.
٣ الآية ١٠٣ من سورة الأنعام.
٤ هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله تعالى، أحد الأئمة الأربعة، ولد سنة ٨٠هـ، وتوفي سنة ١٥٠ هـ، رأى أنس بن مالك ﵁. وكان إماما ورعا عالما عملا متعبدا كبير الشأو.
انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي ١/١٦٧، والأعلام للزركلي ٩/٤.
٥ هو عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء أبو عثمان البصري شيخ المعتزلة في عصره، ولد سنة ٨٠هـ، وتوفي سنة ١٤٤هـ.
انظر: كتاب الأعلام للزركلي ٥/٢٥٢.
1 / 28
بالبصرة، ووضع دين الجههمية"١.
فغاية توحيد الجهمية وأمثالهم من المعطلة نفي صفات الله تعالى بدعوى تنزيهه عن مشابهة الخلق، فيعطلونه سبحانه من صفات الكمال الثابتة له ﷿ بهذه الدعوى الباطلة، ويقعون في شر مما فروا منه، وهو تشبيه الله تعالى بالمعدومات، وهذا من أجهل الجهل وأضل الضلال، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
قال الإمام ابن قيم الجوزية ﵀: "وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل درجة، فإن مضمونه إنكار حياة الرب وعلمه وقدرته وسمعه وبصره، وكلامه واستوائه على عرشه، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانا من فوقهم يوم القيامة، وإنكار ما أخبر به الرسول عنه، ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرسول بما أخبر به عن الله، فاستعار له أصحابه اسم التوحيد"٢.
ولخطورة هذه الفرقة الضالة المضلة، التي هي أول من أظهر التعطيل الذي هو أعظم من شرك عباد الأصنام والأوثان والكواكب، فقد تصدى
_________
١ الإمام أحمد بن حنبل – الرد على الزنادقة والجهمية ص ١٩، ٢٠.
وانظر: فتح الباري ١٣/٣٤٥، وكتاب الرد على الجهمية لأبي سعيد الدارمي ص ١٠٦-١٠٧، وكتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري ص ٧-٨.
٢ ابن قيم الجوزية – مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص ١٨٣.
1 / 29