Osoul Al-Nahw 2 - Al-Madinah University
أصول النحو ٢ - جامعة المدينة
Daabacaha
جامعة المدينة العالمية
Noocyada
-[أصول النحو ٢]-
كود المادة: GARB٥٣٦٣
المرحلة: ماجستير
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Bog aan la aqoon
الدرس: ١ نشأة العلة النحوية وذكر بعض الأمثلة لها
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(نشأة العلة النحوية وذكر بعض الأمثلة لها)
مفهوم العلة النحوية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
يدور معنى التعليل في اللغة العربية حول فعل الشيء مرة بعد أخرى، كما جاء في مادة عَلَل في (الصحاح) و(لسان العرب) وغيرهما من المعاجم اللغوية، فالعلل هو الشرب الثاني بعد النهل، وهو الشرب الأول، يقال: عَلَل بعد نَهَل، وعله أي: سقاه السقية الثانية، والعلة المرض وحدث يشغل صاحبه عن وجهه، كأن تلك العلة صارت شغلًا ثانيًا منعه عن شغله الأول.
والعلة في اصطلاح النحويين: هي الوصف الذي يكون مظنة وجه الحكمة في اتخاذ الحكم، أو بعبارة أوضح: هي الأمر الذي يزعم النحويون أن العرب لاحظته حين اختارت في كلامها وجهًا معينًا من التعبير والصياغة. والعلاقة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي واضحة جلية، فالعلة النحوية تشغل النحوي في محاولته الوصول إليها عن كل ما عداها، وتتطلب منه كدَّ الفكر وإعمال النظر مرة بعد أخرى؛ حتى يطمئن إلى سلامتها وصحة الوثوق بها.
ورحم الله شيخ العربية الخليل الذي سُئل عن العلل التي يعتلُّ بها في النحو فقيل له -فيما يرويه الزجاجي في كتابه (الإيضاح في علل النحو) فقيل له-: "عن العرب أخذتها، أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: إن العرب نطقت على سجيتها وطبيعتها، وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها علله، وإن لم يُنقل ذلك عنها، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه، فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمسته، وإن تكن هناك علة له؛ فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارًا محكمة البناء، عجيبة النظم والأقسام، وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق، أو بالبراهين الواضحة، والحجج اللائحة.
1 / 9
فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: إنما فُعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا، سنحت له، وخطرت بباله محتملة لذلك، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار. وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعلول فليأتِ بها. قال الزجاجي: وهذا كلام مستقيم، وإنصاف من الخليل -رحمة الله عليه"، انتهى.
نشأة العلة النحوية في القرنين الأول والثاني
إن الحديث عن نشأة العلة النحوية يعني: الحديث عن نشأة قواعد اللغة العربية، فقد أجمع الرواة والمؤرخون على أن العلة النحوية رافقت نشأة النحو، ووُلدت مع ولادته. ومن ثَمَّ رأيناهم لا يفصلون بينهما، ويعدونهما منطلقًا واحدًا، وإن أكبر شاهد على هذا كتاب سيبويه، وهو أول كتاب في النحو وصل إلينا، فجميع ما أُلِّف قبله في هذا الفن لم يلق رعاية، ولم يصادف اهتمامًا فضاع واندثر قبل أن يصل إلينا منه شيء.
وقد شغل ذلك الكتاب العلماء قديمًا وحديثًا، فأقبلوا عليه مفتونين به يوضحون غرائبه، ويحلون مشكلاته، ويدرسون مسائله، ويشرحون شواهده، ويضعونه موضع التقدير والإجلال؛ حتى كان المبرد يقول لمن أراد أن يقرأه عليه: "هل ركبت البحر؟ "، تعظيمًا له وتقديرًا لما حواه بين دفتيه من جمع ما تفرق من أقوال المتقدمين من علماء القرن الثاني الهجري، الذين اعتمدوا في بناء آرائهم على مشافهة العرب الخلص في البوادي، كأبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة تسع وستين
1 / 10
من الهجرة، والذي ينسب إليه وضع بعض الأبواب الأساسية في علم النحو، والتكلم في مسائل التعليل والقياس، ويقول عنه محمد بن سلام الجمحي في (طبقات فحول الشعراء) في الصفحة الثانية عشرة: "كان أول من أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي، وإنما قال ذلك حين اضطرب لسان العرب، وغلبت السليقة، وكان سَرَاة الناس يلحنون؛ فوضع باب الفاعل، والمفعول، والمضاف، وحروف الجر، والرفع، والنصب، والجزم". انتهى.
وكالخليل بن أحمد الفراهيدي وهو أشد شيوخ سيبويه صلة به، ومحبة له، وأكثرهم أثرًا فيه، وقال عنه ابن جني في (الخصائص): "فانظر إلى قوة تصور الخليل إلى أن هجم به الظن على اليقين، فهو المعنيُّ بقوله: الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع"، وقال عنه أبو بكر الزبيدي في (طبقات النحويين): "وهو الذي بسط النحو، ومد أطنابه، وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحِجاج فيه؛ حتى بلغ أقصى حدوده، وانتهى إلى أبعد غاياته". انتهى. وقال السيرافي في (أخبار النحويين البصريين) عن الخليل: "كان الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه". انتهى. والذي يعنينا هنا أن نشير إلى أمرين:
أولهما: أن العلة النحوية كانت فطرية في نفس العربي، شأنها في ذلك شأن لغته التي كان يتكلم بها بالسليقة العربية من غير تعمُّل أو تكلف، ولا أدلَّ على ذلك من أن أعرابيا كان إذا سُئل عن العلة أجاب، يقول ابن جني: "وأما ما روي لنا فكثير، منه ما حكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلًا من اليمن يقول: فلان لغوب أي: أحمق جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له -أي: قال له أبو عمرو: أتقول: جاءته كتابي، قال: نعم أليس بصحيفة".
1 / 11
قال ابن جني معلقًا: "أفتراك تريد من أبي عمرو وطبقته، وقد نظروا، وتدربوا، وقاسوا، وتصرفوا أن يسمعوا أعرابيًّا جافيًا غفلًا يعلل هذا الموضع بهذه العلة، ويحتج لتأنيث المذكر بما ذكره -يعني: بالحمل على المعنى- فلا يهتاجوا هم لمثله، ولا يسلكوا فيه طريقه، فيقولوا: فعلوا كذا لكذا، وصنعوا كذا لكذا، وقد شرع لهم العربي ذلك، ووقفهم على سمته وأَمّه". انتهى. يعني ابن جني أن العلة النحوية قد نشأت فطرية عند العرب الأقحاح، وأن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبه هؤلاء النحويون المتقدمون إليها، وما حملوها عليه؛ نتيجة لمشافهتهم للعرب ووقوفهم على طبائعهم وأوضاعهم.
والأمر الآخر الذي نشير إليه ونؤكد عليه: ما سبق أن ذكرناه من أن التعليل النحوي قد نشأ مرافقًا ومصاحبًا لنشأة قواعد العربية، كما أجمع عليه صفوة العلماء الأجلاء. وبناء على ذلك نرى أن بواكير التعليل قد نشأت مع وضع الأسس الأساسية للنحو العربي، أعني: مِن أول وضع الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- هذه الأسس قُبيل مقتله -رحمه الله تعالى- في السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، أو من أول وضع أبي الأسود الدؤلي لبعض الأبواب النحوية، بإشارة من الإمام علي ﵁، وكرم الله وجهه.
وعلى أية حال فلسنا هنا في معرض الحديث عن وضع علم النحو، أو عمن وضع علم النحو، لكنا نرى أن التعليل النحوي نشأ قرين وضع القواعد النحوية، أو قرين الاهتمام بالإعراب ومحاربة اللحن، ولكنه كان -كما قيل- كأي علم آخر يبدأ عفويًّا فطريًّا مختلطًا بغيره إلى أن تثبت جذوره في الأرض، ويستقل عن غيره، ويصبح علمًا قائمًا بذاته، وإلا كيف كان أبو الأسود أول من ضبط المصحف ووضع العربية، كما قال ابن حجر في (الإصابة)، وعلى أي
1 / 12
أساس كان هذا الضبط، اللهم إلا إذا كان على الوقوف على مواضع الكلمات، ومواقعها، ووظائفها، ومفاهيمها على قدر ما تيسر له. وكيف أرشد أبو الأسود ابنته إلى أنها إذا أرادت التعجب من حسن السماء أن تقول: ما أحسن السماءَ، وتفتح فاها، وكيف كان كما قيل قد وضع أبواب العطف، والنعت، والتعجب، والاستفهام وغيرها.
إن ذلك كله وهو قليل من كثير يشهد بوجود العلة النحوية مع هذه القواعد، غير أنها كانت كامنة مستترة في العقول، وإنما تظهر في وقت الحاجة إليها، أو السؤال عنها، كما علمنا مما حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء وأعرابي اليمن، ويمضي الزمن وتمضي معه مدرسة أبي الأسود الدؤلي، ومعه تلاميذه العظام من أمثال: نصر بن عاصم الليثي، وعنبسة الفيل المهري، وعبد الرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر العدواني من غير أن يحفظ لنا الزمان شيئًا من تراث هؤلاء الأعلام الأكابر، إلا بعض الشواهد الشعرية، أو القراءات القرآنية.
يقول الدكتور شوقي ضيف -رحمه الله تعالى-: "وكل من ذكرنا من تلاميذ أبي الأسود كانوا من قراء الذكر الحكيم، وكان يُؤخذ عنهم النقطان جميعًا، نقط الإعراب، ونقط الإعجام، وكان ذلك عملًا خطيرًا حقًّا، فقد أحاطوا لفظ القرآن الكريم بسياج يمنع اللحن فيه؛ مما جعل بعض القدماء يظن أنهم وضعوا قواعد الإعراب أو أطرافًا منها، وهم إنما رسموا في دقة نقط الإعراب لا قواعده، كما رسموا نقط الحروف المعجمة من مثل: الباء والتاء والثاء والنون". انتهى.
بيد أن أول نحوي نجد عنده طلائع البحث الدقيق في مجال التعليل النحوي هو عبد الله بن إسحاق الحضرمي، المتوفى سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة، فهو
1 / 13
النحوي البصري الذي يُمثل نقطة تحول في تاريخ الدراسات النحوية، وفيه يقول ابن سلام: "كان أول من بعج النحو -أي: فتقه-، وفصل القول فيه، ومد القياس، وشرح العلل". انتهى. وكان يقال: عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم، ففرع النحو وقاسه، وتكلم في الهمز حتى عُمل كتاب مما أملاه، وكان رئيس الناس وواحدهم، وتلا ابن إسحاق أهم تلاميذه وهو عيسى بن عمر الثقفي البصري، المتوفى سنة تسع وأربعين ومائة من الهجرة، وقد مضى على درب أستاذه مولعًا بالقياس والتعليل، لكنه كان إلى جانب هذا مولعًا كذلك بالغريب والتشادق، والتقعر في كلامه، وهو صاحب كتابي (الجامع) و(الإكمال)، وقد نوَّه عن فضلهما الخليل بقوله:
ذهب النحو جميعًا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر
وهما بابان صارا حكمة ... وأراحا من قياس ونظر
وقد اندثرا ولم يصلنا منهما شيء، وذكر صاحب (المدارس النحوية) أن عيسى بن عمر كان مثل ابن أبي إسحاق يطعن على العرب الفصحاء إذا خالفوا القياس، وهو الذي مكَّن للنحو وقواعده التي اعتمد عليها تلميذه الخليل، ومن تلاه من البصريين؛ سواء في محاضراته وإملاءاته، أو في مصنفاته، وقد توفي تاركًا للخليل جهوده النحوية؛ كي يتم صرح النحو، ويكمل تشييده.
وننتقل من عيسى بن عمر إلى تلميذه الخليل بن أحمد، الذي وصف الدكتور مازن المبارك صاحب (النحو العربي)، وصف عصره بأنه ذروة البناء النحوي بما اتصف به من شمول وإحاطة وبراعة في استعمال القياس، وكان أعظم النحويين حظًّا، وأبعدهم أثرًا بما ترك من أثر رائع في كتاب سيبويه، وقد عزا الزبيدي عدم
1 / 14
تأليفه في النحو إلى الترفع بنفسه وبقدره، بعد أن سُبق إلى التأليف فيه، فكره أن يكون لمن تقدمه تاليًا، وعلى نظر من سبقه محتذيًا، واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره، ونتائج فكره، ولطائف حكمته؛ فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، وألف فيه (الكتاب) الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده.
أما واسطة العقد ودُرة تاج العربية وإمام النحو والنحاة، فهو عمرو بن عثمان بن قنبر بفتح القاف أو قُنبر بضمها وسكون النون مع فتح الباء، وضبطه الزبيدي في (تاج العروس) مادة قنبر بضم ففتح فسكون، وكنيته أبو بِشر، وأبو الحسن، وأبو عثمان، ولقبه سيبويه، وهي كلمة فارسية تتكون من سيب بمعنى التفاح، وويه بمعنى الرائحة، فمعنى التركيب كما قيل: رائحة التفاح. ويعللون هذا التلقيب بأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحتان، وكان غاية في الجمال، وقيل؛ لأن من يلقاه كان لا يزال يشم منه رائحة التفاح.
وقد وصل كتاب سيبويه إلى درجة من النضج لم يصل إليها كتاب في النحو قبله، ولن يبلغها كتاب بعده، حتى قال أبو عثمان المازني: "من أراد أن يعمل كتابًا كبيرًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحيِ مما أقدم عليه"، ولم يكتف سيبويه في (الكتاب) بجمع آراء الخليل وغيره من النحاة الأولين الذين شافهوا العرب الخلص فحسب، بل كان يناقش هذه الآراء بثاقب فكره وصائب رأيه، وقوة حجته، وغزارة مادته التي جمع الكثير منها عن طريق مشافهته العرب في البوادي، وقد حفل كتاب سيبويه بالمسموع من العرب، كما تكثر التعليلات فيه كثرة لافتة للنظر، فلا يكاد يترك حكمًا من غير تعليل، وهو لا يعلل فقط لما كثر في ألسنتهم، واستنبطت على أساسه القواعد؛ بل يعلل أيضًا لما يخرج على تلك
1 / 15
القواعد، كما قال (صاحب المدارس النحوية)، وكأنما لا يوجد أسلوب، ولا توجد قاعدة دون علة.
ونختم هذا العنصر بالحديث عن علم كبير من أعلام المدرسة الكوفية عاش في القرن الثاني الهجري، وكان له اهتمام بالغ بالتعليل النحوي باعتباره أهم أركان القياس، وهو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي، المولود بالكوفة في سنة تسع عشرة ومائة من الهجرة، وتوفي سنة تسع وثمانين ومائة من الهجرة، وقد قالوا عنه: إنه يُعدُّ إمام مدرسة الكوفة، فهو الذي وضع رسومها، ووطأ منهجها، وهو أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم وإليه يرجعون.
يقول عنه الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (مدرسة الكوفة): "وكان من تأثير العقل البصري فيه أن نزع منزع القياسيين في اعتماده واعتداده على القياس، ومغالاته فيه، حتى نسب إليه أنه قال:
إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع
وكان من تأثير العقل الكوفي فيه أن احتذى خطوات الفراء في العناية بالروايات اللغوية المنقولة بسند صحيح، والقياس عليها في الوقت الذي كان البصريون يعدونها، أو يعدون كثيرًا منها شواذ؛ لأنها خرجت على أصولهم التي تُعنى -كما يزعمون- بالأغلب، حتى كان القائل البصري يقول: إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن، وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات، فيجعل ذلك أصلًا ويقيس عليه حتى أفسد النحو.
وكان القائل الآخر يقول: قدم علينا الكسائي بالبصرة فلقي عيسى والخليل وغيرهما، وأخذ منهم نحوًا كثيرًا، ثم صار إلى بغداد فلقي أعراب الحطمية، فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن؛ فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله"،
1 / 16
ويعلق الدكتور مهدي المخزومي على ما قال البصريون، مدافعًا عن الكسائي بقوله: "فاعتماد الكسائي على قوم وثق بهم وروايته عنهم، وهو ما لم يستسغه البصريون انعكس في نفوس البصريين في صورة إفساد للنحو، وليس هو إفسادًا له، ولكنه في الواقع خروج على ما ألفه البصريون". انتهى.
ويقول عن قياسه في موضع آخر: "ولكن قياسه يختلف عن قياس البصريين من حيث التطبيق، فبينما نجد البصريين يكونون أصلًا من الأصول بعد استقراء يقتنعون بصحة نتائجه، ويقيسون المسائل الجزئية عليه إذا توافر فيها علة ذلك الأصل؛ إذ نجد الكسائي يكتفي بالشاهد الواحد بسمعه من أعرابي يثق بفصاحته ليقيس عليه، وإن كان هذا الشاهد المسموع مما لا نظير له، أو مما يعدُّه البصريون شاذًّا لا يُعتدُّ به، وربما ضبطه البصريون ربما غمطوه ولحنوه؛ لأن مصادر سماعهم التي رسموها وقيدوا بها الدارسين لم يلتزم بها الكسائي، بل وسع دائرة مصادره حتى ألحق بها أعراب الحطمية، وأعراب سواد بغداد، وهم عند البصريين من غير أهل الفصاحة، وممن لا يجوز الأخذ عنهم. فاعتداد الكسائي وأخذه عنهم يُعد في نظرهم إفسادًا للغة وقواعدها".
ثم يقول: "وهذا الإفساد الذي اتهم البصريون به الكسائي إنما هو لإفساد أصولهم ومقرراتهم، أما كونه يمس النحو، فيحتاج إلى برهان، لا أظنهم استطاعوا أن يأتوا به" انتهى، ويسير الدكتور شوقي ضيف ﵀ على درب الدكتور المخزومي فيذكر مدافعًا عن وجهة نظر الكسائي أنه من المؤكد أن الكسائي تلقن عن الخليل وسيبويه وعيسى بن عمر معرفة العلل والأقيسة، بل كان يؤمن بأن النحو إنما هو ضروب من القياس، وما يطوى فيه من علل وحجج تشده وتقيم أوده، وحقًّا إنه توسع في القياس فلم يقف به عند المستعمل الشائع على الألسنة، ولا عند أعراب البدو؛ بل مده ليشمل ما ينطق به العرب
1 / 17
المتحضرون ممن يمكن أن يكون قد دخل اللحن على ألسنتهم في رأي البصريين، ولعله من أجل ذلك ألَّف كتابه في لحن العوام؛ ليدل على أنه كان يفرق بين لغات العرب وبين هذا اللحن.
وأهم من ذلك أنه مدَّ النحو ليشمل الشاذ النادر من تلك اللغات مما لم يكن سيبويه والخليل يحفلان به، ولا يريان له قدرًا، ثم قال: "وأكبر الظن أن الذي دفع الكسائي إلى هذا الموقف من نحوهما، وأن يفسح في العربية للغات الشاذة النادرة أنه كان من القراء للذكر الحكيم، وكانت تجري في قراءته حروف تشذُّ على قواعد النحو البصري؛ فخشي أن يُظن بهذه الحروف أنها غير جائزة، وأنها لا تجري على العربية السليمة، وربما خشي اندثارها، وهي جميعًا مروية عن الرسول ﷺ غير أن منها ما هو متواتر، وهو القراءات السبع، ومنها ما هو غير متواتر وهو ما وراءها من قراءات، وجميعها صحيح، وينبغي أن نتوسع في قواعد النحو والصرف حتى تشمله" انتهى.
بعض أمثلة العلة النحوية عند المتقدمين من علماء القرن الثاني الهجري في ضوء ما ورد في كتاب سيبويه
قد علمت أن كتاب سيبويه أقدم مصدر نحوي وصل إلينا، وأنه قد حفل بالعلة النحوية، فلا تكاد ترى فيه حكمًا نحويًّا صادرًا عن سيبويه، أو عن أحد شيوخه الذين عُنوا بالقياس والتعليل قد أورده سيبويه غفلًا من ذكر علته، ونستعرض هنا طرفًا من أمثلة العناية بالعلة عند المتقدمين في ضوء ما ورد منها في كتاب سيبويه.
أولًا: من تعليلات شيخ سيبويه الأخفش الأكبر، وهو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد مولى قيس بن ثعلبة من أهل هجر، وأول الأخافشة الثلاثة
1 / 18
المشهورين، أخذ من أبي عمرو بن العلاء وطبقته، ولقي الأعراب فأخذ عنهم، وتوفي بالسنة السابعة والسبعين بعد المائة من الهجرة، ومن تعليلاته ما ذكره سيبويه في (الكتاب) في باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء، قال: "زعم أبو الخطاب أن سبحان الله كقولك: براءة الله من السوء، كأنه يقول: أبرئ براءة الله من السوء، وزعم أن مثله قول الشاعر وهو الأعشى:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان مِن علقمة الفاخر
أي: براءة منه، وأما ترك التنوين في سبحان، فإنما تُرك صرفه لأنه صار عندهم معرفة، وانتصابه كانتصاب الحمد لله. وزعم أبو الخطاب أن مثله قولك للرجل: سلامًا، تريد تسلمًا منك، كما قلت: براءة منك، تريد لا ألتبس بشيء من أمرك، وزعم أن أبا ربيعة كان يقول: إذا لقيت فلانًا فقل له: سلامًا، فزعم أنه سأله ففسره له بمعنى براءة منك، وزعم أن هذه الآية ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان: ٦٣) بمنزلة ذلك؛ لأن الآية فيما زعم مكية، ولم يؤمر المسلمون يومئذٍ أن يسلموا على المشركين، ولكنه على قولك: براءة منكم وتسلمًا، لا خير بيننا وبينكم ولا شر، وزعم أن قول الشاعر وهو أمية بن أبي الصلت:
سلامك ربنا في كل فجر ... بريئًا ما تغنثك الذموم
على قوله: براءتك ربنا من كل سوء، فكل هذا ينتصب انتصاب حمدًا وشكرًا، إلا أن هذا ينصرف وذاك لا ينصرف" انتهى.
هذا النص يعلل فيه الأخفش الأكبر نصب "سبحان الله"، فيذكر أنه كقولك: براءة الله من السوء؛ أي: أبرئ براءة الله من السوء، أي: أنه منصوب على
1 / 19
المصدرية بفعل محذوف وجوبًا لا يُستعمل، وهو "سَبَحَ" الثلاثي كأنه قال: سَبَحَ سبحانًا، كما يقال: كَفَرَ كفرانًا، وشكر شكرانًا، ومعناه: التبرئة والبراءة من كل ما لا يليق أن يوصف به، فهو واقع موقع التسبيح الذي هو المصدر الحقيقي للفعل سبح، ولزومه للنصب من أجل أنه لا يتمكن في موضع المصادر؛ إذ لا يأتي إلا مصدرًا منصوبًا مضافًا وغير مضاف، وهو غير مصروف؛ لجعله علمًا للتسبيح، وجريه مجرى عثمان ونحوه من الأعلام المختومة بالألف والنون الزائدتين.
وذكر أبو الخطاب أن سبب منعه من الصرف العلمية وزيادة الألف والنون، وذكر أن من مجيئه غير مضاف وغير مصروف قول الأعشى:
... ... ... ... ... سبحان مِن علقمة الفاخر
ومعناه براءة من علقمة، يقول هذا لعلقمة بن علاثة الجعفري في منافرته لعامر بن الطفيل، وكان الأعشى قد فضل عامرًا، وتبرأ من علقمة وفخره أي: لما سمعت أن علقمة يُفاخر عامرًا تبرأت من قبح فعل علقمة وأنكرته، وواصل الأخفش الأكبر حديثه لسيبويه، فذكر أن مثل ذلك أي: من مجيء الاسم منصوبًا على المصدرية بفعل غير مستعمل قولك للرجل: سلامًا تريد تسلمًا منك أي: براءة منك، وعلى ذلك جاءت الآية الكريمة في سورة الفرقان ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ أي: براءة منكم، وقول أمية بن أبي الصلت: سلامك ربنا ... إلى آخر البيت. الشاهد فيه قوله: سلامك، ونصبه على المصدر الموضوع بدلًا من اللفظ بالفعل، ومعناه البراءة والتنزيه، وهو بمنزلة سبحانك في المعنى وقلة التمكن في مواضع المصادر، وبريئًا في البيت منصوب على الحال المؤكدة، والتقدير: أبرئك بريئًا؛
1 / 20
لأن معنى سلامك كمعنى أبرئك، ومعنى تغنثك تعلق بك، والأصل تتغنثك؛ فحذفت إحدى التاءين والذموم جمع الذم.
ثانيًا: من تعليلات شيخ سيبويه عيسى بن عمر الثقفي المتوفى سنة تسع وأربعين ومائة من الهجرة، قال سيبويه في (الكتاب) في باب ما ينتصب فيه الصفة لأنه حال وقع فيه الألف واللام: "وكان عيسى يقول: ادخلوا الأولُ فالأول، لأن معناه ليدخل، فحمله على المعنى، وليس بأبعد من: لِيُبك يزيد ضارع لخصومة" انتهى.
وتفصيل هذا الأمر أن الأصل في الحال أن تكون نكرة لا معرفة، وذلك على سبيل اللزوم؛ لأن الغالب أن تكون مشتقة، وأن يكون صاحبها معرفة، فالتزم تنكيرها؛ لئلا يتوهم كونها نعتًا إذا كان صاحبها منصوبًا، وحمل غيره عليه، فإن وردت بلفظ المعرفة أُوِّلت بنكرة؛ محافظة على ما استقر لها من لزوم التنكير، ومما سمع من ذلك قول العرب: ادخلوا الأول فالأول. فاللفظ الأول الواقع بعد واو الجماعة منصوب على الحالية من الواو، والثاني معطوف عليه بالفاء، وهما بلفظ المعرف بأل، فيؤولان بنكرة أي: مرتبين واحدًا فواحدًا.
بيد أن سيبويه حكى أن عيسى بن عمر كان يقول: "ادخلوا الأول فالأول"، معللًا ذلك بقوله: "لأن معناه ليدخل"، أي: بإضمار فعل بالحمل على المعنى أي: بقرينة المعنى. وبيان ذلك أن فعل الأمر لا يسند إلى الاسم الظاهر، وعيسى بن عمر ليس ممن يغتفرون في التابع ما لا يُغتفر في المتبوع، فلا يصح عنده أن يكون الرفع على البدلية من واو الجماعة؛ لأن البدل على نية إحلاله محل المبدل منه، ولا يصح هنا هذا الإحلال؛ إذ لا يقال: ادخل الأول فالأول بالرفع على الفاعلية بخلاف نحو: دخلوا الأول فالأول، فإن رفع ما بعد واو الجماعة على
1 / 21
البدلية من واو الجماعة، واللفظ الثاني معطوف عليه، وصح جعل الأول بدلًا وحمله على الفعل؛ لصحة إحلاله محل المبدل منه، إذ يجوز أن يقال: دخل الأول فالأول.
ويجوز أن يكون الرفع على البدلية عند من يغتفر في التابع ما لا يُغتفر في المتبوع كأبي سعيد السيرافي الذي خرج الرفع على البدلية من واو الجماعة، وقال في شرحه على كتاب سيبويه معلقًا على حمل الرفع على المعنى: "ولم يجز ذلك سيبويه، لأن لفظ الأمر للمواجَه -يعني: للمخاطب- لا يجوز أن يُعرى من ضمير، وإذا أبدل الظاهر منه فكأنه لا ضمير فيه، ألا ترى أنه لا يجوز: ادخلا الزيدان، ولا ادخلوا غلمان زيد، فتبدل من ضمير الاثنين والجماعة المخاطبين لأنا لا نقول: ادخل غلمان زيد، فإذا أبدلنا؛ فقد أبطلت الواو، ولم يفسر سيبويه علته، بل جوزه على وجه من وجوه ما يُحمل على المعنى".
هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 / 22
الدرس: ٢ أمثلة العلة النحوية للخليل وسيبويه
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(أمثلة العلة النحوية للخليل وسيبويه)
بعض أمثلة التعليل النحوي للخليل بن أحمد، وسيبويه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
المثال الأول: قال سيبويه في (الكتاب) في باب الأفعال التي تستعمل وتلغى: "وسألته عن أيهم، لم لم يقولوا: أيهم مررت به؟ فقال: لأن أيهم هو حرف الاستفهام لا تدخل عليه الألف، وإنما تركت الألف استغناء، فصارت بمنزلة الابتداء، ألا ترى أن حدَّ الكلام أن تؤخِّر الفعل فتقول: أيهم رأيت، كما تفعل ذلك بالألف، فهي نفسها بمنزلة الابتداء" انتهى. ذكر السيرافي أن قول سيبويه في (الكتاب): "وسألته" إنما يعني به الخليل، وكذلك كل ما ورد في (الكتاب) مثله إذا لم يتقدم ذكر عالم غيره، فسيبويه يسأل شيخه الخليل لِمَ لم يجز نصب اسم الاستفهام أيٍّ بفعل مضمر يُفسره الفعل المذكور، كما اختير في قولك: أزيدًا ضربته. فأجابه الخليل بأن هناك فرقًا بين التعبيرين، فنحن إذا قلنا: أزيدًا ضربته، فأداة الاستفهام -وهي الهمزة- منفصلة من زيد بمعنى: أنها كلمة مستقلة عنه قائمة بنفسها، وهي بالفعل أولى؛ إذ الغالب دخولها على الأفعال، فأضمرنا بينها وبين زيد فعلًا ينصبه.
أما أي في المثال فهي اسم متضمن معنى همزة الاستفهام، مثل من وما، وسائر أسماء الاستفهام، فلا تدخل عليها همزة الاستفهام التي يغلب دخولها على الأفعال؛ لأن الاستفهام لا يدخل على الاستفهام، ولتضمنها معنى الاستفهام صار لها الصدارة كالهمزة، فلا يعمل فيها متقدم عليها، وصار حد الكلام أن تؤخر الفعل عنها فتقول مثلًا: أيهم رأيت، فالمثال الذي فيه أي هنا بمنزلة قولنا: زيد ضربته في اختيار رفع الاسم المتقدم، وما أجاز نحو: زيدًا ضربته، بنصب زيد بمرجوحية، بتقدير: ضربت زيدًا ضربته، يجيز أن يقال: أيَهم مررت به،
1 / 25
بنصب أي بمرجوحية أيضًا، مقدرًا فعلًا ناصبًا من معنى الفعل المذكور لا من لفظه، فالتقدير عنده: أيهم جزت مررت به أو أيهم لاقيت مررت به. وهكذا يسأل سيبويه شيخه الخليل عن الحكم فيجيبه عنه مشفوعًا بعلته.
والمثال الثاني: قال سيبويه في (الكتاب): "وزعم الخليل ﵀ أن الألف واللام إنما منعهما أن يدخلا في النداء، من قبل أن كل اسم في النداء مرفوع معرفة، وذلك أنه إذا قال: يا رجل، ويا فاسق فمعناه كمعنى يا أيها الفاسق ويا أيها الرجل، وصار معرفة، لأنك أشرت إليه وقصدت قصده، واكتفيت بهذا عن الألف واللام، وصارت كالأسماء التي هي للإشارة نحو: هذا وما أشبه ذلك، وصار معرفة بغير ألف ولام؛ لأنك إنما قصدت قصد شيء بعينه، وصار هذا بدلًا في النداء من الألف واللام، واستغني به عنهما، كما استغنيت بقولك: اضرب عن لتضرب، وكما صار المجرور بدلًا من التنوين، وكما صارت الكاف في رأيتك بدلًا من رأيت إياك" انتهى.
يذكر سيبويه في هذه الفقرة نقلًا عن الخليل ﵀ علة منع النداء ما فيه "ال" في الاختيار من غير ما استثني، ومجمل هذه العلة أن النداء يُفيد التعريف، وال تفيد التعريف، ولا يُجمع بين معرِّفين على معرَّف واحد، فلا يدخل حرف تعريف على حرف تعريف، كما لا يدخل فعل على فعل؛ لأنه لا يقتضيه، وإنما يدخل الفعل والحرف على مقتضاهما، قيل: ولهذا لا يجوز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية في الاسم المنادى العلم نحو: يا زيد، بل يُعرى عن تعريف العلمية تقديرًا، ويعرف بالنداء، فإذا لم يجز الجمع بين تعريفين: أحدهما بعلامة لفظية والآخر بعلامة معنوية، فمن طريق الأَولى ألا يجوز الجمع بين تعريفين كلاهما بعلامة لفظية.
1 / 26
قال السيرافي: "وقوله: واستغنيت بقولك: اضرب عن لتضرب؛ لأن الأصل عنده -أي: عند سيبويه- لتضرب، واضرب داخلة عليها، وإنما صار كذلك؛ لأن الأمر يقتضي النهي، والنهي لا يكون إلا بحرف كقولك: لا تضرب زيدًا، فينبغي أن يكون الأمر بحرف يوجب الإعراب، ويقوي تعريفه -يعني: تعريف النداء- أن يونس زعم أنه سمع من العرب من يقول: يا فاسق الخبيث، ويقوي أنه معرفة أيضًا، ترك التنوين؛ لأنه اسم شُبه بالأصوات، فيكون معرفة إذا لم ينون، وينون إذا كان نكرة، ألا ترى أنهم قالوا: هذا عمرويه وعمرويه آخر"، انتهى.
والمثال الثالث: في باب المنفي المضاف بلام الإضافة قال سيبويه في (الكتاب): "اعلم أن التنوين يقع من المنفي في هذا الموضع إذا قلت: لا غلام لك، كما يقع من المضاف إلى اسم، وذلك إذا قلت: لا مثل زيد، والدليل على ذلك قول العرب: لا أبا لك، ولا غلامي لك، ولا مسلمي لك، وزعم الخليل ﵀ أن النون إنما ذهبت للإضافة، ولذلك ألحقت الألف التي لا تكون إلا في الإضافة، وإنما كان ذلك من قِبل أن العرب قد تقول: لا أباك في معنى لا أبا لك، فعلموا أنهم لو لم يجيئوا باللام؛ لكان التنوين ساقطًا كسقوطه في لا مثل زيد، فلما جاءوا بلام الإضافة تركوا الاسم على حاله قبل أن تجيء اللام؛ إذ كان المعنى واحدًا، وصارت اللام بمنزلة الاسم الذي ثُنِّي به في النداء، ولم يغيروا الأول عن حاله قبل أن تجيء به، وذلك قولك: يا تيم تيم عدي. وبمنزلة الهاء إذا لحقت طلحة في النداء لم يغيروا آخر طلحة عما كان عليه قبل أن تلحقه، وذلك قولهم:
كِليني لهمٍّ يا أميمة ناصب ... .... ..... ....... .......
1 / 27
ومثل هذا الكلام قول الشاعر إذا اضطر النابغة:
.... ..... ....... ....... ... يا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام
حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت: يا بؤس الجهل"، انتهى. وبيان ذلك أنه إذا وقع بعد الاسم المفرد المنفي بلا النافية للجنس، إذا وقع بعده اسم مجرور باللام، فالأصل والقياس أن يكون الاسم مبنيًّا مركبًا مع لا وأن يكون الجار والمجرور بعدهما في موضع النعت للاسم، أو في موضع الخبر كما قال السيرافي فيقال: لا غلام لك، ولا أبا لزيد، ولا أخ لعمرو، إلى آخره، كما قال نهار بن توسعة اليشكري:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
وكما قال الآخر:
هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
غير أن العرب قالوا: لا أبا لك ولا غلامَي لك، ولا مسلمي لك، مخالفين بذلك الأصل والقياس، وقد اختلف النحاة في توجيه هذه الأساليب الخالية عن القياس على ثلاثة مذاهب، والذي يعنينا من هذه المذاهب هنا مذهب الخليل وسيبويه والجمهور، وهو أن اسم "لا" في العبارات المذكورة ونحوها مضاف إلى المجرور باللام، فهو معرب منصوب، أما اللام الواقعة بين المتضايفين فهي زائدة مقحمة بين المضاف والمضاف إليه لأمرين؛ الأمر الأول: لتأكيد الإضافة، إذ الإضافة في هذه العبارات ونحوها على معنى اللام، فاللام الظاهرة تأكيد للام المقدرة التي الإضافة بمعناها، كتيم الثاني في قولهم: يا تيم تيم عدي. والأمر الثاني: للفصل بين المتضايفين لفظًا حتى يصير المضاف كأنه ليس بمضاف، فلا يستنكر لفظه، وهم قد قصدوا نصب هذا المضاف المعرف بلا من غير تكرير لا تخفيفًا، وحق
1 / 28
المعارف المنفية بلا الرفع مع تكرير لا. والدليل على قصدهم هذا الغرض أنهم لا يعاملون المنفي المضاف إلى النكرة هذه المعاملة، فلا يقولون مثلًا: لا أبا لرجل حاله كذا، ولا غلامي لشخص نعته كذا.
ونلحظ من النص السابق أن الخليل وسيبويه -رحمهما الله- قد عللا ذهاب النون في المثنى والجمع الذي على حده في الأساليب المذكورة ونحوها، ولحاق الألف في الأسماء الستة فيها بالإضافة، كما عللا كون اللام فيها زائدة مقحمة بأن العرب قد تقول في الشعر للضرورة: لا أباك في معنى لا أبا لك أي كقول مسكين الدارمي:
وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلد
كما أبرزا -أي: الخليل وسيبويه- اسم لا في التراكيب المذكورة في صورة غير المعرف بالإضافة، وذلك بالتنظير بقولك: لا مثل زيد، ومن المعلوم أن إضافة مثل إلى المعرف لا تفيد تعريفه، كما نظرا كذلك لإقحام اللام بين المتضايفين من غير أن تُحدث تغييرًا في إعراب الاسم المنفي المضاف إلى ما بعدها بثلاثة أمور، كلها سُمعت عن العرب في أسلوب النداء، وهي؛ أولًا: قول العرب: يا تيم تيم عدي بفتح الأول، فمذهب سيبويه أنه منادى معرب منصوب؛ لأنه مضاف إلى ما بعد الثاني أي: أنه مضاف إلى عدي، ففتحته فتحة إعراب. أما الثاني: المتوسط بينهما فهو مقحم بينهما بين المتضايفين، وعومل في منع التنوين معاملة الأول.
الأمر الثاني: قول العرب: يا طلحة أقبل. المنادى هنا مفرد معرفة، لكنه -كما ذكر سيبويه والخليل- بتقدير حذف التاء التي كان ينتهي بها هذا الاسم المنادى للترخيم على لغة من ينتظر، فصار المنادى يا طلح بالحاء فقط، بفتح الحاء كما
1 / 29