والصادق من السامعين قد يكون في قلبه محبة الله، مع ما ركز في الطباع من الهوى، فيكون الهوى كامنًا، لظهور سُلطان الإيمان، فتحركه الأغاني مع المحبة الصحيحة، فيقوى الوجد، ويظن السامع أن ذلك كله محبة الله، وليس كذلك، بل هي محبة ممزوجة ممتزجة حقها بباطل (*)، وليس كل ما حرك الكامن في النفوس، يكون مُباحًا في حكم الله ورسوله.
فإن الخمر تحرك الكامن في النفوس، وهي محرمةٌ في حكم الله ورسوله كما قيل:
والرَّاح كالريح إِنَّ هبت عَلَى عطر ... طابت وتخبث إِن مرت عَلَى الجيف
وهذا السماع المحظور يُسكر النفوس، كما يسكر الخمر أو أشد، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالخمر والميسر، فإن فُرض وجُود رجل يسمعه، وهو ممتلئ قلبُه بمحبة الله، لا يؤثر فيه شيءٌ من دواعي الهوى بالكلية، لم يُوجب ذلك له خصوصًا، ولا للناس عمومًا؛ لأنّ أحكام الشريعة تناط بالأعم الأغلب، والنادر ينسحب عليه حكم الغالب، كما لو فُرض رجلٌ تام العقل، بحيث لو شرب الخمر، لم يؤثر فيه ولم يقع فيه فسادٌ فإن ذلك لا يوجب إباحة الخمر له ولا لغيره. عَلَى أن وجود هذا المفروض في الخارج في الصورتين: إما نادرٌ جدًّا أو ممتنعٌ متعذر.
وإنما يظهر هذا السماع، عَلَى هذا الوجه، حيث جرد كثيرٌ من أهل السلوك الكلام في المحبة ولهجوا بها، وأعرضوا عن الخشية. وقد كان السَّلف الصالح يُحذرون منهم، ويفسقون من جرد وأعرض عن الخشية إِلَى الزندقة.
فإن أكثر ما جاءت به الرسُل وذكر في الكتاب والسنة: هو خشية الله وإجلاله وتعظيمه، وتعظيم حرماته وشعائره وطاعته.
_________
(*) بباطلها: "نسخة".
2 / 473