وقد سُئل -أبو علي الرُّوذباري- وهو من أكابر مشايخ الصوفية وأهل العِلْم منهم -عمن يسمع الملاهي ويقول: هي لي حلالٌ؛ لأني وصلت إِلَى درجة لا يُؤثر فيَّ اختلاف الأحوال، فَقَالَ: نعم، قد وصل لعمري، ولكن إِلَى السفر.
وسُئل أيضًا عن السماع فَقَالَ: ليتنا خلصنا منه رأسًا برأس. قال القاضي أبو الطيب الطبري ﵀: قال بعضهم: إنا لا نسمع الغناء بالطبع الَّذِي يشترك فيه الخاص والعام.
قال: والجواب أن هذا تجاهلٌ منه عظيمٌ؛ لأمرين:
أحدهما: أنه يلزمه عَلَى قوله، أن يستبيح سماع العُود، والطنبور وسائر الملاهي، ويسمع ذلك كله بالطبع الَّذِي لا يشاركه فيه أحد، فإن لم يستبح ذلك فقد نقض قوله، من حيث ادعى أن بعض الملاهي يؤثر وبعضها لا يؤثر في هذا الطبع الَّذِي قد اختص به، وإن استباحهُ فقد فسق.
والثاني: أن هذا المدعي لا يخلو أن يدعي أنه فارق طبع البشر، وصار مطبوعًا عَلَى العقل والبصيرة، بمنزلة الملائكة. فإن قال ذلك فقد تخرّص عَلَى طبعه، وكذب عَلَى الله في تركيبه، وادعى بذلك العصمة مع مقارنة الفتنة، ووجب أن لا يكون مجاهدًا لنفسه، ولا مجانبًا لهواه وطبعه، ولا يكون له ثواب عَلَى ترك اللذات والشهوات، وهذا لا يقوله عاقل.
وإن قال: أنا عَلَى طبع البشر المجبول عَلَى محبة الهوى والشهوة. قلنا له: فكيف يصح أن تسمع الغناء المطرب بغير طبعك، أو تطربُ بسماعه بغير ما في جبلتك، إِلَى غير ما غُرز في نفسك؟! وذكر بقية الكلام، وقال في آخره: وبلغني أن هذه الطائفة تُضيف إِلَى السماع النظر في وجه الأمرد، ورُبما زينته بالحُلي والمُصبغات من الثياب، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار، والاستدلال بالصنعة عَلَى الصانع! وهذه النهاية في متابعة الهوى، ومخادعة العقل ومخالفة العِلْم. ثم أطال الكلام في الرد عليهم ثم
2 / 466