Nuur iyo Balanbaalis
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
Noocyada
ففي صيف 1814م، شعر جوته بأن ربيع الشباب يعود إليه، وأن وجدانه يحن للخلق حنين الأرض العطشى للأمطار، والنبع الفائض للفوران. وكانت سنوات الحرب بثقلها وسوادها قد مرت وضجيج السلاح قد سكت. وها هو ذا يفرغ من القسم الثالث من سيرة حياته «شعر وحقيقة»، كما يعيد ترتيب قصائده لطبعة جديدة لأعماله الكاملة توشك على الظهور. وضاقت به الحياة في «فيمار» المحدودة، وسئم الملل اليومي والمهام الرسمية ونظرات الناس المثبتة عليه وكيد الخصوم وحسد الصغار له. وغالبه الشوق القديم إلى السفر. ولمن يشتاق إلا إلى الوطن، إلى مهد الطفولة الذي لم يره منذ سنوات طويلة؟ شد الرحال وركب عربة السفر. وفي الطريق عرج على قرية «بيركا» الصغيرة بجوار فيمار للاستشفاء والاستجمام. ولبث فيها حتى أواخر يوليو. سكون الريف، وموسيقى باخ وموزارت في الأمسيات الهادئة، هل من شيء آخر يسمح للوجدان بأن يعتكف ويرتد إلى نفسه، قبل أن يطلق ويفيض؟ وأقبل لأول مرة على قراءة حافظ. همست أسرار الشعر بداخله، وامتلأ بأحلام الخلق كما يمتلئ كيان الأم بأسرار جنين. واجتذبه الراين: نسيمه ومروجه، خمائله وكرومه، خمره وخبزه، مجموعة الكنوز الفنية من الفن الجرماني القديم عند صديقيه الأخوين سوليس وملكيور بواساريه. ثم الترحال من بلد إلى بلد، حيث يحييه الناس ويكرمون فيه شاعرهم الأكبر، وحافظ رفيق سفره، وديوانه لا يترك مكانه بجانبه. وفجأة تتحرك المعجزة وتثب من الرحم المظلم والنبع الجياش بأغوار الباطن، فيكتب عدة قصائد في طريقه إلى بلدة «أيزيناخ» تصور التناقض بين سكون الطبيعة وضجيج الحرب، وترتد إلى الماضي ثم تستبشر بالمستقبل. فهو في إحداها - وهي قصيدة ظاهرة من كتاب المغني - يخاطب نفسه بقوله: «أبعد عنك الحزن، يا شيخي المرح الطيب، إن كان الشعر كساه الشيب، فقريبا سوف تحب.» وفي اليوم التالي في طريقه إلى مدينة فولدا، يعاوده طوفان الخلق فيصل عدد القصائد إلى تسعة، ويلتقي وهج الشباب ووعي الشيخوخة والحنين إلى اللعب والإحساس الطاغي بالتفوق. «تزدهر الوردة والزنبقة بأنداء الصبح، بينما كيوبيد يشدو فوق الناي على شط الجدول، يهزم رعد الحرب وينفخ مارس في بوقه» (وكلاهما من كتاب المغني).
ويستمر تدفق النبع في الأيام التالية. وعندما يبلغ مدينة فيسبادن في التاسع والعشرين من يوليو يكون قد دون قصيدة «الحياة الكلية»، وبعدها بيومين لؤلؤة أشعار الديوان: «حنين مبارك». وتأتي أيام الصيف والخريف التي أمضاها على ضفاف الراين بما كانت نفسه تتمناه. فهو يشارك في الاحتفال بعيد القديس روخوس في «بنجن»، ويملأ عينيه وقلبه بأفراح الشعب. ويسافر إلى ضيعة أسرة برنتانو في «فنكل» فيستمتع بالريف والخمر والأصدقاء، ويزور سوق الخريف في فرانكفورت فيستسلم لدوامة المهرجان، ويزور هيدلبرج زيارة قصيرة ويتحمس لمجموعة الرسوم الجرمانية والمسيحية القديمة عند صديقه القديم بواساريه. وتتوالى قصائد كتاب الساقي واحدة بعد الأخرى. ويرجع في أكتوبر إلى فرانكفورت فيلتقي بصاحبه القديم رجل المال والأعمال يوهان ياكوب فيليمر وزوجته الثالثة - التي لم تكد تتم الثلاثين ربيعا - «مريانة» الشاعرة الرقيقة التي خلد حبه لها في الديوان فسماها زليخا، وسمى نفسه «حاتم» الذي فتنته كما فتنت امرأة العزيز يوسف الصديق، وفي مساء الثامن عشر من الشهر نفسه، يجتمع معها في بيتهما الريفي «الجربرميلة» وسط خمائل الكروم على شاطئ نهر الماين في ضواحي فرانكفورت، ويشاهدان معا أنوار الاحتفال بذكرى مرور السنة الأولى على معركة ليبزج، ولا بد أن يكون رب الحب قد جمع بينهما في هذه الليلة بقيده الذهبي الساحر، فكم احتفلا به بعد ذلك كل مع نفسه وذكرياته. ولا بد أيضا أن تكون ربة اللحظة الأسطورية المواتية قد أسلمت لهما خصلة من شعرها الذهبي وشفتيها الحلوتين، ولكن اللقاء لم يطل، فلم يلبث أن رجع بعد يومين إلى فيمار.
وازداد عدد القصائد التي يناجي فيها حافظ على غير ما كان يتوقع. وشدد الشرق قبضته الساحرة عليه. وبدأ ينظم قراءاته لأعمال المستشرقين ومذكرات الرحالة إلى بلاد الشرق. فهو يطالع كتاب الأقدمين مثل أولياريوس، أو كتب المحدثين مثل جونزودييز، كما يعكف على المجلدات الستة التي نشرها النمسوي «هامر-بورجشتال» تحت عنوان «كنوز الشرق» ويعاوده الحنين إلى «بريق الغرب وإشراقه» فيستقل العربة في الرابع والعشرين من شهر مايو. وتنبثق نافورة الشعر من جديد، ويواصل الخيط الرقيق الذي كان قد انقطع في الأيام الأخيرة من زيارته السابقة لفرانكفورت فيكتب عددا من القصائد، منها قصيدتاه المشهورتان: «إن زليخا سحرتها فتنة يوسف، لم يك أمرا عجبا، لما كنت تسمين زليخا، فخليق بي أن أحمل اسما.» ثم يستجم عدة أسابيع في مدينة الحماماة «فيزبادن» ويكتمل «كتاب الساقي» ويرتب جميع القصائد - التي كان يحرص على كتابته التاريخ والمكان تحتها، في فهرس لا يزال محفوظا في مكتبته. ويدعو صديقه «بواساريه» ليكون أنيسه وجليسه فيلبي دعوته، ويحيا في جواره من أوائل شهر أغسطس حتى أوائل أكتوبر، ويسجل الصديق أحاديثه وذكرياته الغالية عن هذه الأسابيع القليلة في سطور تفيض بالتواضع والذكاء والحياة. ثم تأتيه الدعوة التي كان يتشوق إليها من فلليمر، فيستجيب لها من فوره ويقضي شهرا في بيته الريفي على ضفاف الماين
17 (وهو البيت الذي اشتهر في تاريخ الأدب كما سبق باسم الجربرميلة أو طاحونة الدباغين) لا تقطعه إلا سفرة أيام قليلة إلى بيت صاحبه في فرانكفورت. لم ينس بطبيعة الحال أن يأخذ معه ديوان رفيق سفره حافظ إلى «الجربرميلة». وكيف ينساه وهو الذي سيكون رسول الغرام بينه وبين «حوريته» الهاربة من الجنة؟ قدمه لها هدية وأقبلت عليه بعاطفة المحب وإحساس الفنان، واكتشفت ببصيرتها سحر العالم الذي أثر عليه، فلم تتوان عن مشاركة وحدته، واهتزت أوتار قلبها على أنغام حافظ وصوره ورموزه - أو بالأحرى على ما يبقى منها في ترجمة هامر الذي لم يرحم شيئا شرقيا من ترجمته! - وراح الحبيبان في هذه الأسابيع القليلة يقلبان في صفحات ديوان حافظ، ويختاران منه القصائد التي توافق حالهما النفسية. ويبدو أنهما اتفقا على هذه القصائد «الرياضية» في رسائلهما التي سيتبادلانها بعد ذلك، بحيث تتألف الرسالة من مجموعة من الأعداد التي تشير إلى رقم الصفحة والبيت المناسب فلا يستطيع «عذول» أن يحل أسرار الشفرة التي لا يعرف مفتاحها!
ولا بد أن تكون «مريانة » الجميلة قد بعثت إليه بعدد كبير من هذه الرسائل السرية التي كان لها فضل اكتشافها، مما جعله يكتب عنها في إحدى فقرات تعليقه على الديوان. فقد بعثت إليه على سبيل المثال برسالة تتألف من هذه الأعداد:
404، 20-19.
201، 24-23.
وحل هذه الشفرة العاطفية هو هذه المقطوعة التي وردت في ترجمة ديوان حافظ، وكان من السهل على الحبيب أن يجدها في لحظات بعد أن عرف رقم الصفحة والأبيات على الترتيب:
من زمن لم يكتب لي صاحبي رسالة،
من زمن لم يبعث لي بتحية،
Bog aan la aqoon