أسفر الربيع عن ظلٍ سجسج، وروضٍ مدبجٍ، فعطر السهول والوعور، وعطل المسك والكافور. تبرجت الأرض للنظارة، وبرزت في معرض الحسن والنضارة. قد حلت يد الأمطار أزرار النوار، وأذاع النسيم أسرار الأزهار. والرياض كالعرائس في حليها وزخارفها، والقيان في وشيها ومطارفها باسطة زرابيها وأنماطها، ناشرة حبرها ورياطها، كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد، روضة قد تضوعت بالأرج الطيب أرجاؤها، وتبرجت في ظلل الغمام شجراؤها، وتفاوحت بنوافح المسك أنوارها، وتعارضت بغرائب النطق أطيارها، أشجارٌ كأنَّ الحور أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلتها عقودها، انظر إلى طرب الأشجار لغناء الأطيار. يوم سماؤه كالخز الأدكن، وأرضه كالديباج الملون، يوم غاب نحسه وهوى، وطلع سعده واعتلى، والزمان ساقطة جماره، مفعمة أنهاره، مونقة أشجاره، مغردة أطياره، ونحن في غب سماء قد أقلعت بعد الارتواء، وأقشعت عند الاستغناء، والنبت خضل ممطور، والنقع ساكن محصور. ريش ريش النسيم، وابتل جناح الهوى، وضربت خيمة الغمام، واغرورقت مقلة السماء، قام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق، كأن البرق قلب مشوق، بين التهاب وخفوقٍ، سحاب حكة المحب في انسكاب دموعه. والتهاب ضلوعه. سحابة يضحك عن بكائها الروض، وتخضر لسوادها الأرض.
وقال أبو العباس النامي يمدح سعد الدولة أبا المعالي شريف بن سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء بن عبد الله بن حمدان:
كأنَّ مرآةَ فهمِ الدَّهر في يدهِ ... يرى بها غائبَ الأشياءِ لم يغبِ
ما يرفعُ الفلكُ السَّامي سماءَ عُلًا ... إلاّ علاها شريفٌ كوكبُ العربِ
يا من بعينِ الرِّضى يلقى مؤملهُ ... والبخلُ يطبقُ أجفانًا على الغضبِ
أغربتَ في كلِّ معنىً طيبٍ حسنٍ ... فليس ذكركَ في أرضٍ بمغتربِ
لو يكتبُ المجدُ أسماءَ الملوكِ إذًا ... أعطاكِ موضع "بسم الله" في الكتبِ
أخذ قوله: " لو يكتب المجد.. البيت" من قول أبي العباس عبد الله بن المعتز بالله (في ناقة):
وناقةٍ في مهمةٍ رمى بها ... همٌّ إذا نامَ الورى سرى بها
فهي أمامَ الركبِ في ذهابها ... كسطر "بسم الله" في كتابها
ومن ظريف ما جاء في ذكر اسم الله، وإن لم يكن في هذا المعنى، قول بعض أهل العصر، وهو أبو سعيد الرستمي:
أفي الحقِّ أن نُعطى ثلاثونَ شاعرًا ... ويحرمَ ما دون الرِّضى شاعرٌ مثلي
كما سامحوا عمرًا بواوٍ زيادةً ... وضويق "بسم الله" في ألفِ الوصل
دخل أبو دلف العجلي على المأمون، فقعد بينه وبين الحسن بن سهل، وكان عليه المأمون مغضبًا، فقال: أنت الذي يقول فيه علي بن جبلة العكوك:
إنَّما الدُّنيا أبو دلف ... بين مبداهُ ومحتضره
فإذا ولَّى أبو دلفٍ ... ولَّت الدُّنيا على أثره
فقال: يا أمير المؤمنين شهادة زورٍ، وقول غرور، وملق معتف سائل، وخديعة طالب نائل، أصدق منه وأعرف بي ابن أخت لي حيث يقول:
ذريني أجوبُ الأرضَ في طلب الغنى ... فما الكرجُ الدُّنيا ولا النَّاس قاسم
وأنا كما قال بكر بن النطاح: شعر
أبا دلفٍ إنَّ الفقير بعينه ... لمن يجتدي جدوى يديك ويأمله
أرى لكَ بابًا مقفلًا متمنعًا ... إذا فتحوه عنك فاللُّؤم داخله
كأنَّك طبلٌ رائعُ الصَّوتِ معجب ... خلاءٌ من الخيرات قفر مداخله
وأعجب شيءٍ فيك تسليم أمره ... إليكَ على جهلٍ وأنَّك قابله
فأسفر له عن وجه الرضا، وقال [له] أخبرني عن عبد الله بن طاهر، فقال: أمين غيب، نصيح حرب، يستعذبه وليك إذا رام جوده، ويشرق به عدوك إذا عجم عوده، يرد معضلات الأمور بأيده، ويعرف مخبأة الصدور بكيده، وإنه في الشجاعة لكما قال العباس بن مرداس السلمي: (شعر)
أشدُّ على الكتيبةِ لا أبالي ... أحتفي كانَ فيها أم سواها
وفي الجود كما قال زهير:
تراه إذا ما جئتهُ متهلِّلًا ... كأنَّك مُعطيهِ الذي أنتَ سائله
فقال بعض الحاضرين: ما أفصحه على جبليته! فقال [الحسن بن سهل]: إن بالجبل قومًا أمجادًا، لهم ألسنة لا يفل غربها، ويراعة لا ينكسر قلبها وإنهم ليوفون السيف حقه يوم النزال، ويعطون اللسان حظه عند المقال، وإن أبا دلف منهم.
1 / 5