غرد الطير فأنبه من نعس ... وأدر كأسك فالعيش خلس
سل سيف الفجر من غمد الدجى ... وتعرى الصبح من غمد الغلس
وانجلى عن حلل فضية ... ما بها من ظلمة الليل دنس
فاسقني من قهوة مسكية ... في رياض عنبريات النفس
وصل كتابك مشحونًا بلطيف برك، موشحًا بغامر فضلك، ناطقًا بصحة عهدك، صادقًا عن خلوص ودك، وفهمته، وشكرت الله جل اسمه على سلامتك، شكر المخصوص بها، العارف بقدرها، واستدمته عافيتك استدامة اللابس لها، المشارك فيها، فأما ما بالغت فيه من الاعتداد بي، وتناهيت فيه من التقريظ لي، فما زدت على أن أعرتني خلالك، ونحلتني خصالك، لأنك بالفضائل أولى، وهي بك أحرى، ولو كنت في نفسي ممن يشتمل على وصفه حدي إذا حددت، أو يحيط بكماله وصفي إذا وصفت، لشرعت في بلوغها والقرب منها، لكن المادح يستنفد وسعه وقد بخسك، ويستغرق طوقه، وقد نقصك، ف~أبلع ما يأتي به المثنى عليك، ويتوصل إليه المطري لك، الوقوف عند منتهاه، والإقرار بالعجز عن غايته ومداه.
وهذا كقول البديع في جواب كتاب إلى عدنان بن محمد رئيس هراة: ورد كتاب الرئيس مولاي، فأتت النعم تترى إلي، ومثلت [لدي و] بين يدي، [و] وجدت سيدي قد أخذ مكارم نفسه، فجعلها قلادة غرسه، وتتبع المحاسن من عنده فكساها لعبده، وما اشبه رائع حليه في نحر وليه، بالغرة اللائحة على الدهمة الكالحة، ولا آخذ الله سيدي بوصف نزعه من غرضه فزرعه في غير أرضه، ونعت أخذه من خلقه وخلقه، فأهداه إلى غير مستحقه، وفضل استفاده من فرعه وأصله، فأوصله إلى غير أهله.
ذكر حديث الشوق إلي، ولو كان الأمر بالزيارة حتمًا، والإذن أطلق جزمًا، لكان آخر نظري في الكتاب، وأول نظري إلى الركاب، ولاستعنت على كلف السير أجنحة الطير، لكنه أدام الله عزه صرفني بين يد سريعة الأخذ، ورجل وشيكة النبذ، واراني زاهدًا في ابتغاء، كحسو في ارتغاء، ونزاعًا في نزوع، كذهاب في رجوع، ورغبة في، كرغبة عني، وكلامًا في الغلاف، كالضرب تحت اللحاف، فلم أصرح بالإجابة وقد عرض بالدعاء، ولم أعلن بالزيارة وقد أسر بالنداء، ولو جاهرني بفم المناجاة، ولم يدعني بلسان المحاجاة، لكنت أسرع من الكرم إلى طرفيه، وفكرت في مراده، فوجدت الكرم يشب ناره، والفضل يدرك ثأره، وإذا كان الأمر كذلك فما أولاه، بترفيه مولاه، عن زفرة صاعدة، بسفرة قاعدة.
أخذ هذا القول من قول ابن الرومي لابن ثوابة، وقد ندبه إلى السفر إليه ليصله:
أما حق حامي عرض مثلك أن يرى ... له الرفد والترفيه أوجب واجب
أقمت لكي تزداد نعماك نعمة ... وتغنى بوجه ناضر غير شاحب
وليس عجيبًا أن ينوب تكرم ... غذيت به عن آمل لك غائب
ذمامي يرعى لا ذمام سفينة ... وحقي لا حق القلاص النجائب
فصل لأبي بكر الخوارزمي
أنا مشتاق مولاي شوقًا، لو قسم على قلوب العالمين لملأها صبوة، ولم يدع فيها سلوة، وما أشكر نفسي على أن تشتاق إلى من لا ترى له عديلا، ولا تجد إلى السلو عنه بديلا، وإن طرفي بطرفه معقود، وإن باب نسيانه وتناسيه علي مسدود، وإني إذا صدرت كتابي إليه بالسلامة، مع أن قلبي غير سليم من اللم، ولا صحيح من السقم، فإنما أريد بذلك التفاؤل بالكتاب، واتباع رسوم الكتاب. فلئن بلغني إطنابه في ذكري، وتفضيله غياي على أهل عصري، وهذا سلف أسلفنيه، وأنا بمعونة الله أؤديه، وما أزن نفسي بالميزان الذي [به يزنني ولا أزينها بالفضل] الذي يزينني، فإن كان كما قال، فالفضل منه درج إلي، وخرج من الكمين علي، فإني عاشرته فأعداني فضلًا، وهذبني قولًا وفعلًا، وأنا في ذلك جنيبته إن رضيني جنيبة، وخليفته إن قبلني خليفة، ولقد أعرب [في] ذلك الحر، وخالف طريقة غيره من أهل الدهر، ولقد شهد له فعله أنه كريم، ومن اللوم واللؤم سليم، على قضية أبي تمام الطائي إذا يقول:
وإن أولى البرايا أن تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كانوا يألفهم في المنزل الخشن
وشهادة أبي تمام في الكرم، تقوم [مقام] شهادة أمة من الأمم، ولئن كان خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين عند الأنبياء والحكام، إن أبا تمام لذو الشهادتين عند الأحرار والكرام.
وله إلى أبي سعيد أحمد بن شبيب:
1 / 47