تجتني الأذن منه أحسن مما ... تجتني العينُ من وجوهِ البدور
يشغلُ الفهمَ منظرٌ ثمَّ نطقٌ ... فهو يصغي بظاهرٍ وضمير
صافح الأذنَ بالذي تشتهيهِ ... فأذاقَ النفوسَ طعم السُّرورِ
وقلت: اجعله كالمختصر في الكتاب الموسوم بزهر الآداب وثمر الألباب، الذي ضمنته كل لطيفة، ونظمته بكل طريفة، فجاء بديع الغرر، رفيع الدرر، صحيح الحوك، مليح الحبك. (شعر):
ألذُّ من النجوى وأطيبُ نفحةً ... من المسكِ مفتوقًا وأيسر محملا
أخفُّ على روحٍ وأثقلُ قيمةً ... وأقصر في سمعِ الجليس وأطولا
ليكون لما استعاره من حليه، ولبس من حلله، وأخذ من صفاته، وسلك من سبله، كالأنموذج له والمدخل إليه، والمعرف به، والمنبه عليه، فيكون المطلع على أغراضه ومقاصده، والمتصفح لمصادره وموارده، كالعارف بما في ذاك والواقف على ما هناك، فقديمًا دلت الأوائل على الأواخر، وعرفت البواطن من الظواهر.
فأجبتك إلى ما إليه أشرت، على ما أحببت وآثرت، من غرائب العجائب، وظرائف اللطائف، وجواهر النوادر، وقرنت الفصول بالأصول، وضممت الأشعار إلى الأخبار، ووشحتها بالمستندر والمختار من كلام ملوك النظم والنثر، من أفراد أهل العصر، الذين قهروا السابقين، وبهروا اللاحقين، بكريم عنصر البلاغة وصميم جوهر البراعة، والتهاب الإبريز في إغراب التطريز، (شعر):
من كلِّ معنىً يكادُ الميتُ يفهمهُ ... حسنًا ويعبدهُ القرطاسُ والقلمُ
والنفوس قد طبعت على استطراف ما سمعت، مما لم يتكرر فيتكدر، ويتوالى على الأسماع، فتمجه الطباع، وتكثر روايته، فتمل حكايته، ولو كنت أعلم غيب ما لديك، لما أوردت شيئًا مما وقع إليك، من حديث ولا قديم، وفي نثير ولا نظيم، ولكنني أجهد جهدي، وأبذل ما عندي. (شعر):
فإن وقفتْ بي قدرتي دونَ همَّتي ... (فمبلغُ نفسٍ عذرها مثل منجحِ)
ومع علمي أنك أغرق في الفهم نصولًا، وأعرق في العلم أصولًا، فلعله يمر بك في تضاعيف هذا التأليف شيء تستندره، مما تؤثره، فيكون عيي سعيدًا، ويقع سهمي سديدًا، ببلوغ الزلفى من حبك، والقربى من قلبك، وتلك أمنيتي حتى ألقي منيتي التي لا أتعداها ولا أتمنى سواها.
وفيما ألقي إليك في هذا الكتاب، الذي هو "نور الطرف ونور الظرف"، المختار الكثير مما ليس في الكتاب الكبير، وإنما كان كالمخ من سبيكته، والمح من تريكته، لأنه يحذو حذوه، وينحو نحوه، في ملاحة النثر. ورجاحة الشعر، دون الاستلاب لنفيس مطارفه، والاجتلاب لنفوس طرائفه، وإنما يدل عليه، ويهدي إليه، بدليل الاقتدار على جميل الاختيار، [إذا الاختيار] ميسم العقل، ومعلم الفضل، وهو باب يتصافى ولا يتنافى، ويتشاكل ولا يتنافر، ويتعارف ولا يتناكر، فإذا عرض هذا المختصر على نيران الفكر، وعجم بإنسان النظر، (شعر):
فكان كالذَّهبِ المعروف مخبرهُ ... يزيدُ في السبكِ للدينارِ دينارًا
وكذلك جميع ما صنفته، وكل ما ألفته، وإن أجريت إلى غير لك، في جميع المسالك، (شعر):
فلستُ بأوّلِ ذي همَّةٍ ... دعتهُ لما ليسَ بالنائلِ
وأنا أقسم بالله يمينًا ما كنت أوليها، لو خفت حنثًا فيها، ما حركني الأشر، ولا أدركني البطر، ولا ملكني الإعجاب، فأقول في مثل هذا الكتاب، (شعر):
والمرء يُفتنُ بابنهِ وبشعرهِ ... لكنَّ هذا فتنةُ العقلاءِ
وإني لأرضى من الوبل بالذهاب، بل من الغنم بالإياب، وحسب العاقل أن يسلم دون أن يغنم، لما يعلم من تحكك المعارضين أو تحرك المناقضين، (شعر):
وإنّ امرأً أمسى وأصبحَ سالمًا ... من الناسِ إلاّ ما جنى لسعيدُ
لا سيما فيما ليس بمعجزٍ ولا معوزٍ، وإنما هي فروع تنتزع وتنقل، لا أصول تخترع وتوصل. وليس للناقل من الفضل أكثر من تجويد النقل، وقد قالوا: "اختيار المرء وافد عقله، ورائد فضله"، وقالوا: "اختيار الكلام أشد من نحت السلام"، وقال حكيم اليونانيين: "لكل شيءٍ صناعة وصناعة الاختيار صناعة العقل" وأنشدوا (شعر):
قد رضيناكَ باختيارك إذا كا ... ن دليلًا على اللبيبِ اختيارهُ
وقال بعض المحدثين:
قالوا: خذ العينَ من كلٍّ فقلتُ: همُ ... في العينِ فضلٌ ولكن ناظر العينِ
حرفانِ في ألفِ طومارٍ مسوِّدة=وربَّما لم تجد في الألف حرفينِ
1 / 2