قلت: كنت على همة أن تستشهد، فافعل ذلك على شرط أن تكون الأخيرة. قال: كدت أن أعلمك أن «جون ديوي» أعظم فلاسفة أميركا يقول: «إن أقوى محرك في طبيعة الإنسان هو حب الظهور»، أما الذي أحببت أن أخلص إليه، فهو أنه إذا سهلت وسائل الظهور انطفأت نار الإنتاج، فكم من ضحية أردتها صحفنا قتلا بالمديح.
أعرف مهاجرا في أزمة 1930، كان يفرح إذا انكسر مديون، وله عليه مبلغ ضخم؛ كي يظهر في مأتم المكسور، وهو أرفع الدائنين صوتا، وأعرف فتى تظاهر بالجنون استلفاتا للأنظار، وكان كلما عطف عليه أصدقاؤه وأقرباؤه بأنظارهم وآسوه، تنعم بالتفات الناس، وازداد تظاهرا بالجنون، حتى كاد يصبح التظاهر حقيقة، إلى أن أشار طبيب اختصاصي على ذوي «المجنون» أن لا تأبهوا له، فلما أعرضوا عنه «شفي» الفتى من جنونه. هذان مثلان عن الغلو في حب الظهور، وإنني أعزو قلة إنتاج أدبائنا إلى سهولة وسائل الإذاعة في بلادنا، فقصيدة واحدة، أو خطاب، أو ديوان، يكفي لأن تنشر ذكرى أحدنا بين الناس، وتظهر صورته في الصحف. فترتخي أنانيته، وتتخدر أعصابه، وتقعد به مظاهر النجاح عن الجد إلى الوصول إلى النجاح الحقيقي. إن قليلا من التشجيع ضروري، ولكني أراهن أنه لو اتفق الصحافيون على الإغضاء عن ذكر الأدباء سنة واحدة، لتضاعفت جهود مؤلفينا واغتنت مكاتبنا.
كنت بعد «لولا المحامي»، وبعد مئات الخطب والمقالات، أجهز المواد لرواية تمثيلية ثانية، إذ اتفق لي أن دخلت في عام 1924 مخزن أمين أبي ياغي في بيروت، وقبل أن تتعود عيناني ظلمة المخزن، بعد وهج الشمس، إذا بشخص فتان المظهر، يقفز من مقعده في زاوية المحل، ويمشي إلي ب «أهلا بالنابغة»، ويهز يدي بحرارة. فركت عيني - لا ما أنا بالحالم - هذا أمين الريحاني بعينه. خرجت من المخزن «مبنجا» ب «أهلا بالنابغة»، مورفين أنامني سنة كاملة من غير إنتاج أدبي؛ إذ رجعت عن خطة تأليف الرواية الثانية. ما تبقى بعد من الأدب يا سعيد، وقد دعاك أمين الريحاني «نابغة»؟! سنة من العمر أضاعتها عبارة مديح!
قلت: إن في نفسي لعجبا منك. أسمعك كثير التحدث عن الدكتور فيليب حتي، فما لك أغفلت الآن ذكره؟
قال: بلى، تلك زوبعة عقلية نزلت بي، فاقتلعت وزرعت، وقد تهذبت عليه ثلاثة أعوام، فعليه قوي تفكيري حتى كنت برهة من الزمن ببغاء من سرب ببغاواته، بعضها لا يزال في سماء بيروت، يطير ناصل الأجنحة، وأسطوانة من أسطواناته التي تردد ألحانه العديدة، ومنها من لا يزال يدور على نفسه منشدا أغاني حتي، غير أني ارتددت عليه، وها أنا أسجل تمردي على تعاليمه، فقد أفهمنا - في جملة ما أفهم - أن التاريخ لا يعيد نفسه، وها أنا شططت في هذه الديار منذ اثني عشر عاما ، خالي الوفاض مفلسا، وأرى التاريخ أعاد نفسه بي مرتين منذ ذلك العهد. •••
قال المؤلف: ينزل الستار على حياتي الأدبية بعد «لولا المحامي»، و«قضي الأمر»، ويرتفع فجأة، فإذا بطلنا - أي أنا - على مسرح أعددت نفسي لكل مسرح إلاه؛ التجارة، في جزائر الفلبين من الشرق الأقصى، يريد أن ينقص القوت من أفواه الأسود، ولو لم يكن هناك أسود. كان سلاحي في كفاحي الشباب والجد والطموح والذكاء - أي نعم الذكاء، وسأقص عليه أخباره - وكانت أعدائي الذكاء والجد والطموح متحالفة مع غدر الأيام وغدر الناس، وهوس الشباب وغلو التفاؤل، والإسراف، وائتمان الناس من غير روية، والإغراق في الطموح إلى تطلب المليون بالمجازفة بالألوف، فصعدت في عالم التجارة كأني راكب منطادا، وأهويت كأني قافز من طائرة، وأنا اليوم أصعد الجبل ألف ذراع في اليوم، وأزلقه ألف ذراع في لحظة. عيناي في الذروة وقدماي في الوادي - مهشم الجسد، سليم الروح، أعتاض عن نشوة الظفر بلذة الجهاد والأماني. أهل التجارة يعتقدون أني أديب كبير، وبنو الأدب يتوهمون أني تاجر ماهر، وأنا واثق أن الاثنين على خطأ وصواب.
صحت بصاحبنا: مهلا يا حضرة المؤلف، أهمزك بسؤال لتمشي خطوة، فإذا أنت ترمح ميلا. فهلا حدثت قراءك - إذا أوقع الله بين يديك من قراء - بشيء عن بركات الحياة. قال: لا أجيد الكلام عن البركات، وأعاف كلمة ب. ر. ك؛ لأنها تفكرني بشيء مستكن، ونفسي قلقة مشدودة إلى رفاص، ولكني أقص عليك أنباء اللعنات الأربع، التي غشيت روحي، ونشرت العشرات في سبيلي. - وما هي؟ - أولها لعنة «الذكاء».
قلت: تضايقني يا محترم؟! ألا تخاف أن يرمي قارئك بكتابك، إذ يراك تنعت نفسك بالذكي؟
أجاب: أصارحك أن قارئي ذكي، يعرف أن في رياء التواضع المصطنع من الخيلاء والتدلل ما هو أبشع من المصارحة، وإن كانت مباهاة، وأنا جاد إذ أقول لك إن الذكاء لعنة، والإنسان يفخر بما يكسب، وليس بما يوهب، والذكاء أحبه موهبة. أقول لك: إن الذكاء لعنة. ألا تسمعهم في لبنان أسبق ما ينعتون بالمديح أحدهم بقولهم: «فلان ذكي»، كأنهم قالوا إنه كامل بكل معاني الكلمة. إن الذكاء لعنة؛ لأنه أقل المزايا أهمية. فالمثابرة، والجد، والاقتصاد، والحرص، والحذر، والتوفير؛ هي أهم من الذكاء بكثير، ولكن الذكاء صفة وهاجة تبهر العيون، وأخصها عيني حاملها، عن التطلع إلى غيرها، وتوهمه أنه لا يحتاج إلى سواها، وبهذا كانت لعنتها.
كنت أماشي أحد ماليي مهاجرينا، ممن أصابوا النجاح المزدوج من ثروة واحترام الناس، فسألته في ساعة تشتاق فيها النفس إلى البوح إلى النفس بأسرارها، عما هو سر نجاحه، قال: يا بني، إن في سؤالك جوابي. فلو كنت شخصا غير عادي، ذا ذكاء ونبوغ خاص، لما سألتني هذا السؤال، بل لعرفت من ذكائي جوهر نفسي. أما وأنا رجل عادي بدماغه، فقد جئت متوازن الجهود، متسق التفكير، وحالفني شيء من الحظ إلى الوصول بي إلى النجاح الذي أنا فيه. انظر إلى فلان وفلان - وهنا كر علي مسبحة أسماء - كلهم أذكى مني، وأوفر علما. أين هم الآن؟ إن ذكاءهم ولد بهم ثقة نفس، صرفتهم عن تطلب الخصال الأخرى، التي هي في النجاح أكبر شأنا.
Bog aan la aqoon