بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـ[نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد]ـ
المؤلف: أبو العباس البسيلي التونسي (المتوفي ٨٣٠ هـ)
مما اختصره من تقييده الكبير عن شيخه الإمام ابن عرفة (ت ٨٠٣ هـ) وزاد عليه
وبذيله (تكملة النكت لابن غازي العثماني المكناسي) المتوفي (٩١٩ هـ)
تقديم وتحقيق: الأستاذ / محمد الطبراني
الناشر: منشورات وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - المملكة المغربية
الطبع: مطبعة النجاح الجديدة - الدار البيضاء
الطبعة الأولى: ١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م
عدد الأجزاء: ٣
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
* * * * * * * *
تعريف بالكتاب
أخذ مؤلفه أبو العباس البسيلي مادة كتابه هذا من مجالس التفسير لأستاذه شيخ الإسلام بأفريقية أبي عبد الله محمد بن عرفة الورغمي التونسي المتوفى سنة ٨٠٣هـ، وزاد عليه ثم اختصره حسبما ذكر في مقدمته. ثم انقطع اختصاره عند سورة الصف، فانبرى لإكماله بعده أبو عبد الله محمد بن غازي العثماني المكناسي ثم الفاسي المتوفى سنة ٩١٩هـ.
مميزات هذا الكتاب:
١ - الجمع بين ما يوهم التعارض في القرآن وتوجيه الآيات المتشابهات في اللفظ، والكشف عن أسرار النظم القرآني وأسئلة القرآن، ومناقشة الفرق الكلامية، والعناية بالمنطق وتطبيقاته على الآي.
٢ - نقده لتفاسير مشهورة كأحكام القرآن لابن العربي، والمحرر الوجيز لابن عطية والكشاف للزمخشري، وتفسير الرازي والبحر المحيط لأبي حيان.
٣ - اقتصر على نكت التفسير ودقائقه ومشكلاته دون ما لم يكن كذلك.
٤ - توثيقه للمصادر والموارد التي نقل منها بأسماءها.
٥ - اجتمع فيه علم ثلاثة علماء هم ابن عرفة والبسيلي والمكناسي ﵏ جميعًا.
Bog aan la aqoon
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
مقدمة
الحمد لله الذي إليه تمامُ كل ظن، وبيده نواصي كلِّ أمر، وعليه التكلان فيما يُرتجى ويؤمل، وليس إلا عليه المعول، أرسل محمدًا ﷺ بباذخ الشأن، وابتعثه شهابا رصدا تصدى للظلمة فبدَّد مادتها، وكسر من غلواء الجهالة فَفَتَّ في عضدها، به سلكنا السبيل إلى الله، وبه المنة في أن كنا مسلمين، والحمد لله رب العالمين.
أما بعد:
فقد تعلقت همتي مذ قيض الله لي أن أطلب العلم الشريف المنيف، بخدمةِ كتاب الله جل وعز والتوسلِ بأسبابه، والورودِ من سلسبيل عيونه وأمواهه، زلفى إلى مولاه، وتعلةَ أن أسلك فيمن أوتي بعض فهم من معناه، وما يعلم تأويله إلا الله.
وقد أكدتْ وسائلي حينها أن أظفر بمخطوط في فن من فنون القرآن وتفسيره لعَلَم من كبار أساطين الأندلس، لكون الكثرة الكاثرة من طلبتي كان قد حُقق أو على وشك أن يحقق، وكم مرة خلت أنني أصبحت على طرف الثمام من بغيتي، فيفجؤني خلاف ذلك ليرتد الطرف إلى حسيرا، فلا عليك إذن أن تعلم كم بت بهذا الغرض معنى، وأنني تصديت إليه بعد ذاك متيحا مِعنا، بيد أنني بحمد الله لم أك أخْيبَ من حنين، ولا مفوت كلتا الحسنين، فقد اقتنيت خلال التنقيب مصورات لم يقذف في رُوعي أن أعمل عليها، وإنما تشوفت لقراءتها عند الفراغ، فلما سُقِط في يدي، ولم أجد مناصا من الإسراع في التسجيل، عمدت إليها أتصفحها، فألفيت بينها كتابا قمينا بالإخراج، حقيقا بالتحقيق، فاستخرت الله تعالى في العمل عليه، والعكوف على إخراجه، فهممت ففعلت، وما توفيقي إلا بالله عليهِ توكلت.
1 / 9
التعريف بموضوع الكتاب
أما موضوع العمل، فتحقيق لكتاب "النكت والتنبيهات في تفسير القرآن المجيد" لأبي العباس أحمد بن محمد بن أحمد البسيلي التونسي (ت ٨٣٠ هـ)، وهو علق ثمين من أنفس الآثار الإفريقية للتفسير القرآني العقلي في القرن التاسع، في جودة مبانيه وانتظام أصوله ومكنة صاحبه، رسم فيه أبوابا من علم التفسير ونكته وتنبيهاته ودقائقه، تفتح على المنتهي أبوابا من وثيق علم التأويل القرآني، وتجري به في مضمار فرسانه، وتهديه أقوم السبل إلى تجديد النظر في معاني كتاب الله جل وعز.
وقد أخذ مؤلفه العالم أبو العباس البسيلي، مادته الجلى من مجالس التفسير لأستاذه شيخ الإسلام بإفريقية أبي عبد الله محمد ابن عرفة الورغمي التونسي (ت ٨٠٣ هـ)، وزاد عليه ثم اختصره حسبما ذكر في ديباجته، ثم انقطع اختصاره عند سورة الصف، فانبرى لإكماله بعده أبو عبد الله محمد ابن غازي العثماني المكناسي ثم الفاسي (ت ٩١٩ هـ).
دوافع الاختيار
درأني إلى تحقيق الكتاب أمور تالية:
١ - تشوفي القديم العهد، للإسهام في حركة بعث التراث الإسلامي من رفوف الخزائن، وإخراجه إلى النور إخراجا علميا، عوض أن يتكفل بذلك بعض من يمسخ الأصول، ويحيل الحقائق، ويعبث بتراث الأمة كيفما اتفق.
٢ - أهمية الكتاب، من حيث إنه يعطي صورة عن واقع التفسير بإفريقية في النصف الأخير من القرن الثامن وأوائل القرن التاسع، وينفي ما علق بالأذهان من أن هذه الفترة لم تكن إلا فترة جمع غاب فيها الإبداع.
٣ - قيمته العلمية التي حدت بشيخ الإسلام ابن حجرٍ إلى أن يقول في معرض التعريف بابن عرفة: "وعلق عنه بعض أصحابنا في التفسير كلاما ... كثير الفوائد، كان يلتقطه وقت قراءتهم عليه، وكلامه يدل على توسع في الفنون، وإتقان وتحقيق"، ولعله عين ما دفع أحمد بابا التنبكتي (ت ١٣٦٠ هـ) إلى وصفه بأنه "تقييد جليل في التفسير، فيه فوائد وزوائد ونكت ... "، ولعل هذا كله مئنة الاهتمام به، فقد كان للسلطان المنصور السعدي اعتناء بتفسير الإمام البسيلي حسبما نص عليه الفشتالي في مناهل الصفا، فليس
1 / 10
بدعا من الأمر، أن نجد له فوق ذلك، أثرا في مصادر كثيرة ثَرَّة كمواهب الجليل لأبي عبد الله الحطاب (ت ٩٤٥ هـ) وكفاية المحتاج للتنبكتي (١٠٣٦ هـ) وأزهار الرياض لشهاب الدين المقري التلمساني (ت ١٠٤١ هـ) والحلل السندسية للوزير السراج الأندلسي (ت ١١٤٩ هـ) والإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام للعباس بن إبراهيم (ت ١٣٧٨ هـ) والفكر السامي لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي (ت ١٣٧٦ هـ) وفهرس الفهارس لعبد الحي الكتاني (ت ١٣٨٨ هـ). ولا غرابة أن يهتبلَ العلماء به، فمن بعض ما احتجن بين دفتيه، مما تميز به الكتاب في مجال علم التفسير: الجمعُ بين ما يوهم التعارض في القرآن، وتوجيهُ الآيات المتشابهات في اللفظ، والكشفُ عن أسرار النظم القرآني وأسئلة القرآن، ومناقشةُ الفرق الكلامية المحادة الحائدة عن نهج السبيل، والعنايةُ بالمنطق وتطبيقاته على الآي، وتوظيفُ معطيات العلوم الطبيعية لخدمة التفسير، وتركيزُه على نقد تفاسيرَ طائرة الصيت، كأحكام ابن العربي ومحرر ابن عطية وكشاف الزمخشري ومفاتيح الفخر الرازي وبحر أبي حيان، ثم إنه - وحسبك به - أنموذج عن تفسير شيخ الإسلام ابن عرفة، وهو ممن لا تخفى إمامته ولا تدفع ريادته.
٤ - أنه واحد من المؤلفات الإفريقية في التفسير في القرن التاسع، التي سلمت من عوامل الحدثان، وهو أمر تنفِسُهُ عليه كتب للتفسير كثيرة لا نعرفها لوما رُسمتْ أسماؤها في كتب البرامج والفهارس والمعاجم.
٥ - كون هذا الكتاب نموذجا جديدا في حينه في طرائق التصنيف، وذلك أنه لم يجعل وكده تفسير القرآن كله، بقدر ما اهتبل بنكت التفسير ودقائقه وتوجيه مشكلاته، ومعنى هذا أنه لم يخض إلا في المواضع التي يستشكلها علماء التفسير؛ ومن ثم كان تفسيرا حي المباحث، مستقل الأنظار، متين المباني غزير الفوائد.
٦ - علو قيمته من حيث منهجه في التصريح بالموارد، فحفظ لنا بذلك نقولا كثيرة عن مصادر منها ما هو مفقود أو مخطوط.
٧ - أنه يمثل رافدا علميا تواشجت فيه صلات العلم بين أقطار المغرب العربي، فالتقت فيه على قدَر جهود ثلاثة علماء أفذاذ هم على الولاء: أبو عبد الله محمد بن عرفة التونسي وأبو العباس البسيلي التونسي وأبو عبد الله بن غازي المكناسي المغربي؛ ولعل ذلك ما رغبنى أن أكون بإخراج هذا الكتاب من هؤلاء الشُّداة النشأ الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل.
1 / 11
التعريف بالمؤلف
وليسعنا في الحديث عن معالم سيرة البسيلي وثقافته أن نختصر القول اختصارا وأن نعتصره اعتصارا فنقول: المؤلف أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد البسيلي (ت ٣٨٠ هـ)، شيخ عالم مفسر منطقي مشارك، وُصف بأنه كان كثير الصمت قليل الخوض فيما لا يعني، عليه آداب العلم من وقار وسكينة، وكان يقرئ بسقيفة داره كثيرا، وتقصده الطلبة تسأله عن المسائل المشكلة، وكان يحدثهم عن شيخه الإمام ابن عرفة رحمه الله تعالى.
ونضيف أنه -عدا ابنِ عرفة- قد أخذ عن المقرئ أبى عبد الله ابن مسافر العامري (ت ٧٨٦ هـ) والنحوي أبي العباس أحمد ابن القصار الأزدي (ت ٧٩٠ هـ) ومحدث تونس أبي عبد الله محمد البطرني التونسي (ت ٧٩٣ هـ)، والمؤرخ ابن خلدون الحضرمي (ت ٨٠٨ هـ)، وإمام جامع الزيتونة أبي مهدي عيسى الغبريني (ت ٨٤٥ هـ) وغيرهم، وتتلمذ له كثيرون منهم الفقيه الرصاع شارح الحدود، والقاضي أبو العباس ابن كحيل التجاني التونسي، وغيرُهم.
وله من التآليف كتاب حاذى به مختصر ابن عرفة الفقهي ثم اختصره، وتفسيرا كبيرا، وآخرَ صغيرا هو انتخاب من الأول مع زوائد، وهو كتابنا هذا، مع شرح للمدونة، وآخرَ على قصيدة الرامزة في العروض لضياء الدين الخزرجي، وثالثا على الجمل في المنطق لأفضل الدين الخونجي (ت ٦٤٦ هـ).
يرتكز تفسير البسيلي على مجالس ابن عرفة التفسيرية التي شهدها في الفترة ما بين ٧٨٣ هـ و٨٠٣ هـ، وعليه يظهر أن جمع المادة قد استغرق من البسيلي عشرين سنة إلى وفاة ابن عرفة، منضافة إلى خمس سنوات بعدها، إذ يرجع آخر تاريخ مذكور في التفسير إلى سنة ٨٠٨ هـ، وإذا ما أخذنا في الاعتبار أنه قد استعان بمدونات سابقة على حضوره مجالس ابن عرفة عرفنا أن نكت البسيلي صورة حية عن مجالس ابن عرفة في التفسير خلال ما يزيد على ثلاثة عقود.
وعلاوة على ما سبق، فإن المدونات التي تتغيا تقييد مجالس الدرس لا تتخذ صبغة التأليف المنهجي المدرسي، ولذلك يتضح أن تقييد البسيلي بالشكل الذي بين أيدينا قد خضع لعمليات متعددة بدءا من تخريج ما هو مدون سلفا دون ما دونه صاحبنا، ثم انتقاء النكت وترتيبها، مرورا بالإضافات التي ليست من فوائد ابن عرفة ولا ذكرها بحال.
1 / 12
إننا أمام عمل في التفسير في فترة تاريخية حرجة، ومنعرج حضاري كبير، عمل يجمع بين أمور مميزة: فرادته من حيث زهد العلماء وقصر باع أغلبهم في التفسير، ثم مَيْزُهُ على المستوى الأفقي، حيث إن مادته غنية تمثل لونا آخر من ألوان المنهج العقلي اللغوي في التفسير، يعالج مشكله ونكته ويبرز انفتاح البسيلي على فنون كثيرة من علوم القرآن والحديث والفقه والأصلين والنحو واللغة والأدب والتصوف والمنطق والرياضيات والتاريخ مما يصب في خدمة المعنى، مع ظهور للمنطق المدرسي بشكل لافت.
وفوق ذلك كله، فالكتاب أثر إفريقي مغاربي في التفسير، طبعته ملامح مدرسة علمية كبرى هاجسها التفقه، تتسلسل بابن زيتون وابن عبد السلام وابن عرفة.
التعريف بمراحل العمل وماهيته
من فصل الخطاب، الإقرار أنه من العسير تلخيص الأعمال التي تتصل بالتراث، وتقوم على التحقيق العلمي لنصوصه، ومن ثَمَّ فلست هنا بصدد التلخيص بما يعنيه المصطلح، بقدر ما أنا واصف لمراحله وأهم مضامينه ...، وعليه فقد جعلت مقدمة التحقيق فصولا ثلاثة، أهم أولها أن يقدم إلماعة حول الحركة العلمية في عصر السلطنة الحفصية، من خلال مبحثين: أولهما عوامل النهضة العلمية في عهد الحفصيين. والثاني: نشاط الدراسات القرآنية في العصر الحفصي، تتبعنا فيه النتاج الإفريقي في علوم القرآن، مما هو منسوب أو مخطوط أو مطبوع.
أما الفصل الثاني فخصصته لحياة أبي العباس البسيلي وآثاره، من حيث مصادر ترجمته والأوهام الكثيرة التي عَلقتْ بها وما ادَّارأ فيه المترجمون، ثم بما أثير حول نسبه وأصالة تونسيته وما إلى ذلك، مما درج المترجمون على إيراده من قبيل ذكر الإسم والنسب، والمولد والوفاة، والشيوخ والتلاميذ والمؤلفات؛ إلا أن الذي وسم هذه الترجمة أنها لم تعول على الترجمة المكرورة القصيرة التي نقلها المترجمون أولهم فى إثر آخرهم آخذين بإخذ واحد، وإنما استقينا أكثر مادتها من خلال تلقف الإشارات والإلماعات والفوائد الموضوعية التي تناثرت بشكل متباعد خلال كتب المؤلف، مستعينين في ذلك الترميم، بالاستنتاج والمقارنة وجمع القرائن والمعطيات، مما أغنى هذه الترجمة، بالتعريف بكثير من أعلام أسرة البسيلي وبالتوسع في تراجم شيوخه
1 / 13
وتلاميذه، والاهتمام بعلاقته بهم، ومبلغ تأثيره فيهم أو تأثرهم به؛ وساقنا كل ذلك إلى الوقوف على مؤلفاته وتقديمها. وأتبع الترجمة ذكر علاقة المؤلف بالحفصيين، وذكر صفاته الخلقية والخلقية، وما أثنى به العلماء عليه، فجاءت هذه الترجمة ضرورية لفقر المعلومات عن صاحبنا.
ثم ثنيت العنان في الفصل الثالث إلى أن أفردته للإفاضة في الحديث عن الكتاب ودراسته، من حيث عنوانه وتوثيقه وتحقيق نسبته إلى البسيلي وما احتف بتأليفه من حكاية ذكرها المؤرخون، مع تقدير تاريخ التأليف، ثم أفضت في تِبيان ملامح المنهج ْالعقلي في التفسير عند المؤلف متخلصا إلى سرد مصادره في "النكت والتنبيهات" مع المقارنة بين هذا وتقييد آخر عن ابن عرفة، هو تفسير أبي القاسم الشريف السلاوي، وجر ذلك الإلماع إلى جملة فضايا وثيقة الوشيجة بتجلية الكتاب للقارئ كمبحث عناية العلماء بتفسير البسيلي والنقل عنه، والوقوف عند بعض مآخذ على المؤلف لم تمنعنا إمامته من زبرها مقرونة بالبينات عليها، ولم يعزب عنا ما اشتكاه ابن غازي عند تكملته من رداءة نسخته من التقييد الكبير، فأفردنا لعمله في الاختصار قرصا من العرس، ثم عرجنا على ما طبع من التقييد الكبير، فقومنا ميله وسناده حين بدا لنا أنه اتخذ ظهريا قواعد التحقيق، وتجانف عن الصواب وسبيل التدقيق. وقادنا ذلك كله إلى أن يقدُمَ النص المحقق ذَرْوٌ من الكلام هو منه بسبيل مقيم، عدّا للنسخ ووصفا لها، فلا ريب أن سلكت في خطة التحقيق جَدَدَ المحققين الجلة، أمنا للعثار، ولم أحد عن نهجهم إلا بمقدار يفرضه حال النص، فكان أن قدمت بين يدي الغرض التنقيبَ في فهارس المخطوطات وذخائر الكتب، فلم أعثر مع مزيد البحث الجاد والعَنَتِ اللاحق، إلا على ثلاث نسخ، تبين أنه لا يُعرف غيرُها لحينِه، بعد سؤال العارفين بالمخطوطات والمهتمين بها؛ وأما ما بقي من النسخ، فهي نسخ من التقييد الكبير، عدنا إليها للمقابلة باطراد، وللاحتكام إليها -أحيانا- فيما أشكل علينا، إلا أنه قد عنانا الحصول عليها، فلم نفِد منها إلا بعد لأي. وقد قابلت بين النسخ لأول الأمر، واصطلحت كالمعهودِ على رموز واختصارات غير يسيرة صدَّرت النص المحقق بها، وجعلت ما زادت به نسخة الأصل على غيرها بين مُعكَّفين، وما ربت به النسختان الأخريان عليه بين زاويتين متقابلتبن، وما خلت منه النسخ من سقط لازم أو تتمة مُثْلى بين قوسين، ونبهت على أنه زيادة لدنية اقتضاها النص واستقام بها، ولم أفعل هذا إلا لماما. وأثبت أرقام مخطوط الأصل في صلب النص بين معكفين، وأرقام الباقيتين بالحاشية بحسب الورود. ورسمت الحروف القرآنية موضع التنبيهات بالرسم التوقيفي على ما اقتضت قراءة نافع
1 / 14
من رواية ورش، إلا مواطن لم تسعفني مميزات الطبع، فأثبتها على حالها ريثما أصوبها يدويا، وأخرى تركتها بياضا سودته باليد بعد الطبع؛ فمن الأول القاف والفاء عند المغاربة، ومن الثاني الألفات المحذوفات والياءات الموقوصات، وعلامة الصلة والإقلاب وما سوى ذلك. وجعلت ناصية كل آية منبَّه عليها رقمَها، تيسير على القارئ ومنعا للتشغيب عليه بالعَوْد المطّرِد إلى الحواشي عند كل آية. وضبطت الآيات والأحاديث والشواهد والأغربة ضبطا تاما وصوبت الأوهامَ والهناتِ الواردةَ بالنص، وأشرت إلى مصادر التصحيح وخرجت آيات الاستشهاد بالحاشية، لأني رأيت فعل ذلك في النص مع كثرة الآي مذهبا لطلاوته، كما خرجت القراءات متواترَها وشاذَّها ونصصتُ على القرَأَة بها، ومثلَها الأحاديثُ النبوية الشريفة، ناقلا عن علماء الحديث أحكامهم عليها بالتصحيح أو التضعيف، وصدّرْت التخريج بها. معرفا في أطواء الكتاب بمصطلحات الفقه والأصول والمنطق، وبعض أسماء الأماكن والكتب مخطوطها ومطبوعها. ثم عرضت ما أشكل من نص الكتاب على أصله "التقييد الكبير"، حين لا تكون النكتة من الزوائد.
وقد خرّجت شواهد الشعر والرجز بالعوْد إلى دواوين أصحابها، وإلى كتب الأدب والنحو واللغة والتفسير، كما شرحت الأمثال والأقوال ووثقت الحكايات وضريبَ ذلك كله، وترجمت للأعلام كل بحسب طبقته. ثم انتقلت بعد ذلك إلى عرض محمولات النص على كتب التفسير والنحو واللغة والحديث والأصلين، باعتبار موضوع كل نكتة، ولم أخْلِ مع ذلك نفسي من عهدة عرضي لمادة الكتاب برمتها على التفاسير المعتبرة المشهورة، محترزا أن أصيد الحوت في غير بحره، إلا حين يَنْضُبُ معينُ المظان، فلم أبغ بدلا عن توثيق مسائل الأصول مثلا من كتب الأصول، ومسائل المنطق من كتب المنطق، وقضايا الكلام من كتب الكلام ... وهكذا دواليك إلا فيما ندر؛ تعِرَّة أن أكون حاطب ليل.
ولم تكن نقول البسيلي خالصةً للاستظهار ليس إلا، بل أوردها على أحوال شتى، فتارة تكون نصا في الموضوع، وتارة لتكون مادة للتعقب، وقد ألزمت نفسي فرددت غالب النقول الكثيرة بالنص على أصولها، ليستبين وجه الحق في نقلها، فتكشَّف لي أحيانا ما في النقل منِ العَسْف أو الاختصار المخل، على ما في ربط النقول بمصادرها المخطوطة من نصَبٍ ووصَب يخبره العارفون، سيما حين يكون توثيق النقول من كتاب مخطوط أو نادر لا يخضع لترتيب، ويعرى عن فهرسة، وبقدر
1 / 15
ما كان ذلك نقمة عليَّ، فقد كان حُبرة سابغة على الكتاب، صححت مبانيَه، ووضحتْ معانيَه.
هذا وقد انتحيت في التعليق تفصيل المجمل أو توضيح المبهم أو التنبيه على الوهم أو إرشاد القرأة إلى مزيد البحث في المصادر، ولربما أرخيت العبارة في التعليق زيادة بيان أو حرصا على فائدة أو محاذاة لكلام المؤلف بما يشاكله ويماثله، فكان أن "رفعت أحيانا العنق إلى النص، وملت عن الأعم إلى الأخص، وأدمجت باع العبارة في فتر الإشارة، وفي مواضع أجحف فيها الحذف، وتقلص ثوب المعنى فلم يضف، مددت بقدر الحاجة من أنفاسها، وأضفيت إلى حد الكفاية من لباسها".
وتوجت العمل بأن ختمته بفهارس تفصيلية، بلغت أحد عشر ككواكب يوسف، وهي على الولاء: فهرس الآي والآثار والأشعار والأعلام والأماكن والأمثال والكتب المذكورة في المتن والجماعات والفرق، والمصطلحات المنطقية وجريدة المصادر والمراجع، وفهرس مواد التقديم والتحقيق، ثم دليل الفهارس.
من نتائج البحث
١ - أنني أقدم اليوم، أول كتاب للبسيلي يحقق كاملا فيما أحسب، وما إخال أن الكتاب كان سيتأخر به العهدُ ليرْتد بصيرًا لولا عَمَهُ الأفارقة عن تراثهم، وغضُّهم على جاري عادتهم مما لم يكن من القرون الأولى، وذاك -كما ترى- "قضاءٌ في القضاء مذومُ".
٢ - أنني قدمت أوفى ترجمة للبسيلي بحمد الله، ولو كانت هاته مبسوطة في الكتب قريبةَ الجني، لما التفت إلى تسويد الأوراق بأمر هو على مرمى حجر من كل باحث، ولكن البسيلي من هؤلاء النكرات المجاهيل الذين حاق بهم من التاريخ إغماض غير يسير، فلم يحظوا في كتبه إلا بنتف يسيرة كالضريع، فاستدعى مني شح الترجمة وخمول الرجل أن أسلك قيافة الإشارات والتلميحات التي تحتف به وبأسرته، مما تضمنته تلافيفُ كتبه، ومَطَاوي تراجِمِ المتَلبسين به، مستخدما قرائنَ الأحوال، والجمْعَ بين المُشاكلِ والمؤالف، مما مكنني أن أرمِّم هذه الترجمة بذكر لفيف من شيوخه وأعلام أسرته، ووضع اليد على بعض من مؤلفاته التي نعرِّف بها لأول مرة فيما أحسب.
1 / 16
٣ - أنني عدوتُ على كرهٍ تصحيح المتن، إلى مناقشة المؤلف وتعقب بعض أوهامه، فاتخذ ذلك صورا متباينة، كالتنبيه على ما نقله غيرَ مصرِّح بمأخذِه، ومن ثم رَدهِ إلى أصله، أو تبيينِ ما وَهِمَ في نسبته، أو تصحيح ما يعتري؛ لامه من الخطأ، كلُّ ذلك مع الاعتذار له لغلبة إحسانه، وشفوف إتقانه، إذ من ألف فقد استهدف.
٤ - أن البحث قادنا إلى إثبات حقيقة أن تفسير ابن عرفة لم يعكس الانزلاق التاريخي وبداية الخرف الحضاري في إفريقية، بل بقي لدنا متفتحا على بوابات الاجتهاد المشرعة.
٥ - أنني كنت مجدودا بأن قادني البحث إلى اكتشاف مخطوطات نادرة كانت إلى الأمس القريب ضائعة سائعة، من أهمها قطعة صالحة من رواية بلديِّنا أبي القاسم الشريف السلاوي، لتفسير شيخِه الإمام ابن عرفة، وهي روايةٌ طالما تشوف إلى معرفتها أعلام في العلم، وجزم بفقدانها كُبراء منهم. ومن ذلك أيضا كتاب المحاذي لمختصر ابن عرفة في الفقه، وهو شرح موسع لصاحبنا، ما ذكره أحد ممن ترجم له ألبتَّة، ولا وقفنا على أحد نقل عنه أو دل على وجوده.
وغانٍ عن البيان، أن أقول إنني قد انتحيتُ عند بدء التحقيق تَرْكَ التعليق ما وَسِعني، مُقِلا منه كيما لا يطغى على النص، بيد أن مادة الكتاب المكتنزة، وعمقَ نكَته ودقائقه، وإبحارَه في فنون شتى، درأني إلى الشرح والتوضيح، فجاءت تعليقاتي غير زائغة عن هذا المضمار إلا فيما ندر.
وختاما فإن هذه المقدمة لا تغني بحال عن قراءة الكتاب والوقوف على مبلغ الجهد فيه، فقد علم الله ما كلفني من سفر وسهر، على حين ما عاد البحث العلمي يغري أحدا، ولا يدر مالا لبدا، فنحن فيه نحتسب الله جل وعز أكثَر مما نرجِّي من وراءه بغية أو طلبة، ولو لم نفد منه إلا الاشتغال بالعلم عن الخلق، والالتقاء بنفر من السادة العلماء الأماثل، لكان ذلك من أكبر النجح، وأعظم الربح.
هذا والمأمول من بِرِّ الواقف عليه، أن يذكر أن إعداد هذا السفر، قد تم في أحوال شتى لا تُظاهر على العمل، ولا تزيد في المُنَّة، مما حقه أن يطوى ولا يروى، وهي كلها شهد الله دواعٍ تجعلني في أكمل العذر، وتبسط لي أحسن التّعلات؛ على أنني لم أتخذ ذلك ذريعة إلى الترك، بل جهدت جهد المقل، وجهد المقل غير قليل، (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦).
1 / 17
اختصارات الدراسة
- و: وجه.
- ظ: ظهر.
- أ: وجه.
- ب: ظهر.
- ع: ابن عرفة.
- رموز المخطوطات:
ن خ ع ك: نسخة الخزانة العامة بالرباط، حرف ك (كتاني).
ن خ ع ق: نسخة الخزانة العامة، حرف ق (أوقاف).
ن خ ع ح: نسخة الخزانة العامة، حرف ح (الحجوي).
ن خ ح د: نسخة الخزانة العامة، حرف د.
ن خ م: نسخة الخزانة الملكية، بالقصر الملكي بالرباط.
ن م ع ف: نسخة مؤسسة علال الفاسي.
الكبر (ص): نسخة الجزائر من "التقييد الكبير".
- الكبر: اختصار للتقييد الكبير.
- ت: توفي.
- هـ: هجرية.
- اهـ: انتهى.
- ن: انظر.
1 / 18
الفصل الأول
الحركة العلمية في عصر السلطنة الحفصية
وفيه مبحثان:
١ - عوامل النهضة العلمية في عهد الحفصيين.
٢ - نشاط الدرسات القرآنية في العهد الحفصي.
1 / 19
المبحث الأول:
عوامل النهضة العلمية في عهد الحفصيين
أ - رعاية خلفاء بني حفص للحركة العلمية:
يبتدئ العصر الحفصي بإمارة الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي -صاحب الإمام المهدي- على البلاد التونسية، عام ٦٠٣ هـ، وينتهي بعد ذلك سنة ٩٨١ هـ، وقد تقلبت السلطنة في هذا المجال الزمني بين دَعَةٍ وأمن، واختلالٍ وفسادِ حال؛ وليس وكْدُنا تقرير ما أطنب المؤرخون فيه؛ وإنما القصد أن نبرز بعض ما أحاط به ملوك بني حفص العلم من عناية ورعاية.
شهد هذا العصر احتفالا بالعلم وأهله، واستطاع النشاط العلمي أن يغدوَ ميْسما لازبًا لتونس، تُذكر فيُذكر، ويُعرف فلا يُنكر، حتى إن الرحالةَ العبْدري، وهو النَّقادة الذي "ما رأيناه مَدح بلدةً ولا سكانهَا إلا مدينة تونس" -حسبما أفاد ابن عبد السلام الناصري فى الرحلة الحجازية- يعطف على هذه البلدة سنة ٦٨٨ هـ، فيُلْفى فيها أخْدَانه سَدَنَةَ العلم وأضرابَه في الطلب، ويُسَرِّح طرْفه وفكره فيما تلذّه الأنفس وتقرّ الأعين من الأنظار العقلية والأبحاث العلمية الجارية بين علماء الحضرة، فلا تمنعه محاققتُه الفذّةُ من أن يقول عن تونس: إنه "لا تنْشُدُ بها ضالةً من العلم إلا وجدتها ولا تلتمسُ فيها بغيةً معْوِزة إلا استفدتَها؛ أهلُها ما بين عالم كالعَلَم رافع بين أهله للعِلم، ومعطِّل حدَّ الظُبى بالقلم".
بل إن العبدري يُثبت أنه قد أقفر ما بين المغرب وتونس من العلم، ولم يجد له رسما إلا عندما دخلها، وذلك حَادِيهِ للقول: "ولولا أني دخلتُها لحكمت بأنَّ العلم في أفق
1 / 21
الغرب قد مُحِيَ رسمه، وضاع حظُّه وقَسْمُه، ولكنْ قضى الله بأنّ الأرض لا تخلو من قائم له بحجة يرى سبيل الحق ويوضّح المحجة، وما مِن فنّ من فنون العلم إلا وجدت بتونس به قائما، وبها من أهل الرواية والدراية عدد وافر، يجلُو الفخارُ بهم عن محيًّا سافر، وينير علمهم، وقد ألقت ذُكاء يمينها في يد كافر". وهُو لا يجيء في حكمه شيئا إدًّا، إذا عُلم أن عِدةَ رجالِ العلم والأدب التونسيين المذكورين طَيَّ رحلتِه يُربي على غيرهم ممن لقيه في حجازيته كلِّها، فيذكر منهم ستة عشر عَلَمًا ما منهم إلا شهيرُ الذكر، خطير القدر. ولو لم تكن تونس على ما ذكر العبدري، لما أطال بها ابن رشيد السبتي الورود والصدور، حيث ضمّن "ملء العيبة" أسماء الكثير من علمائها.
ويعرِّج أبو البقاء البلوي على تونس في رحلته، فيُقيم بها من (يوم السبت فاتح شعبان عام ٧٣٦ هـ، إلىٍ يوم السبت ١٧ ربيع الثاني عام ٧٣٧ هـ)، فَلا يقَصِّر وصفُه عن وصف قرينَيْه، ويراها جنة حُفتْ من طرقها بالمكاره، وعقيلةً عقَلت قلب الطائع والكاره، فهي الدمية الغراء، والقبة اللعْساء، والخريدة العيناء، تزهى بها المحافل، ويحتقبها الطالع والآفل ...؛ وينشد في مدحها:
لَتُونُسُ تُونِسُ مَن جاءها ... وتُودِعُهُ لوعةً حيث سَارْ
فيغْدُو ولوْ حَلَّ أرضَ العراق ... يحِنّ إليها حنين الحُوَارْ
ويأمُلُ عَوْدا ويشتاقُه ... اشتياقَ الفرزدق عَوْدَ النّوار
ولعل السبب في ابتهاجه بحلول تونس هو ما سيذكرُه بعدُ، وهو أنه ظلّ يلقى أكابر الأولياء، والعلماء الأتقياء، وسيذكر منهم لفيفا مهما.
1 / 22
وهذه النهضة العلمية التي يشيد بها هؤلاء العلماء الرُّحْلة، هي في بعض منها، من ثمار الحظوة التي حازها حملة العلم عند بني حفص، هؤلاء الذين "حرصوا على تشجيع العلماء وتنشيطهم والمساعدة لهم، فأقاموا بذلك على أيديهم دولة باهرة، وحضارة زاهرة". وقد درأت هذه العناية ابن حريز، لينشئ ديوانا في مدح الحفصيين، سماه "مهبّ نواسم المدائح ومصب غمائم المنائح في مدح الخلافة الحفصية"، وصفات الرجل التي خلعها عليه البلوى تمنع مظنة التزلف والانتجاع، فقد كان الرجل كريما يُقصد ولا يقصد، فمدْحُه يصادف محلا:
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ... ما لم يجدوا عنده آثار إحسان
وقد أدرك الفقهاء سطوة لدى الحفصيين، بَلَغَ من قدرها في العهد الحفصي الأول أن كان للفقهاء دورٌ حتى في خلْعِ أو تعْيين الخليفة، "فقد كان لرجال الدولة الحفصية الحظّ الأوفر من نصرة الحق وإعانة القضاة على إجرائه، فوسَّعوا للقاضي في السلطة والنفوذ، وأعانوه على المباشَرة، ومكَّنوه حتى من أنفسهم وبنيهم"؛ مِن ذلك ما حُكي عن أبي محمد المرجاني (ت ٦٩٩ هـ)، وذلك أنه لما مرض أبو حفص عمر، عُهد بالملك لولده عبد الله، فتحدث الموحدون والفقهاء والقاضي مع المرجاني المذكور، تحدثوا معه في أن الولد صغير، واتفق رأيهم على أبي عبد الله المعروف بأبي عصيدة، ابن الواثق بالله بن المستنصر.
ولم يكن يمتنع عن الفقهاء والقضاة في إجراء الأحكام الأمراءُ فمَنْ دونَهم، فمن ذلك أن أبا عبد الله المعروف بأبي ضربة، لما فَرَّ والدُه وبويع هو إنما أُخْرج من السجن بعد أن كان مثقَّفًا على يد قاضى الوقت أبي إسحق بن عبد الرفيع (ت ٧٣٣ هـ)، بسبب جناية.
1 / 23
وأكبرُ أولاد أبي بكر الأمير الحفصي، حدثَتْه نفسه بأن يطلب الملك لنفسه، فحال بينه وبين ذلك القاضي أبو علي عمر بن عبد الرفيع (ت ٧٦٦ هـ).
وفيما يتلو عروجٌ على مساهمات أعلام السلطنة الحفصية في الأنشطة العلمية وإقامتهم لصروح العلم، وبعثهم للمنتديات البحثية الرصينة.
- أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي (٦٠٣ - ٦١٨):
كان عالما فاضلا خَيِّرًا فطنا؛ فمِن إدراكه ما حكاه كاتبه ابنُ نَخِيل عنه، قال: دخل عليه الفقيه أبو محمد عبد السلام البُرْجِيني من تلامذة الإمام المازري، وكان تحت جَفْوَةٍ منه، فقال الشيخ: كيف حالك يا فقيه أبا محمد عبد السلام؟ فقال: في عبادة. فقال له الشيخ: نُعَوِّضُ صبرَك إن شاء الله بالشكر. قال ابن نخيل: فسألت الشيخَ عن المراد: فقال: أراد قولَ رسول الله ﷺ: "انتِظَارُ الفَرَجِ بِالصبْرِ عِبَادَة".
- أبو زكرياء يحيى الأول، بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص (خلافته:٦٢٥ هـ - ٦٤٧ هـ):
وهو الباني للمدرسة الشَّمَّاعية، وزوجته عَطْف، هي مُنشئة المدرسة التوفيقية، سنة ٦٣٩ هـ وهي المسمّاة اليوم، بمدرسة جامع الهواء، وقد أحدثتْ معها جامع التوفيق، ونظمت بها دروسا، وجعلتْ لإقامةِ ذلك أوقافًا واسعة.
1 / 24
وقد كان مجلس أبي زكريا قبلة للعلماء والأدباء، بل لقد كان هو نفسُه معدودا في العلماء والأدباء والشعراء والنبلاء؛ يجالسُهم ويشاركهم، وله شعر؛ فمِنه ما كان سببُه أن الأمير استدعى جماعة من خواصِّه وشعرائه لنزهة في رِياضه المسمى بأبي فِهْر، فنظموا في وصفه قصائدَ رفعوها إلى الأمير، فأجابهم بأبيات تتضمن تفضيل شعر أبي عمرو ابن عربية على شعر جميع من حضرها وفيهم ابن الأبار وغيره، وأبيات أبي زكرياء: [طويل]
ألا إنّ مضمارَ القريض لَمُمْتدُّ ... بِهِ شُعَرَاءُ السبْقِ أربعةٌ لُدُّ
فأما المجلِّي فهْو شاعرُ جَمّة ... أتى أولا والناس كلَهمُ بعدُ
وأما المصلى فهو حبْر قضاعة ... بآدابه تزهو الإمارة والمجد
في أبيات أخر.
وقد أَخَذَ عن الشيخ الفقيه المقرئ أبي عبد الله محمد بن عبد الجبار الرُّعَيْني السّوسي (ت ٦٦٢ هـ)، ختم عليه المستصفى للغزالي وغيره. وتتلمذ أيضا لأبي الحجاج يوسف بن محمد بن إبراهيم الأنصاري البَيَّاسِي (ت ٦٥٣ هـ)، حيث جَمَعَ له أحاديث "المستصفى" واستخرجها من الأمهات ونَبَّهَ على الصحيح منها والسقيم؛ وبرسمه ألّف كتاب "الإعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام".
1 / 25
وقد كان يستدعى إليه العلماء، كما فعل مع أبي العباس الْمَلْتَاني (ت ٦٤٤ هـ)؛ وهذا الأمير هو الذي هرع إليه ابن الأبار -الذي سَيَلِي له العلامةَ فيما بعد- سفيرًا لابن مرْدَنِيش، يستفْتِحُ به ويستصْرخُه، لرتق ما انخرق من حُلَّة الوجود الإسلامي بالأندلس، إذْ أنشد بين يديه سينيته المبكية التي ولع بها المتأدبون -والتي لا تضارعها إلا نونية الرندي-:
أَدْرِكْ بخَيْلِك خيل الله أَنْدَلُسا ... إنَّ السبيلَ إلى مَنْجَاتِهَا دَرَسَا
ويجمُل ذِكرُ أنه قد استُصرخ بقصيد آخر لم ينسبْه المقري -مرعىً ولا كالسعدان! - طالِعَته:
نادتْك أندلسٌ فلب نداءَها ... واجْعَلْ طواغيتَ الصَّلِيبِ فِدَاءَها
وناهيك برجلٍ يهْتَبِلُ بالأصول العلمية، فيفتشُ عنها ويتطلّبُها تطلب الصادي للماء القراح، حتى لقد سمع بنسخة من "فصيح" ثعلب بخط اللغوي أبي إسحق إبراهيم بن الأجدابي بيعت بطرابلس، فَبَرَدَ بريدا إليها في البحث عنه، فبُحث عنه ووجِّه به إليه؛ وسمع كرةً أخرى بوجود نسخة من "أمثلة الغريب" لأبي الحسن الهنائي المعروف بكُرَاعِ النمل بخط الأجدابي المذكور، فوجه إليها بطرابلس. وقد خلَّف من الكتب ستة وثلاثين ألف مجلّد.
وهو من الحفصيين الذين شجعوا العلماء على التصنيف في مختلف مجالات العلم حتى الطب، فهذا أحمد بن محمد، ابن الحشَّا، الطبيب التونسي (من رجال ق ٧ هـ)
1 / 26
ألّف بطلب من أبى زكريا معجما في الطب سماه "مفيد العلوم ومبيد الهموم".
ويرفِّع ابن سعيد في "المغرب" بتونس في عهده فيقول: "ومدينة تونس بإفريقية قد انتقلت إليها السعادة التي كانت في مراكش بسلطان إفريقية الآن أبي زكرياء يحيى بن أبى محمد ... وعُرَفَاءِ صنَّاعه من الأندلس ... ووجوهُ صنائع دولته لا تجدُهم إلا من الأندلس".
ويبدو أن وَلَدَهُ كان لاحقا لشأوه، فقد حاز مِدَحَ ابن عربية، وله ألف "الروضة الريَّا في امتداح الأمير أبي يحيى".
- أبو عبد الله المستنصر (خلافته: ٦٤٧ هـ - ٦٧٥ هـ):
عالم متمكن عظيمُ الشأن في ملوك بني حفص، لِما اجتمع بحضرته من أعلام الناس الوافدين على أبيه، وخصوصا الأندلس، من شاعر مُفْلِقٍ، وكاتب بليغ، وعالم نِحْرير، وملك أرْوَع، وشجاع أهْيَس، متفيّئين ظلَّ ملكه، مُتَنَاغين في اللياذ به لِطُمُوسِ معالم الخلافة شرقا وغربا على عهده، وخُفُوتِ صوت الملك إلا في إيوانه. ومن تقديره للعلماء وزكانته في انتقائهم لِمَا أهمَّه أنه عهد إلى أبي موسى عمران ابن مَعْمَر المتضلع في المذهب بمنصب قاضي تونس، وقرَّب أبا العباس اللُّلِيَاني -وهو ممن عكف على دراسة المدونة-، ووجَّه ممن حاضرة تونس إلى أبي محمد عبد الحميد ابن أبي الدُّنْيا الطرابلسي، الذي شَيَّدَ بعدُ -باسمه- مدرسةً بطرابلس
1 / 27
سماها المدرسة المستنصرية، ثم ولى له قضاء الجماعة والأنكحة والخطابة بالجامع الأعظم.
وقد عُرف عنه تقريبُه للعلماء والأدباء، يجالس طلبة العلم ويشاركهم أحسن مشاركة من غير مُمَارَاة، ولا إظهارِ إِيَّالة على أحدٍ منهم؛ فمِمَّن حظي عنده ونفقت سوقُه لديه: أبو المطرف ابن عميرة المخزومي (ت ٦٥٨ هـ)؛ وأبو العباس أحمد بن إبراهيم الغساني (ت ٦٦٨ هـ)، الذي جَلَّ عنده حتى بلغ الغاية لأنه كان من ظرفاء الأدباء. وابن الأبار القضاعي الذي استدعاه المستنصر فكان أول إنشاده لما مَثُلَ بين يديه:
بُشْرَايَ بَاشَرْتُ الهدَى وَالنُّورَا ... فِي قَصْدِيَ المسْتَنْصِرَ المنصُورَا
وإذا أميرُ المومنين لقيته ... لم ألق إلا نضْرة وسرورا
واستدعى إليه أبا بكر ابن سيّد الناس لما اشتهر حاله، ونقل الناقلون ذَكاءه وفهمَه؛ ولم يكن ينمي إلى خبره جوازُ عالم لبلدِه إلا استدعاه، كما فعل مع أبي على الحسن بن موسى بن معمر الهواري الطرابلسي وأبي العباس الجدلي الشريف
1 / 28