وبلغت الأندلس لهذا العهد من خمول الأمر واختلال السيرة وتشذيب الحامية التي لا فوقها، فحضر مدعى وليمة الدائل بها لأول ولايته، رجْل الدَّبا، فالتهم الخلا والكلا، وأعدم بإعدام الغلة أسباب الرخا، وفتح أبواب البلا، وموَّه لأول أمره ببث النَّهْي عن المنكر الذي هو جُرثومته العظمى، وتصاريفه غايته القصوى، وسمح ببعض المكوس فأعطى قليلًا ثم أكدى، ولم تمر الأيام إلا وقد عاد في قيئه وأضاق الرعايا بشؤمه وكلفهم ارتباط الأفراس بعد إغرامهم أرزاق جنده، وإنزال دورهم بغرباء ديوانه، وانحطَّ في مهاوي الشمَّات برتبة الأمر، وأنقص من منصب المُلك فقعد للعرض وقد حُشِر الناسُ ضُحىً في موقف أجلس معه بسريره بعض السُّوَقٍ عاري الرأس، مُثلةٌ من مُثَلِ الخلْق، غير مقصر في مخاطبة من مرَّ به عن غاية الإفحاش والتبجح بمعرفة الهنات، فلقد حدَّث صاحب شرطته، وهو لا بأس به، قال أطريته باجتناب الناسِ الخمر في أيامه، وتحت استداده، وطهارة بلده من قاذوراتها، فقال لي في الملأ المشهود، والحشيش كيف حالها؟ قلت ما عثرت على شيء منه. فقال هيهات، أنزل إلى بيت فلان وفلان وفلان، وعدَّ كثيرًا من الساسة والأوغاد والصفاعين، رسم مكامِنَهُم وينسبهم نسبة الأصمعي أفخاذ العرب وبطونها، ويصف الناصح والغاش منهم بصفته، وربما دعا بعض مشيختهم بالعمومة. قال وانصرفت إلى ما ذكر فوالله ما أخطأت شيئًا مما رسمه، ولا فقدت شيئًا مما ذكره لغشيانه بيوتهم وانخراطه في جملة منتابيهم، يقول فهو والله أستاذي في الشرطة! وساءت محاولته طاغية الروم فتمرّس به وآثر الحِرَان في معتاد أغراضه لفساد ما بينه وبين عدو برشلونة وأعطاه الضمة. فعند فراغه من صلاح ذات بينهما، فغر عليه فاه، وشمَّر لمطالبته. وخَشُنَ ما بينه وبين الملك المريني فئة الإسلام التي إليها تحيز لاغتراره بمن في اعتقاله من قرابته المُغْرِي بهم لسان الإرجاف. فرجَعَت الرُّسل من قِبَلِه خُيَّبَ اللُّبَانَات من بابه، مودعةً من نجوى المسلمين واستعداد الصالحين ما يوجب الاهتزاز ويحرك الامتعاض، ناقلةً من غريب شكله في كثرة التفاته، وجفاف ريقه، وعُرْيِ رأسه، وسخافة عقله، غرائبَ تُؤْنَسُ بها الأسمار وتُوَشَّحُ الفكاهات.
وألَحَّ سلطان قشتالة في تسليم السلطان أبي عبد الله إليه ليتولى شد أزره ويجتهد في جبر حاله، وألقيت إليه المعاذير فنبا عنها سمعه، ورقَّق - عن غرضه - في رفع السلَّم عند إخفاق مطلبه، ولم يقبل العوض من ضروب ملاطفته، فترجح الرأي على توجيهه إلى الأندلس.
وقد كان الأسطول تألف بفرضة المجاز من سبتة مُوَرِّيًا بجهاد من ظَهَر به من عدو برشلونة. ووصلت أساطيل الروم المسخرة في غرض إجازته قد أركبها مَلِكُ النصارى وجوه خدامه، فقعد السلطان أمير المسلمين بالمغرب في قبة العرض المُتَّخَذَة بجنَّة المصارة، ووقع البريح ببروز الناس إلى الفضاء الأفْيَح، واستُحْضِرَتُ البنود والطبول وأوعية المال صبيحة يوم السبت السابع عشر من شهر شوال من عام التاريخ.
واستُحضر السلطان فصعد إلى القبة ثم نزل وقد أُلْبِس خلعةً الملك، وقيدت له فرس شقراء مطَهَّمَة، حليها ذهبٌ بحث، ونشرت حوله الألوية، وقرعت الطبول وركب السلطان مُشَيِّعًا إياه غَلْوَة، ثم انصرف عنه وقد التفَّ عليه كلُّ من جلى عن الأندلس من لَدُنِ الكائنة الواقعة بها في جملة كثيفة، وبُلِيَ من رقة الناس وإجهاشهم وعُلو أصواتهم بالدعاء ما قدم به العهد، إذ كان مظنة ذلك سكونًا وعفافًا وقربًا قد ظلله الله برواق الرحمة، وعطف عليه وشائج المحبة إلى كونه مظلوم العهد منتزع الحق، فتبعته الخواطر، وحميت له الأنفاس واللهُ يُعَرِّفُه عوارف عنايته، ويلحظه بعين رحمته.
واسْتُدعِي عقب انصرافه الأمير المعين شجًا في نحر عدو الدولة المرينية على هذا العهد أبو زيان محمد بن عثمان بن عبيد الرحمان بن يحيى بن يغمراسن ابن زيان، فأجرى على الرسم من البنود والطبول والخلع وأتبع من بالباب السلطاني من قبيله، فاضطرب المحلة بخولان من شط وادي سبو، ورفل الملك المريني في هذا اليوم الأغر في حلة عز تندى جِدَّةً وفخرًا مذخورًا ليومه طار شُهرة، والله المسؤول في تمام النِعَم وتحسين العواقب لا إله إلا هو.
بعض مؤلفات ابن الخطيب في المغرب
1 / 51