ومن الغد كان التوجه إلى ذلك المحل المبارك، فاقتحمنا وعرًا نزل فيه الذُّر، ولا يسلكه مع الحلم الطيف. وتسنَّمنا شعابًا تعجز عنها العُصْم، وتجاوزنا مهاوي مدت فيها أسراط من الخشب ترتفع عند الضرورة الفادحة، فتقطع عمن وراءها الآمال، إلى أن أفضينا ولم نكد إلى المحل المقصود وهي دار قوراء نبيهة البنية بالنسبة إلى جنسها ... ساذجة بادية ملطخة الجدران بالطين الأحمر، متقابلة الأشكال بيوتها، لاطية السقف غير مهذبة الخشب، بأعلاها غرف من جنسها، يدور بداخلها برطال مستعمل على أرجل متخذة من اللبن، والحجر مُلبَّس بالطين، والبيت حيث متوفى السلطان مفترش بالحصباء، وقد ترك فيه دائرة كالقصعة تباشر الثرى، وتمكن من تربته من يقصد شفاء المرضى وكحل العيون المرهى، إذ كان ﵀ آخر ملوك العدل نشأة، لم تعرف الخبائث، ولا آثرت الملاذ، مُغْنِيًا في بِرِّ والديه مصرِّفًا في انتساخ الذكر الحكيم يمني يديه، محافظًا على الصلاة قيُّومًا عليها بالليل، كثير الصدقة والصوم، مجالسًا للعلماء، مستكشفًا أحوال الرعايا، حانيًا على الضعفاء، معملًا في سبيل الله بيض الظُبا، صابرًا على اللأواء، محتسبًا في البلوى، مستشعرًا شعار التقوى، ألحقه الله بالرفيق الأعلى. وبإِزائه مصراع باب عسلت عليه جثته الزكية، لا تتمالك العين أن تنتثر سلوك دموعها، ولا القلوب أن تأخذ الحسرة بكظمها، لما عضَّ ذلك الملك الحُلاحِل من الخطب الذي عوضه من نضرة النعيم، ووجوه الغَرانِقَة الغر، والتوكؤ على النمارق المصفوفة، والزرابي المبثوثة، في المتبوأ الكريم، واستنقال طلعة البدر، واستجفاء هبّة النسيم بقنن الجبال الغُبْر، وسكنى المحل الخشن، ومفارقة الأهل والولد عند فراق الروح للجسد. جعلنا الله من الدنيا على حذر وتَوَقِّ، وكتبنا ممن قدر قدره، ولم يأمن مكره. فقعدنا وقرأنا وأفضنا في الترحم ودعونا.
وكان الانصراف بعد أن ألممنا في تلك المحلة بمسجد إمامهم المهدي ودار سكناه، وأثر مدرسته وسجنه، كل ذلك من الخمول واللطو واستهجان الآلة على حال شبيهة بمباني الدَّبْر، وقرى النمل، وأعشاش الخُشاش من الطير. فعجبنا من مفتاح تلك الدُّوَيْرة المهتضمة، كيف تملك من القصور العظيمة ما إنّ مفاتِحَه لتَنُوا بالعُصْبَة أولِي القوة؛ ولمنبر ذلك المسجد كيف أخذ على كونه قمئ الجلسة، مصاحبًا لبعض القشر، بريًا من الصنعة بأزمَّة المنابر المتخذة من الألُوَّة والصندل المقاصري في لونيه، والأبنوس الحبشي، وأنياب الفيول، وأرعاها بعُصيَّاه، واستاقها بين يدي طاعته كالذَّوْد الشائل والسائمة الواردة ما بين قُرُطبَة وأشبيليَّة وغَرناطة وإفريقيَّة والمغرب، سُنَّة الله في إدالة الدول، وتعقيب النِحَل، ألم تر [أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده] .
وانحدرنا عن ذلك المرفق فأسْهَلْنا ببطن الوادي، وأرحنا بجلسة مُوَطَّاة، مُعَدَّة لاستجمام السلطان ﵀، قد ظللتها الأشجار، تجري تحتها عين خرَّارة كأعظم الأنهار فوق حَصىً كدُرِّ النحور، القريبة العهد بلجج البحور، أو كثنايا الحور. تركت في تلك الجلسة أثقاب وخُروت تفضي إليه، يُجعَل الجعائل على إمساك اليد بها برهة معتبرة، يفتَضح متعاطي ذلك لخَصَرِها وما يؤثّر البرد الشديد في حسِّ عصبها. وجُلب إلى ذلك المكان من الطعام والفاكهة والشهد ما يحار فيه الوصف.
ثم انتقلنا إلى محل النزول، ومثوى الكرامة من المضارب، ودعينا إلى الدور حيث سكنى أولئك الأشراف، يغمرنا بكل دار منها من الأطعمة ما يحار فيه الفكر ولا تنال منه إلا العين. وتشاهد من أجناس الفرش المرفوعة والمراتب المقدرة، والستُر الديباجية المسدولة على الأرائك الممهدة، والسيوف المعلقة، تتخللها العِدَّة من أصْونة مُدمِجِ القرآن وصحيح الحديث ساكنة في جفون منقوشة محلاة بالإبريز، مُقلَّدة بمحامل الحرير النسيج.
وعند الانصراف إلى المضارب، أقبلت التحف والهدايا من المقرَّبات الكاملة تختال في الحلية، والكسا الرفيعة طيّ الأوعية الرقيمة، فعجز الشكر وبان التقصير.
ثم غمر الطعام وتخلف الشيخ عن المجالسة والمؤاكلة معتذرًا عنه بألم مانع نغص لدينا النعيم، وكدر الشِّرْب تطيرًا من وداعنا إياه حلْسَ فراش أو رهين شكاية. ثم) أنه حَدْسُنَا أنه آلمُ الحُسَبَاء (وتَذكرنا قول الأول:
1 / 3