كالسلطان فيرفض النهوض والخروج منها، ويسأل: مولاي! أتريد السلم مع سيدك وسيدي القمص يوحنا؟ - لقد عاش آبائي في سلم مع هذا القسيس. - لا تدعه قسيسا، وإنما ادعه ب «سيدي».
ويكرر هذا الأمر ثلاث مرات، فيقول السلطان بتأن: «أريد السلم مع سيدي القمص يوحنا.»
وهنالك سلم الحبشي إلى سلطان مصر قوسا وستة سهام من ذهب وقال: أصبت إذ قلت سيدي، فحياتك وموتك بين يديه، وأنت تعرف السبب، فالنيل يأتي من بلدنا، ولو أراد سيدي لقطع الماء وأماتكم جميعكم جوعا.
السلطان: «ذلك حق.»
ويفسر المؤرخ جبن ذلك الإكراه بجهل الترك وحيل الأقباط وخيلاء الأحباش.
وحاول نصراني من الغرب أن يجعل من تلك الأسطورة حقيقة، ففي سنة 1500 كان ألفونسو دو آلبوكرك البرتغالي، الذي جعل منه رجل عظيم، نائبا للملك في الهند، فأراد أن ينزع من السلطان طرقه التجارية وإهلاك مصر فاعتمد على القمص يوحنا وسعى في تحويل النيل الأزرق إلى البحر الأحمر، فلم يحبط عمله - كما روى ابنه - إلا لعدم وجود عمال ماهرين، «وإلا كان يمكنه أن يخرق تلا، فتموت مصر عطشا.»
والآن أيضا؛ أي بعد أربعمائة سنة أو تزيد، وضع من الكتب الحديثة ما عد به تحقيق ذلك المشروع أمرا ممكنا، ومع ذلك يجب على جميع العالم أن يعلم أن أهم ما يأتي به النيل الأزرق لا يأتي من مجرى يمكن تحويله، بل من مئات السيول التي يتعذر ضبطها من بعيد، وما في النيل الأزرق من مخاطر ومنافع فقد حمل على قياس جريانه وحسابه قبل أن يصنع مثل ذلك عن النيل الأبيض. وقد عني بالأمر سنة 1930، وسيعنى به في المستقبل لا ريب.
ووضعت مشاريع سد لبحيرة طانة منذ ثلاثين سنة خلت، ولن تكره الحبشة على منح امتيازات ما دامت مستقلة وما دام الرق يغنيها عن كل قرض من الخارج. وهذا ما جعل من غارستن - الذي تتخذ حساباته عن النيل أساسا رئيسا لجميع مسائل الري - عاملا في اتفاق إنكلترة والنجاشي يعاهد به هذا الأخير على عدم القيام بأعمال في الأباي الأعلى، وعلى عدم السماح لأحد بصنع ذلك من غير أن توافق عليه إنكلترة ومصر مقدما. وقد اعترفت إيطالية في سنة 1919 وسنة 1925 بمركز إنكلترة الممتاز في مقابل ضمان القسم الغربي من الحبشة عند إنشاء مثل ذلك السد، وقد وقع هذا باسم «مناطق النفوذ» التي هي شكل عصري للفتح الاستعماري. وما فتئت فرنسة تثير ريب نجاشي الحبشة، ثم غيرت فرنسة سياستها في صيف سنة 1935.
وفي سنة 1927 عرضت إنكلترة على الأحباش ما هو ضروري من النقود لإنشاء سد مؤد إلى زيادة ري زراعة قطنها السوداني، ويولي النجاشي وجهه شطر الأمريكيين، ويسفر هذا عن وضع مشروع سد من قبل شركة في نيويورك، وتخشى إنكلترة أن يكون للأموال الأمريكية ومصالح ملوك القطن الأمريكيين تأثير في مجرى النيل ففضلت الاتفاق مع منافسيها هؤلاء، ثم حدثت الأزمة العالمية فوقف كل شيء.
ويثير سد بحيرة طانة - وهو سيقام ذات يوم - حسد الدول العظمى، ويقاومه أحباش أديس أبيبا لما يوجبه من دخول الأجانب في البلاد، ولما يجهل به وقت خروجهم منها، ويزعم سكان شواطئ بحيرة طانة - بوحي من قسوسهم - أن الأجانب الآتين من أجل المشاريع يريدون إقامة سد يبلغ ارتفاعه مائة متر فيؤدي إلى هدم كنائسهم وإلى تحويل الأباي، وأن الأجانب كانوا قد سموا بحيرة طانة، والمصريون وحدهم - وهم الذين أهمتهم الحبشة في عهد السلاطين - لم يكترثوا لذلك، فهم يعلمون في الوقت الحاضر أن ثلاثة في المائة من الفيضان يصل إلى مصر من بحيرة طانة، وأن ذلك السد لا يحرمهم ماء، ولا غرينا يقوم عليه عيشهم، وأن الغرين لا يأتي من هذه البحيرة، وأن ذلك السد يحفظ - بالعكس - ثلاثة مليارات متر مكعب من الماء لمصر والسودان عند الجفاف، وأنه يحفظ هذا المقدار للسودان وجزيرته وحدهما بعد إنشاء مصر لجميع أسداد النيل الأبيض. وفي هذه الحال - وفيما خلا الشتاء وقت الفيضان - يكون النيل الأزرق سودانيا صرفا ويكون النيل الأبيض مصريا خالصا.
Bog aan la aqoon