وتصدر أفريقية في الوقت الحاضر عاجا ثمنه مليون جنيه، وليس ملك النيل الأعلى الزنجي الذي يملك ألف عاج أحسن وضعا من مدير أحد المصانع بلندن الذي لم ير النيل قط والذي يريكم - وهو جالس على كرسيه، وبما لديه من قوائم - أنه يملك في مخزنه ثلاثين ألف كرة بليار منوعة، وقد أهلك ثلاثة آلاف فيل لنيل ذلك، وكل فيل من هذه الفيول أجمل وأقوى من المدير ذلك!
الفصل السادس
يتحول صيد الفيل إلى صيد الإنسان، وما كان تاريخ النيل الحديث ونشوء السودان، كما عينتهما تجارة الرقيق، ليبدوا بحالهما المعروفة لولا اختراع البليار، ومن الآدميين ألوف كانوا يقضون حياة فردوسية فغدوا أسارى - أو خصيانا - لدى أناس آخرين؛ وذلك لأن رجلين من أبناء الطبقة الوسطى ذوي قنان كانا يحتاجان إلى ثلاث كرات على بساط أخضر.
وفي بدء الأمر يعن لتاجر عبقري أن يقايض بلؤلؤ زجاجي، ويفتن السوداني فيعطيه عاج فيل في مقابل خمسة لآلئ كبيرة، وهل كان هذا غشا؟ وهل كانت اللآلئ التي تساوي عشرة دوانق أقل جمالا من اللآلئ الحقيقية التي كانت تساوي مائة جنيه؟ أفلم تكن قيمة كرة البليار أمرا خياليا ما صار تقليدها في الحال ممكنا كما قلدت الدرر؟ وهل روعة الألماس أم ندرته هي التي تقرر قيمته؟ تجد من الحجارة العادية اللطيفة ما هو أكثر تأثيرا في النفوس من الألماس. ومما يلاحظ ما يكون للدرر من قيمة تابعة للهوى عندما تقوم سيدات لابسات قلائد من لآلئ ملونة بحركات موزونة كالرقصات الزنجية.
إذن، لم يكن الزنجي أضحوكة، وإنما كان مختبرا، وقد بهره التماع الحجارة والبزوز
1
الكثيرة الألوان التي كان يسحره بها عربي مكار فيطلب الزيادة، وتنتبه فيه روح المقايضة، ويكون هذا آية طرده من الجنة، ويقابل بين كنزه ودرر جاره، ويظل ساعات أمام صناديق التاجر، ويقلب بين أصابعه هذا النسيج، أو ذلك النسيج، الرائع الذي يقدم على سرقته لو كان التاجر أعزل من السلاح، ولا مناص له من اشترائه، ولكن بأي شيء؟ عاد غير ذي عاج، ويجب أن يمضي وقت كبير حتى ينظم موكب صيد جديدا لينال أربعة أنياب أو ستة أنياب من الأفيال، والموسم كان موسم أمطار، ومياه النيل كانت مرتفعة، وسواعد النيل كانت تعوق الصيد، وماذا يستطيع أن يقدم إلى هذا الباشا الكبير وهو رئيس قبيلة زنجية فقير لا يملك غير أنعام وعبيد؟
وهل يضارب التاجر على بضعة عبيد؟ ويومئ التاجر برأسه، وهذا ما كان ينتظره، أفلم يسلم أجداده، في قرن، سود الحبشة إلى العرب العطاش إلى العبيد على الدوام ويغتنوا؟ وتلك الفكرة رائعة إذن، وفي ذلك البلد الذي لا يعرف حقا ولا رقابة يمكن التاجر المسلح ببنادقه أن ينال في مقابل لآلئه وبزوزه أرباحا من الرقيق لا توجب ارتفاعا في أسعار العاج.
وكانت الفكرة جديدة لدى رئيس القبيلة، وكان يقتصر حتى ذلك الحين على اغتصاب الناس - ولا سيما النساء - من القبائل المغلوبة حربا لاستخدامهم في أعمال الحقول، وكان ذلك ثمنا للنصر، بيد أن تجارة الرقيق التي كانت تزاول في سواحل غرب أفريقية مما لم تعرفه شواطئ النيل، ويقبل عليها في هذه الشواطئ بعدئذ، ولا تعارض، وينتشر هذا الجور بمثل السرعة التي يعم بها حريق في السهب، ورئيس آخر كان محتاجا إلى ثلاثين امرأة للقيام بأمور الزراعة وإلى ثلاثين راعيا، ولكنه كان لا يريد الحرب عن خوف، أو عن بلادة، أو عن شيبة، ويبصر بضع مئات من الآدميين مزروبين في حظيرة صديقه العربي فيعرض عليه عاج فيل في مقابل ثلاثة عبيد.
والمعاوضة في القرن التاسع عشر، وبوجوهها المتقلبة التي يحبها الشرقي، حولت تاجر العاج إلى تاجر رقيق ثم إلى صائد رقيق ليعود تاجر عاج. وهكذا وقع سباق بين صيد الإنسان وصيد الفيل في النيل الأعلى، وكان يقيم بالخرطوم تجار من العرب، فعقد هؤلاء التجار معاهدات مع رؤساء القبائل مستفيدين من تنافسهم وصاروا يشترون أناسا من رعاياهم سالكين مثل السبيل التي سلكتها إنكلترة في سواء ألمانية في القرن الثامن عشر. ويا لها من ممكنات تصدر عن نفوس مبدعة لا ضمير لها! ووجد أحد هؤلاء طريق بحر الغزال المارة من المناقع فاكتشف هنالك قوما مجهولين فقبض عليهم وباعهم حائزا شرف رائد وشرف ممثل للحضارة! وغدا شرق أفريقية «دار الرق» أيضا، ولولا الطمع في العاج ما أقدم تاجر على السير حتى الدرجة الثالثة من العرض الشمالي، وما اقتحم مخاطر النيل وعانى أهوال الزنوج.
Bog aan la aqoon